التخطي إلى المحتوى الرئيسي

رواية جديدة.. تُعيد تفكيك أيقونة الطيب صالح في «موسم الهجرة»


صلاح القرني

في مغامرة أدبية جديدة تتقاطع فيها الهوية بالسياسة، والماضي بالحاضر، والأدب بالفلسفة، صدرت حديثًا عن منشورات «إبييدي» في مصرـ رواية «البحث عن مصطفى سعيد» للكاتب السوداني عماد البليك، في طبعتها الأولى لعام 2025، تحاول الرواية الغوص في أثر شخصية مصطفى سعيد – البطل المحوري لرواية الطيب صالح الخالدة «موسم الهجرة إلى الشمال» – لكن ليس بإعادة كتابة النص، بل بتأمل الظلال التي خلّفها، ورصد ما إذا كان لهذه الشخصية أن تُبعث من جديد في زمن يتفجر فيه السودان على أكثر من مستوى.

السرد بوصفه بحثًا يقوم العمل على بنية سردية تأملية تعتمد على راوٍ يُدعى «محمود»، ينتمي لجيل مغاير عن جيل مصطفى سعيد. محمود شخصية مهزوزة، حائرة بين انتماءاتها الفكرية وعلاقاتها العاطفية، لكنها تعود في كل لحظة إلى تلك الصورة التي شكّلتها شخصية مصطفى سعيد في اللاوعي الجمعي السوداني.

يبدأ الراوي بطرح سؤال وجودي: «هل كان مصطفى سعيد حقيقيًّا؟ وإن كان، فماذا تبقى منه فينا اليوم؟»

من هذه النقطة، تنفتح الرواية على مسار من البحث المعنوي والفلسفي، في محاولة لفهم التحولات الكبرى التي مرّ بها السودان منذ استقلاله وحتى الحرب الأهلية الأخيرة.

لا تسعى الرواية إلى تقديم أجوبة بقدر ما تُراكم الأسئلة، وتعرض مشاهد من التفكك، والخذلان، والتداخل بين الفرد والتاريخ.

نص ما بعد الطيب صالح؟

منذ عقود، ظلت شخصية مصطفى سعيد رمزًا للأنا السودانية التي اصطدمت بالغرب، بالاستعمار، بالهوية المشروخة. لكن عماد البليك، في هذا النص، لا يكتفي بترديد ذلك الأثر، بل يجرّد سعيد من قدسيته الروائية، ويطرحه كسؤال سياسي وأخلاقي: هل كان مصطفى سعيد مشروعًا نرجسيًّا فرديًّا؟

أم مرآة لهزيمة وطن لم تُحسم بعد؟

هكذا، تدفع الرواية القارئ إلى مقارنة مزدوجة: بين الماضي الروائي وبين الحاضر الواقعي، وبين شخصية سعيد الأصلية، و»أشباهه» في هذا الزمن من الشتات والانهيار.

الزمن المحترق: ما بعد الثورة وما بعد الخراب

لا تغفل الرواية، في مسارها، الاشتباك مع السودان الراهن، بدءًا من الثورة الشعبية في ديسمبر، ثم فضّ الاعتصام، مرورًا بانقلاب 2021، وانتهاء بالحرب الطاحنة في الخرطوم ومناطق أخرى.

تستدعي الرواية مشاهد الحرب والدمار، ليس بوصفها حدثًا سياسيًا، بل كمرآة للانكسار الروحي والفقد الجماعي.

تمثل شخصية محمود ذلك الإنسان العالق بين خيارات مستحيلة: المنفى أو الجنون، الصمت أو الصراخ، الكتابة أو العزلة. وفي خلفية المشهد، لا يغيب صوت مصطفى سعيد، لا كفاعل وإنما كأثر، كعبء، كماضٍ لا يُدفن بسهولة.

نص متعدد الطبقات

أسلوبيًّا، يمزج عماد البليك بين التأمل الفلسفي، والتحليل السياسي، والتقنيات السردية الحديثة، في نص يعتمد على اللغة الرصينة، والإيقاع البطيء المدروس.

تكثر الإشارات إلى نصوص أخرى، خاصة «موسم الهجرة إلى الشمال»، ولكنها إشارات واعية، تنتقد بقدر ما تستعيد.

الرواية لا تُصنّف بسهولة: فهي ليست تاريخية، ولا بوليسية، ولا حتى مجرد رواية فكرة. إنها نص متعدد الطبقات، يراوغ التصنيف، ويُراهن على قارئ غير كسول، قادر على تتبّع الشبكات المعنوية الكامنة بين الشخصيات، الأحداث، والأسئلة الكبرى.

أما لوحة الغلاف، جاءت لتعكس في ألوانها الباردة والصورة المزدوجة على الغلاف، الانقسام بين الواقع والذاكرة، الشرق والغرب، الرجل والظل.

عماد البليك كاتب وروائي سوداني معروف، صدرت له عدة أعمال روائية سابقة تناولت قضايا الهوية والتاريخ والسودان الحديث، أبرزها: «شاورما»، «دماء في الخرطوم»، ويحمل في كتاباته همًّا مزدوجًا: الحفاظ على التجربة الأدبية السودانية الأصيلة، وتوسيع أفقها لتواكب المأساة المعاصرة.

