التخطي إلى المحتوى الرئيسي

بوكر ومغامرات السرد العربي الجديد !

أيهما أفصح.. النص أم الواقع؟!

عماد البليك:  يرى بعض النقاد الأدبيين أن القائمة القصيرة لجائزة بوكر الأدبية العربية في فن الرواية، جاءت هذه السنة مفاجئة للكثيرين وأنها استبعدت كتابا كبار تآلف معهم القراء لزمن طويل على أنهم أساطير وعمالقة في الإبداع الروائي، أمثال واسيني الأعرج مثلا. وهو ما يفتح السؤال حول الدور الذي تلبه البوكر في تشكيل المشهد الروائي العربي في السنوات المقبلة.

في حين ترى اللجنة التي قامت على عملية الفرز أنها اختارت نصوصا جديدة قائمة على نوع جديد من التخييل الذي يعيد إنتاج الواقع وفق آليات غير تقليدية.. ويتم الحديث عن تجاوز ما يسمى بالمرحلة المحفوظية.. نسبة إلى نجيب محفوظ.. في حين أطلق الناقد والمؤرخ السردي الدكتور عبد الله إبراهيم أحد أعضاء اللجنة مصطلحا جدير بالانتباه وهو "الفصاحة الجديدة" التي ليست هي مجرد لغة بل اشتغال كبير على الشكل والمضمون في تجاورهما مع الأسئلة الأكثر عمقا وإرباكا في الواقع العربي المعاصر.
ثمة اتهامات توجه للبوكر سنويا عن تحيزها الجغرافي أو أن لجانها ليست بذات المستوى الذي يؤهلها للحل والفصل في الأمر الروائي.. أي أنها ليست ذات تخصصية والمسألة نفسها تم تداولها هذه السنة فقد اتهمت الكاتبة السعودية بدرية البشر التي تم استبعاد روايتها في القائمة القصيرة، رئيس اللجنة السعودي الدكتور سعد البازعي، بأنه لا يقرأ الروايات ورد عليها. كما جرى الاتهام بخصوص القائمة التي جاءت باثنين من المغرب واثنين من العراق وواحد من سوريا وآخر من مصر، على أنها قائمة تشير إلى الخارطة الكلاسيكية لمناطق الإبداع في العالم العربي. وهناك من قال بأن البوكر ما كانت لتجد الاهتمام لو أنها لم تأت من الخارج. أي أنها ليست بالجائزة العربية البحتة مائة بالمائة.
تتعدد الأقوال.. ليبقى أمر واحد أن الجائزة أحدثت حراكا صحيا في العالم العربي والإبداع الروائي الذي بات ديوان العرب. بحيث أن الرواية اكتسبت فعلا شعبية واسعة وأصبحت أقرب إلى الذهن الجمعي، وذلك لأسباب عديدة أهمها قدرتها على استنطاق الواقع بابتكار عوالم بديلة يمكن أن يجد فيها الإنسان متكأ بعيدا عن أضغاث الحياة المعاصرة وأناتها المتكررة يوميا.. ذلك الواقع الذي بات مضرسا بالأزمات والمشاكل اللامتناهية.
إن الحديث عن الرواية أو السرد، يبدو أمرا معقدا.. حيث من الصعب الوصول إلى نقاط اتفاق بعينها.. حتى لو على مستوى الأبجديات كالحبكة والشخصيات والوصف.. وغيرها من مشكلات النص الروائي.. لكن يبقى ثمة تيار عام يمكن الانتباه له والتأصيل لولادته وهو تلك الحساسية الجديدة التي تقوم على إزاحة المناطق التقليدية في الوعي برد الاعتبار للذات والكينونة العارفة وهي ذات المتلقي الذي يكون ممكنا له أن يعي بشكل أوضح وأكبر وأن يصبح مشاركا في إنتاج النص لا مجرد متلق.
ما حدث هذه السنة في البوكر العربية كان مختلفا عن سابق الأعوام بحيث رتب أولويات السرد وفق مفاهيم ومنطق جديد يقوم على موازاة للواقع بشكل ملحوظ.. الحياة التي تتماثل للانطواء داخل مساحات الألم والعذابات والتيه وضلالات الإنسانية.. الأوجاع التي لا تنتهي.. والموت المجاني الذي يطارد الملايين في هذه الجغرافية التي بات لونها الأحمر. هذه الموازاة التي أحدثت في الوقت نفسه آليات واشتغالات جديدة في السرد وطريقة البناء الروائي وإعادة إنتاج الشخصيات بطريقة غير روتينية وجعل الفانتازيا تتماحك مع المرئي والمعاش بوصفها جزءا منه. فالواقع الذي نحياه اليوم هو واقع متخيل أقرب لكونه حقيقي وماثل للعيان.. كما أن الحياة الجديدة باتت عسيرة الفهم وتشعبت بحيث يمكن القول إن السرد المسطح التقليدي لم يعد قادرا على الاستجابة لرهان الإبداعية والخلاقية والفصاحة.
ليس مطلوبا من الأدب أن يكون مرآة مباشرة للواقع.. لكن محمدة له أن يكون إشارة لاستعارات المعاش والمرئي من حيث الاقتراب من روح الكائن ومآلاته وهو ما اعتقد أن التفكير النقدي العام يتجه نحوه.. هذا يعني أن التجارب الروائية في حد ذاتها قد لا تكون بالقدر نفسه من الاستجابة للسؤال والإجابة عليه، لكنها بمساحة لا بأس بها من حيث التقاطع مع الراهن ومحاولة تبسيطه ونقله إلى مساحة جديدة في المخيال الجمعي. وهي بدايات تفتح الأمل نحو المزيد من التجارب الأكثر رسوخا وعمقا في الرؤية والدلالات والإنجاز بما يحمل المشهد الروائي العربي إلى المزيد من المغامرات الجريئة.
نشرت بالملحق الثقافي للشرق القطرية 10 مارس 2014

