السودانيون شعراء بطبعهم، تراثنا في هذا الباب كثيف جداً، كما يكاد القرن العشرين يكون قرن الشعر في بلدنا، فلا أحد اهتم بالأدب أو الثقافة، إلا وكتب قصيدة في فترة الصبا المبكر أو في الشباب. ربما يجيء ذلك لأن الشعر فعل وجداني يقرب الإنسان من ذاته ويحقق له نوعاً من الصفاء النفسي؛ أن يجد معادلاً لعالم خارجي متأزم. أو لأن الشعر هو الغايات البعيدة التي نحلم بها ولم نصلها.
مرةً، قال الشاعر والأديب الفرنسي، جان كوكتو، عبارته الشهيرة: “الشعر ضرورة وآه لو أعرف لماذا”، وهو يطرح بدرجة
ملموسة سؤال الشعر: لماذا نحن في حاجة إليه؟ وهذا السؤال قطعاً يجر وراءه أسئلة تقبع في تلافيف الذهن البعيدة. هل الشعر هو الهواء الذي نتنفسه كنوع آخر من الأوكسجين الذي يغذي العقل بطريقة ما، فيعدل المزاج الإنساني وينقله إلى مساحة أخرى مفقودة أو غائبة من الزمن؟
إن كوكتو كان عاجزاً عن ابتكار الإجابة على ضرورة الشعر، لكنه كان من خلال ذلك السؤال يفتح الأشرعة لكي نصنع ونبتكر المزيد من الاستعارات والأخيلة لنثبت الضرورة المستمرة للشعر، علّنا من خلال ذلك نستطيع أن نصل إلى ماهية ذلك الساحر الغريب الذي تارة يأتي بإيقاعية فيخفف الألم ويطفئ الجراح وتارة يأتي بتجريد عجيب غير مرئي أو محسوس ليرسم بهجة أخرى في الروح.
وإذا كان الشعر ضرورة، فهل هو متعلق بالضروريات ومرتبط بها، مثل أشياء كثيرة لابد أن نفعلها لأنها ضرورية، أم أن شأنه يتعلق بحيثيات أخرى غير مكتشفة لأننا لم نتعرف عليها بعد، ربما أحس بها البعض، وتعايشوا معها، ربما فسروها لأنفسهم أو عجزوا؟ لكن المحصلات تبقى احتمالات مفتوحة لمعنى أن نفهم الشعر، حقيقته إن وجدت.
في مدخل القرن الجديد، خفت صوت الشعر في السودان، خفتت تلك الضرورة التي تحدث عنها كوكتو، صرنا أكثر تماهياً مع الواقع بدل التعلق بالشعرية في الحياة. لماذا بهت اللون وخفت الصوت القديم؟ الأنهار التي جرت لعقود طويلة، التوريات الغارقة في الإمعان تخييلاً ومجازاً وروحاً، تضع الذات في مصاف ملائكي، كيف انتفى كل ذلك وصار الشعر نسياً منسياً، لتزيحه من موقعه مماحكات الحياة ومباشرتها الجافة.
هل تلاشي الشعر أو ترهله، بهتانه وتسطح رؤاه، تعود إلى مسألة متعلقة بالعالم خارج الشعر، بالذات في المحيط المتقلب وما تغير في المجتمعات والأنوات من ظنون وأشكال جديدة للحياة، فرضت قيماً أكثر مباشرة بحيث انجذب الإنسان نحو الحقائق المتمثلة في الواقع الفظ ونسي الواقع البديل؟ عليه أولاً أن يعالج معتركات اليومي، ومن هذه أُنتجت الشاعرية البديلة؛ نتاجاً لهذه القسوة والصراع والجنون.
يرى الرسام الهولندي “بيت موندريان” صاحب الطابع التجريدي في فنه، الذي عاش في النصف الأول من القرن العشرين، أن الفن يمكن أن يختفي، بما في ذلك الشعر طبعاً. ويقول إن الواقع سوف يحل بالتدريج محل الفن إذا لم يكن الفن في جوهره إلا تعويضاً عن انعدام التوازن في الراهن.
