التخطي إلى المحتوى الرئيسي

"عرس الزين".. احتفاء بالحياة والحب .. الرواية التي مثلت حافزا لوحدة السودان المنهوبة

عماد البليك:  رغم أن شهرة الطيب صالح ارتبطت إلى حد كبير برواية "موسم الهجرة إلى الشمال" التي تعالج الصدام الحضاري بين الشرق والغرب عبر بطلها المهاجر من السودان إلى لندن، مصطفى سعيد ثم العائد للفناء في وطنه، إلا أن رواية "عرس الزين" الأصغر حجما والتي تم تحويلها إلى فيلم سينمائي مبكرا بواسطة المخرج الكويتي خالد الصديق(1979)، تظل من الروايات المثيرة للدهشة والمختزنة بالكثير من التفاصيل التي تكشف عن عبقرية الطيب صالح كروائي.
وتقدم "عرس الزين" ليس بطلا هامشيا كما يبدو، إنما إنسان حقيقي ينطلق من غرابته وغربته الذاتية ليكون فاعلا على مستوى الحياة الاجتماعية ويلعب دوره في صناعة الحياة في بلدة كاملة بما يمليه من أحداث ووقائع يكون هو بطلها.
فالزين ذلك الدرويش أو الإنسان المثير للانتباه بتصرفاته الغريبة، والذي يراه بعض الناس مسليا في حين يراه آخرون مصدرا للبركة والشفاعة، وتنسج حوله الأساطير والحكايات في محاولة لتفسيره كلغز كوني، يتحول ذلك الكائن الإنساني (البطل) إلى وسيلة لوعي الوجود وكيفية رؤية الحياة بمحور جديد قائم على فكرة الحب والانتماء للأرض والوطن وفاعلية الذات في بحثها عن تموضعها في هذا العالم.
لقد نجح الزين ليس في الظفر بأجمل وأنبل فتاة في البلدة ليصبح زوجا لها فحسب وهو تقريبا محور الحكاية، بل في كسب حب الناس دون استثناء عبر فيزياء نادرة لا يمكن لأي إنسان أن يمتلكها. وكان يفعل ذلك ليس لأنه يفتعل ما يرغب فيه أو يمارس نوعا من الإرادة لفعله.. وإنما عبر مبدأ التلقائية التي تحكم كافة تصرفاته وأفعاله، أضف لذلك صدقه في علاقاته مع محيطه الاجتماعي..
استطاع الطيب صالح في هذا العمل البسيط في لغته وفكرته أن يثبت معادلة الإبداع في كونه يأتي من خلال الرؤية النادرة والكلية للعالم وليس من خلال الإملاء اللحظي ولا العنت الذي يجعل المبدع مثابرا وحريصا على أن يأتي بما لم يأت به الأوائل.. ولكن دون نتيجة ملموسة..
لقد سافر الطيب من بلده السودان إلى لندن في فترة مبكرة نسبيا من عمره وهو لم يتجاوز الخامسة والعشرين. لكنه اختزن في ذاكرته الحاضرة مشاهد ووقائع وتفاصيل قوية عن خرائط الوطن الذي سيبتعد عنه لعشرات السنوات، هذا الحضور الذي تجلى بصفاء ونبوغ في "عرس الزين".. فهي ببساطة تصوير حي للحياة السودانية في القرن العشرين، صحيح أنها فترة تتعلق بالنصف الأول من القرن، إلا أنها تكاد تنطبق على كاريزما الشخصية السودانية إلى اليوم تقريبا.. مع الأخذ في الاعتبار للتحولات المجتمعية الكبيرة التي حدثت..