في نهاية المطاف، لا يمكن اعتبار «البحث عن مصطفى سعيد» مجرد تناص مع شخصية من رواية سابقة. إنها مرافعة أدبية طويلة في وجه النسيان، محاولة لاجتراح موقع جديد للذات السودانية في زمن القتل والنزوح، والبحث عن معنى في ركام الخراب. وكما يقول الراوي في إحدى الصفحات: «ربما لم يكن مصطفى سعيد سوى الاسم الأول للخسارة... ونحن الأسماء التالية.»

صحيفة الرياض 

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

فصول من رواية "دماء في الخرطوم" الصادرة عن دار الفارابي

واحد   داخل المكتب المؤثث على طريقة عصرية، بديكور داخلي راقٍ، رنّ الهاتف النقال على الطاولة الخشبية لأكثر من مرة قبل أن يضغط عبد الحفيظ على الزِر ليردّ على المتحدث من الطرف الآخر.. لقد جرت العادة ألا يستقبل أي مكالمة من رقم مجهول بالنسبة له، لكن إصرار المتصل على تكرار المحاولة للدرجة التي استفزّت المجموعة الجالسة حول طاولة الاجتماع، جعلت عبد الحفيظ يردُّ أخيراً: - عفواً.. من يتحدث معي؟ قالها هكذا، دون أن يردَّ تحية المتصل. - معك اللواء طه عبد الرحمن مدير عام الشرطة. قبل أن يكمل، كان عبد الحفيظ قد نهض من على الكرسي الدوّار، وبحركة لا شعورية جرّ الكارفته تدريجياً إلى أسفل، قائلاً: - نعم سيدي.. تفضل، ما الأمر؟ ليس من عادة عبد الحفيظ أن يطيل المكالمات، لقد تعلم هذه العادة من سنوات عمله بالولايات المتحدة أثناء تدرّبه في إحدى الشركات هناك، بعد أن أكمل دراسته في الهندسة المدنية، قبل أن يعود إلى الخرطوم قبل شهر من الآن، لينشِئ شركة للمقاولات بإمكانيات مادية كبيرة. بدا له أن الضابط مرتبك وغير قادر على الإفصاح، ولثوانٍ ظلّ صامتاً، فيما كانت المجموعة الأجنبية الجالسة ح...

هل نضب الخيال؟

إشكاليات الذائقة الفنية والتلقي الجمالي عند العرب عماد البليك: منذ أن قدم الشاعر التونسي أبو القاسم الشابي أطروحته الجمالية حول "الخيال الشعري عند العرب" وخلص إلى أن الأدب العربي لا ينظر إلى المستقبل ولا ينفذ إلى صميم الأشياء وأنه "كلمة ساذجة" فإن الموقف لا يغادر موقعه، فالإشكاليات لاتزال قائمة إلى اليوم، والبحث عن تحرير الخيال لا يزال معطلا، كما أن الذائقة الفنية والجمالية تقاوم معوقات متجذرة يبدو الفكاك منها صعبا رغم الانفتاح الذي أتاحته الوسائط الحديثة للتلقي والمعرفة.  وإذا كانت مائة سنة تكاد تفصلنا، عن أطروحة الشابي، أي ما يقارب القرن، فالسؤال القائم ما السبب الذي عطّل مشروع الإنتاج والتلقي الجمالي عند العرب، ولماذا هم إلى اليوم يتعاملون مع العالم على أنه أقرب إلى المسطحات والثنائيات منه إلى شيء عميق له أبعاد متعددة وأوجه متنوعة، وهذا ينطبق على الممارسة الفنية كما ينجر بدرجة أوضح على استقبال الرسائل الجمالية أو الفنية، سواء أنتجت في محيط عربي أو عالمي. كانت فكرة أبوالقاسم الشابي تقوم على الخلاصة التالية: "قد انتهي بي البحث في الأدب...

حوار عماد البليك في مجموعة "يلا نقرأ سودان"

رتب للحوار وأعده وأجراه بشكل رئيسي جعفر عبد الله جعفر جعفر عبدو: الاسم بالكامل، تاريخ الميلاد، المراحل التعليمية، الإقامة الحالية، الحالة الاجتماعية . عماد البليك: شكرا الاخ جعفر على الدعوة لهذا الحوار، اسمي عماد الدين عبد الله محمد، البليك هو لقب جدي محمد، درست مراحلي الاولى في بربر بنهر النيل والجامعة بالخرطوم، كلية الهندسية معمار، اقيم حاليا في مسقط بسلطنة عمان، متزوج واب لطفلين مهيد 5 ومهيار 9 زوجتي ام سلمة عبد المنعم ابوسبعة. جعفر: لماذا اخترت الكتابة والعمل الصحفي رغم دراسة الهندسة؟ عماد البليك: خيار مبكر، رغم انني كنت احب الفنون والرسم وامتحنت مادتها في الثانوية، لم اكره المعمار وما زلت احبه لكن في اطاره النظري، بالنسبة لي نما حب الكتابة وتعلقي بالصحافة معضدا بسنوات الجامعة، حيث كان يومي ينقسم بين المدرج ومكتب الصحيفة، وهكذا وجدت انني صحفي.. ان هذا ما يمكن لي ان انجح فيه. فالحياة لا تحتمل مسارات متعددة. وقد كان للكتابة ان تأخذني وتتكامل مع الصحافة واستفدت من ذلك كثيرا في تجربتي الابداعية. جعفر: ما هي اول رواية قمت بكتابتها؟ عماد البليك: رواية اسمها الحصاد و...