يعني ذلك ببساطة، أن حقيقة الفن هي واقع بديل يضفي على الحياة بعداً آخر من خلال الترقي الذي تصنعه الفنون في الذهن، ومن خلال العصف المستمر للأنا لكي تكون مستمرة في توليد الأفكار وانتهاك سكون اللحظة، برغبة أن يفهم الكائن وأن يخلد هذه اللحظة وأن يكون هو ذاته لا شيء آخر.
لكن الفن عندما يحل محله الواقع، فهذا يشير إلى أن الواقع اكتسب الصيغة الأكثر جمالية لإبقاء التوازن وجعل الإنسان يشعر بكل ما يكسبه له فعل الفن أو الشعر بغض النظر عن قسوة هذا الوقع. ففي الشعر كما في الفنون والأدب عموماً فإن القسوة والكراهية وكل الأمور السلبية تتلاشى في النصوص واللوحات لتحال إلى استعارات خالدة كل يراها بوجهته، وفي الواقع البديل صاحب الأثر القوي الذي يزيح الشعرية ويحتل مكانها، يكون للواقع أن يصنع فانتازيا وظنون وقهريات تجعل الكائن جزءاً من الخيال، ففي أحيان كثيرة يقف المرء ليسأل نفسه: أين هو بالضبط؟ هل هو داخل هذا المجاز الواقعي أم خارجه؟ هل هو حقيقة ابن الأزمة أم الأزمة نفسها؟ وأين تعيش حدود الاستعارة ويبدأ المرئي والمحسوس؟
إن القدرة على إعادة ابتكار العالم أو الحياة في الشعر أو الفن، عموماً، تكتسب طاقتها الجوهرية من الابتعاد عن الواقع بالمسافة الكافية، من السياسي واليومي والمعاش، ومن الارتهان للأيديولوجي والعقائدي، والارتهان للمصلحة. فالفن السليم لا ينمو في بيئة راكدة ليس فيها إلا الإغراءات الجوفاء، والاحتمالات التي تقود إلى الخيانة، خيانة الشعر وخيانة الأخلاق والأعراف الإنسانية في الفنون والأشعار والأدب عموماً. إن الخيانة جائزة، بحسب كونديرا، ولكن بعد أن تتأسس الذات تماماً على وعي تام بكيفية الخروج من حصار الأصيل والتقليدي، فلفظ الأمس لا يكون بالرغبات فقط بل بالوعي العميق والمعرفة التي تجعل الذات تتعالى على الواقع، ليس كبرياء أو كراهية، أو كنوع من الهروب، بل بإدراك أن هذا الواقع ليس هو المكان الذي يليق بالذات أن تبقى جزءاً منه، فالذات العارفة لا تسجن نفسها أسيرة جُدر الخيال السطحي، وتراجيديات مكررة، وأنسنة ليس فيها أي بعد ثالث، أو رابع.
لم ينته عصر الشعر، ولم تمت القصيدة. كلا، ولكن هناك أزمة افتراق بين الواقع والشعر، بين الخيال بوصفه إرادة والخيال بوصفه صناعة، بين التعالي وظنية التعالي، وكل ذلك ليس إلا مسرحاً يمهد لمرحلة جديدة نقترب فيها من تحرير خيالنا نحو ما هو أكثر رسوخاً واقتراباً من حقائقنا، بعيداً عن الغنائية والافتعال والإيقاعية، لأن أي مسار مموسق ما هو إلا تفكير في انتظام العالم ونمذجة الواقع، في حين أن ما هو خارج القصيدة سمته الفوضى والتضليل ولا يخضع للنظام ولا يجذبه سوى مغنطيس الرغبة في التشكيل المستمر، فليس ثمة صور نهائية ولا غايات تنتهي عندها المطافات.
بمثلما هناك أسئلة معقدة على مستويات الحياة المختلفة، فإن سؤال الشعر والفن وظنونهما وعلاقة ذلك بالواقع في تجليه الملموس، يظل من الاستفهامات التي تتطلب الإجابة عليها إنتاج المزيد من النصوص، والمضي في المغامرة بعيدا عن الافتعال والأثر اللحظي، بمعنى تحرير الذات من الزمن والتاريخ والقفز إلى برزخية العالم، إلى ذلك الفضاء الذي يشبه الحلم. إنه فضاء يستمد قوته وجدارته من الواقع، لكنه ليس هو أبداً، إنه فضاء الله والإنسان والملاك والشيطان، فضاء الخلود، وفضاء الذات المغيبة التي لن تظهر أبداً، حيث تعيش إطلاقها وصيرورتها المجهولة.