غير أنه من الظلم أن نربط موضوعية "عرس الزين" فقط بالتصوير الحي للحياة أو مشهديتها والاحتفال بها.. هذا موجود فعليا حيث يحتفي الطيب بشكل كبير بحب واضح للبلاد التي جاء منها والناس الذين غادرهم، كل شيء بما في ذلك الأشجار والطيور وكلاب الليل وسكان المقابر.. وهي كتابة تنطلق من فكرة الإحساس العميق بتجذير الجغرافية داخل الأرواح..
إن الإحساس بالضياع بعيدا عن مسقط الرأس والأصدقاء والأهل يفرض على الكاتب في أحيان كثيرة أن يكون إنسانيا اتجاه شخوصه وأبطاله، فيبحث عن الدفء والحميمة والمعاني الجميلة المختزلة في ثنايا الذاكرة.. ولهذا فإن الزين كرمز لوحدة السودان التي انشرخت لاحقا.. كان بتعبير الطيب صالح "رسولا للحب" والتعايش بين الجميع في بلد كان حجمه مليون ميل مربع قبل انفصال جنوبه..
فالزين الذي سكب فيه الكاتب عطر الانتماء والتعبير عن مركب الذات أو الهوية السودانية المنهوبة أو المغتالة.. إنما هو بتأويل ومدلول مبسط عبارة عن خارطة لوعي الأنا.. من أكون وعما أبحث ولماذا أنا هنا؟
وهي أسئلة كثيرا ما شغلت مشروع الطيب صالح الإبداعي دون أن تجد انتباهات عملية من قبل صناع القرار السياسي أو واضعي مناهج التعليم. والذين لو كنت مكانهم لوضعت "عرس الزين" ضمن أولويات الكتاب المدرسي.. إذن لكانت حافزا للوحدة والسلام ونفي الحروب والصراعات التي لم نجن منها سوى المزيد من الدماء والدموع والخوف الذي أستأصل في ذواتنا، سواء من المجهول والقادم المريع أو المرعب الراهن، أو ذاكرة الأمس المشوشة.
إن الأدب الحقيقي والإبداع الجاد والرسالي - إذا جاز التعبير- رغم ميلي إلى تجريد الكتابة والكتب الأدبية من أي أدوار رسالية مباشرة.. يحمل هذا النوع من المغامرات الفنية الرائعة، القادرة على إعادة قراءتنا للحياة وللإنسان والإنسانية ومعنى الذات في هذا العالم.. أي هدف تنشده؟!.. وكيف بإمكاننا أن نكون شجعان بما يكفي لتولي مهمة صناعة الحياة الأفضل من خلال الرؤى والبصيرة النافذة والغوص بعيدا في المعاني المستترة وراء كل حكمة تنطلق من الغوص في أسرار الإنسان والمجتمعات وقيمها الخالدة على مرّ العصور.