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

راما رواية البليك تغوص في أسرار الخلود وتتجاوز قواعد السرد

  في طفولتها البعيدة وهي تلعب بين مزارع الفول والفاصوليا وتسبح أحياناً مع البنات في النهر ساعة الفيضان، لم تكن خالدة تتخيل شكل مستقبلها، توفى معظم من تعرفهم ويعرفونها، كانت تحب فصل الشتاء لأنه يسمح لها بالاختباء تحت غطاء اللحاف، لتحلم، كانت طفولتها وشبابها مليئة بالفوضى فهي بنت الجزار الذي في لمحة بصر ومحض الصدفة تحول ضمن الحرس لشخصي لوزير مهم، هي بنت المرأة الطيبة القادمة من رحم الرق والبؤس، جد كان شحاذاً وتفاصيل مربكة استمرت إلى أن وجدت راجا الهندي الطيب تاجر المجوهرات، تكتمل الفرحة بميلاد الطفلة راما، الاسم المقتبس من الخلود بقداسته وأسراره. حياتها الجديدة لم تنسها ماضيها حكايات الخالة الصحفية المناضلة عوضية، والعم الذي مات بمرض لم يمهله كثيراً وسفيان، الأخ المولع بالفن والغناء، كثيراً ما يسير الماضي كشريط سينمائي بمونتاج محكم متداخل الأزمنة. كثيراً ما كانت تشعر بوخزة في صدرها وأن هنالك ما هو مؤلم في مقتبل الأيام، يموت الأب في حادثة مفجعة وهي طالبة جامعية، بكته رغم أنه لم يعد ذلك الأب الطيب الذي كسر الأعراف والتقاليد وانتصر للحب منذ أصبح من الحاشية ومرافقاً للوزير في كل أسفاره....

عن رواية الامام الغجري للكاتب عماد البليك، بقلم: فخر الدين حسب الله

في روايته "الإمام الغجري" التى يمكن وصفها بالرواية الواقعية، حيث تتحرك في جغرافيا وتاريخ محددين (السودان، 1821_الى الان)، يسرد البليك في متعة متناهيه تفاصيل الكثير من الأحداث التاريخية في السودان الحديث في رحلة البحث عن سر الغموض الذي يلف غياب أحد الرموز الدينية، الطائفية، السياسية.. واسمه الإمام سفيان النصري (الغجري). تبدأ أحداث الرواية عن صحفي سودانى، يحاول أن يكشف القناع والأسرار حول غياب الامام الغجري قبل عدة عقود، ليجد نفسه أم ام ملف شائك، شديد التعقيد . الصحفي بعد أن أمسك ببعض الخيوط وقبل أن تكتمل، اغتيل قبل أن ينشر ما لديه، اصابع الاتهام تتجه الى السلطة الحاكمة، فالنظام يقبض علي حرية النشر، ويضيق على الحريات، ويمنع الحديث حول غياب الإمام. وللنظام سوابق في الاغتيالات والتعذيب، فقد اغتيل صحفيون من قبل. يلجأ آخرون ينتمون إلى مؤسسات الدولة الحديثه الي عملية تحضير الأرواح لمعرفة ماذا كان يريد أن يقول الصحفي.. تسير الرواية بأقوال روح الصحفي.. لتحكى الروح حقيقة ما جري مضافا إليها خواطره وآرائه . تكشف الرواية عن الحبل السري بين السياسي ورجل الدين وانع...

المناورة والطريق الأفضل.. إلى حمدوك مرة أخرى

لقد أهتم العلماء في فترة التنوير الأوروبي بالطبيعة، والأحياء، كيف تشكلت في الماضي. في سبيل السيطرة على المستقبل، لأن أدراك نسق التشكيل في التاريخ، يقود إلى التحكم في القادم.   قبل أن يأتي داروين الذي كسب شهرة كبيرة بنظرية التطور، جرب آخرون أغفلهم التاريخ هذا النمط من التفكير، ومنهم جان باتيست لامارك، الذي يعتبر أول من استخدم مصطلح البيولوجيا بالمعنى الحديث. وكان تقريبا أول من صاغ نظرية شبه متكاملة في التطور الإحيائي. استهل بذكر لاما رك، للاستشهاد بمقولته: "هل نتحرك أفضل حين تتقطع بنا السبل ولا نجد مخرجا.. عندما يتغير كل شيء؟" الفكرة تقوم على أن الكائنات في محيطها الطبيعي، دائما ما تلجأ إلى الحل في ساعات الاستعصاء القصوى، عندما يتبدل كل شيء تماما. تصل ما يمكن الاصطلاح عليه بلحظة "التلاشي". هنا تناور بطريقة جديدة. تستخدم كافة السبل الممكنة التي لم تخطر من قبل، وتستطيع أن تحدث انقلابا في الطبيعة نفسها لصالحها. هذا الأمر ينطبق ليس على الحيوانات والأحياء في فطرتها. بل على المجتمعات، ففن المناورة في "المساحات الصغيرة" أو "الفرص المعتمة" يقود إل...