مرةً، قال الشاعر والأديب الفرنسي، جان كوكتو، عبارته الشهيرة: “الشعر ضرورة وآه لو أعرف لماذا”، وهو يطرح بدرجة
ملموسة سؤال الشعر: لماذا نحن في حاجة إليه؟ وهذا السؤال قطعاً يجر وراءه أسئلة تقبع في تلافيف الذهن البعيدة. هل الشعر هو الهواء الذي نتنفسه كنوع آخر من الأوكسجين الذي يغذي العقل بطريقة ما، فيعدل المزاج الإنساني وينقله إلى مساحة أخرى مفقودة أو غائبة من الزمن؟
إن كوكتو كان عاجزاً عن ابتكار الإجابة على ضرورة الشعر، لكنه كان من خلال ذلك السؤال يفتح الأشرعة لكي نصنع ونبتكر المزيد من الاستعارات والأخيلة لنثبت الضرورة المستمرة للشعر، علّنا من خلال ذلك نستطيع أن نصل إلى ماهية ذلك الساحر الغريب الذي تارة يأتي بإيقاعية فيخفف الألم ويطفئ الجراح وتارة يأتي بتجريد عجيب غير مرئي أو محسوس ليرسم بهجة أخرى في الروح.
وإذا كان الشعر ضرورة، فهل هو متعلق بالضروريات ومرتبط بها، مثل أشياء كثيرة لابد أن نفعلها لأنها ضرورية، أم أن شأنه يتعلق بحيثيات أخرى غير مكتشفة لأننا لم نتعرف عليها بعد، ربما أحس بها البعض، وتعايشوا معها، ربما فسروها لأنفسهم أو عجزوا؟ لكن المحصلات تبقى احتمالات مفتوحة لمعنى أن نفهم الشعر، حقيقته إن وجدت.
في مدخل القرن الجديد، خفت صوت الشعر في السودان، خفتت تلك الضرورة التي تحدث عنها كوكتو، صرنا أكثر تماهياً مع الواقع بدل التعلق بالشعرية في الحياة. لماذا بهت اللون وخفت الصوت القديم؟ الأنهار التي جرت لعقود طويلة، التوريات الغارقة في الإمعان تخييلاً ومجازاً وروحاً، تضع الذات في مصاف ملائكي، كيف انتفى كل ذلك وصار الشعر نسياً منسياً، لتزيحه من موقعه مماحكات الحياة ومباشرتها الجافة.
هل تلاشي الشعر أو ترهله، بهتانه وتسطح رؤاه، تعود إلى مسألة متعلقة بالعالم خارج الشعر، بالذات في المحيط المتقلب وما تغير في المجتمعات والأنوات من ظنون وأشكال جديدة للحياة، فرضت قيماً أكثر مباشرة بحيث انجذب الإنسان نحو الحقائق المتمثلة في الواقع الفظ ونسي الواقع البديل؟ عليه أولاً أن يعالج معتركات اليومي، ومن هذه أُنتجت الشاعرية البديلة؛ نتاجاً لهذه القسوة والصراع والجنون.
يرى الرسام الهولندي “بيت موندريان” صاحب الطابع التجريدي في فنه، الذي عاش في النصف الأول من القرن العشرين، أن الفن يمكن أن يختفي، بما في ذلك الشعر طبعاً. ويقول إن الواقع سوف يحل بالتدريج محل الفن إذا لم يكن الفن في جوهره إلا تعويضاً عن انعدام التوازن في الراهن.
يعني ذلك ببساطة، أن حقيقة الفن هي واقع بديل يضفي على الحياة بعداً آخر من خلال الترقي الذي تصنعه الفنون في الذهن، ومن خلال العصف المستمر للأنا لكي تكون مستمرة في توليد الأفكار وانتهاك سكون اللحظة، برغبة أن يفهم الكائن وأن يخلد هذه اللحظة وأن يكون هو ذاته لا شيء آخر.