الشرق القطرية - الملحق الثقافي - الأحد 9 فبراير 2014

تعليقات

‏قال karrar
بوركت يا عماد .. عرس الزين رواية قرأتها لأول مرة في الثانية عشرة من عمري ، و ظلت منذ بضع و أربعين سنة تمثل أحد أنبل هواجسي ، إلى حد أنني تعرفت إلى جميع شخصياتها و أولهم "الزين" بلحمه و دمه ، في قريتنا بأقصى شمال السودان ، فقد نشأت و أنا أرى جميع شخصيات "عرس الزين" تسعى على الأرض ، إلى حد أن سؤالاً طفولياً ساذجاً ألحّ عليّ و أنا أقرأ الرواية لأول مرة (الطيب صالح ده مشى بلدنا متين ؟؟) و كنت حينها قد ارتحلت إلى الخرطوم تاركاً الزين و سعيد البوم و ود الرواسي ، و إن كانوا في قريتنا التي احتلت خاطري يحملون أسماء أخرى .. هذا بُعدٌ واحد من بين أبعاد إبداعية و فلسفية كثيرة لعرس الزين

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

راما رواية البليك تغوص في أسرار الخلود وتتجاوز قواعد السرد

  في طفولتها البعيدة وهي تلعب بين مزارع الفول والفاصوليا وتسبح أحياناً مع البنات في النهر ساعة الفيضان، لم تكن خالدة تتخيل شكل مستقبلها، توفى معظم من تعرفهم ويعرفونها، كانت تحب فصل الشتاء لأنه يسمح لها بالاختباء تحت غطاء اللحاف، لتحلم، كانت طفولتها وشبابها مليئة بالفوضى فهي بنت الجزار الذي في لمحة بصر ومحض الصدفة تحول ضمن الحرس لشخصي لوزير مهم، هي بنت المرأة الطيبة القادمة من رحم الرق والبؤس، جد كان شحاذاً وتفاصيل مربكة استمرت إلى أن وجدت راجا الهندي الطيب تاجر المجوهرات، تكتمل الفرحة بميلاد الطفلة راما، الاسم المقتبس من الخلود بقداسته وأسراره. حياتها الجديدة لم تنسها ماضيها حكايات الخالة الصحفية المناضلة عوضية، والعم الذي مات بمرض لم يمهله كثيراً وسفيان، الأخ المولع بالفن والغناء، كثيراً ما يسير الماضي كشريط سينمائي بمونتاج محكم متداخل الأزمنة. كثيراً ما كانت تشعر بوخزة في صدرها وأن هنالك ما هو مؤلم في مقتبل الأيام، يموت الأب في حادثة مفجعة وهي طالبة جامعية، بكته رغم أنه لم يعد ذلك الأب الطيب الذي كسر الأعراف والتقاليد وانتصر للحب منذ أصبح من الحاشية ومرافقاً للوزير في كل أسفاره. تش

المناورة والطريق الأفضل.. إلى حمدوك مرة أخرى

لقد أهتم العلماء في فترة التنوير الأوروبي بالطبيعة، والأحياء، كيف تشكلت في الماضي. في سبيل السيطرة على المستقبل، لأن أدراك نسق التشكيل في التاريخ، يقود إلى التحكم في القادم.   قبل أن يأتي داروين الذي كسب شهرة كبيرة بنظرية التطور، جرب آخرون أغفلهم التاريخ هذا النمط من التفكير، ومنهم جان باتيست لامارك، الذي يعتبر أول من استخدم مصطلح البيولوجيا بالمعنى الحديث. وكان تقريبا أول من صاغ نظرية شبه متكاملة في التطور الإحيائي. استهل بذكر لاما رك، للاستشهاد بمقولته: "هل نتحرك أفضل حين تتقطع بنا السبل ولا نجد مخرجا.. عندما يتغير كل شيء؟" الفكرة تقوم على أن الكائنات في محيطها الطبيعي، دائما ما تلجأ إلى الحل في ساعات الاستعصاء القصوى، عندما يتبدل كل شيء تماما. تصل ما يمكن الاصطلاح عليه بلحظة "التلاشي". هنا تناور بطريقة جديدة. تستخدم كافة السبل الممكنة التي لم تخطر من قبل، وتستطيع أن تحدث انقلابا في الطبيعة نفسها لصالحها. هذا الأمر ينطبق ليس على الحيوانات والأحياء في فطرتها. بل على المجتمعات، ففن المناورة في "المساحات الصغيرة" أو "الفرص المعتمة" يقود إل

عن رواية الامام الغجري للكاتب عماد البليك، بقلم: فخر الدين حسب الله

في روايته "الإمام الغجري" التى يمكن وصفها بالرواية الواقعية، حيث تتحرك في جغرافيا وتاريخ محددين (السودان، 1821_الى الان)، يسرد البليك في متعة متناهيه تفاصيل الكثير من الأحداث التاريخية في السودان الحديث في رحلة البحث عن سر الغموض الذي يلف غياب أحد الرموز الدينية، الطائفية، السياسية.. واسمه الإمام سفيان النصري (الغجري). تبدأ أحداث الرواية عن صحفي سودانى، يحاول أن يكشف القناع والأسرار حول غياب الامام الغجري قبل عدة عقود، ليجد نفسه أم ام ملف شائك، شديد التعقيد . الصحفي بعد أن أمسك ببعض الخيوط وقبل أن تكتمل، اغتيل قبل أن ينشر ما لديه، اصابع الاتهام تتجه الى السلطة الحاكمة، فالنظام يقبض علي حرية النشر، ويضيق على الحريات، ويمنع الحديث حول غياب الإمام. وللنظام سوابق في الاغتيالات والتعذيب، فقد اغتيل صحفيون من قبل. يلجأ آخرون ينتمون إلى مؤسسات الدولة الحديثه الي عملية تحضير الأرواح لمعرفة ماذا كان يريد أن يقول الصحفي.. تسير الرواية بأقوال روح الصحفي.. لتحكى الروح حقيقة ما جري مضافا إليها خواطره وآرائه . تكشف الرواية عن الحبل السري بين السياسي ورجل الدين وانع