لكن الفن عندما يحل محله الواقع، فهذا يشير إلى أن الواقع اكتسب الصيغة الأكثر جمالية لإبقاء التوازن وجعل الإنسان يشعر بكل ما يكسبه له فعل الفن أو الشعر بغض النظر عن قسوة هذا الوقع. ففي الشعر كما في الفنون والأدب عموماً فإن القسوة والكراهية وكل الأمور السلبية تتلاشى في النصوص واللوحات لتحال إلى استعارات خالدة كل يراها بوجهته، وفي الواقع البديل صاحب الأثر القوي الذي يزيح الشعرية ويحتل مكانها، يكون للواقع أن يصنع فانتازيا وظنون وقهريات تجعل الكائن جزءاً من الخيال، ففي أحيان كثيرة يقف المرء ليسأل نفسه: أين هو بالضبط؟ هل هو داخل هذا المجاز الواقعي أم خارجه؟ هل هو حقيقة ابن الأزمة أم الأزمة نفسها؟ وأين تعيش حدود الاستعارة ويبدأ المرئي والمحسوس؟
إن القدرة على إعادة ابتكار العالم أو الحياة في الشعر أو الفن، عموماً، تكتسب طاقتها الجوهرية من الابتعاد عن الواقع بالمسافة الكافية، من السياسي واليومي والمعاش، ومن الارتهان للأيديولوجي والعقائدي، والارتهان للمصلحة. فالفن السليم لا ينمو في بيئة راكدة ليس فيها إلا الإغراءات الجوفاء، والاحتمالات التي تقود إلى الخيانة، خيانة الشعر وخيانة الأخلاق والأعراف الإنسانية في الفنون والأشعار والأدب عموماً. إن الخيانة جائزة، بحسب كونديرا، ولكن بعد أن تتأسس الذات تماماً على وعي تام بكيفية الخروج من حصار الأصيل والتقليدي، فلفظ الأمس لا يكون بالرغبات فقط بل بالوعي العميق والمعرفة التي تجعل الذات تتعالى على الواقع، ليس كبرياء أو كراهية، أو كنوع من الهروب، بل بإدراك أن هذا الواقع ليس هو المكان الذي يليق بالذات أن تبقى جزءاً منه، فالذات العارفة لا تسجن نفسها أسيرة جُدر الخيال السطحي، وتراجيديات مكررة، وأنسنة ليس فيها أي بعد ثالث، أو رابع.
لم ينته عصر الشعر، ولم تمت القصيدة. كلا، ولكن هناك أزمة افتراق بين الواقع والشعر، بين الخيال بوصفه إرادة والخيال بوصفه صناعة، بين التعالي وظنية التعالي، وكل ذلك ليس إلا مسرحاً يمهد لمرحلة جديدة نقترب فيها من تحرير خيالنا نحو ما هو أكثر رسوخاً واقتراباً من حقائقنا، بعيداً عن الغنائية والافتعال والإيقاعية، لأن أي مسار مموسق ما هو إلا تفكير في انتظام العالم ونمذجة الواقع، في حين أن ما هو خارج القصيدة سمته الفوضى والتضليل ولا يخضع للنظام ولا يجذبه سوى مغنطيس الرغبة في التشكيل المستمر، فليس ثمة صور نهائية ولا غايات تنتهي عندها المطافات.
بمثلما هناك أسئلة معقدة على مستويات الحياة المختلفة، فإن سؤال الشعر والفن وظنونهما وعلاقة ذلك بالواقع في تجليه الملموس، يظل من الاستفهامات التي تتطلب الإجابة عليها إنتاج المزيد من النصوص، والمضي في المغامرة بعيدا عن الافتعال والأثر اللحظي، بمعنى تحرير الذات من الزمن والتاريخ والقفز إلى برزخية العالم، إلى ذلك الفضاء الذي يشبه الحلم. إنه فضاء يستمد قوته وجدارته من الواقع، لكنه ليس هو أبداً، إنه فضاء الله والإنسان والملاك والشيطان، فضاء الخلود، وفضاء الذات المغيبة التي لن تظهر أبداً، حيث تعيش إطلاقها وصيرورتها المجهولة.
تعليقات