قيل في فلسفة المعنى إن العالم لم يعد على
شكل قصة، أو حكاية. وهذا يشير ببساطة إلى أن تتبع الوجود وإدراك المغزى وصناعة
المستقبل لم تعد قائمة على النماذج الكلاسيكية في الرؤية، التي تؤمن بالحبكات
والخطوط المستقيمة والبدايات والنهايات. تلك التي ترى الحياة بين التراجيديا
والكوميديا، فإما أن تبكي أو تضحك. لكن "حقيقة" عالمنا الجديد ليست كذلك
كما يبدو، إنها ذلك النموذج الذي يفارق شكل الحكايات والنمط ويرغب في بناء وجود
غير متوقع، وغير متوارث، بناء عالم جديد يستفيد من كل فرص الأمس لا يهملها لكنه في
الوقت نفسه يُقلبّها ويعيد أخذ النقاط الحية منها ليربطها بالراهن ليكون ممكنا
القفز إلى صور المستقبل وأشكاله.
الحكاية تعني أن هناك حقيقة مستترة وتهدف إلى
تشكيل صور منمذجة عن العالم بأن وراء كل قصة حكمة أو قيمة يشار إليها، فالطفل الذي
يولد اليوم لابد أن يصبح شيئا في الغد، والرجل الذي يدخل مدينة لابد أنه سوف يتوه
فيها، كما وفق قاعدة الكاتب الروسي تشيخوف فإنه "إذا ظهر مسمار
في بداية القصة فيجب على البطل أن يعلق عليه حبلاً ويشنق نفسه به في نهايتها!".
لكن هذه
التصور أو هذه الأشكال في رؤية العالم، لم تعد تصوغ عالم اليوم بالمعنى المباشر،
قد يكون للمسمار علاقة بالنهاية الافتراضية. لكنها لا تتخذ المباشرة أو أن المسمار
سوف يؤدي الدور ذاته المعطى في خصائص المسمار. وهذا مجال لإعادة تأويل كيمياء
الأِشياء وأدوارها وما يمكن أن تلعبه بشكل عام في الوجود من قيم وتأثيرات.
في فكر
الحداثة تم النظر إلى المعنى من قبل كتاب كبار أمثال كافكا وتشيخوف وكونراد
وغيرهم، على أن العالم منمذج ويقوم على الترتيب والنظام بل أنه نمطي جدا، لذلك فأن
النصوص تقوم على بعثرة الوقائع بهدف لملمتها من جديد، وكما يرى الناقد والمفكر
البريطاني تيري إيغلتون فإن هذا الأدب كان يحاول إعطاء معنى للعالم من خلال البحث
عن المركزية أو الفجوات الخفية لبؤرة المعنى، وحتى أعمال كافكا التي تبدو عبثية
فإنها هي الأخرى تفكر من داخل النظام، فأن يتحول إنسان لحشرة كما في قصة
"المسخ" فالافتراض الأساسي أن المعنى قائم في الإنسان لا في كائن آخر.
بخلاف ما يمكن أن نجده في أعمال متقدمة كما في أفلام الخيال العلمي التي تقوم فيها
كائنات غير مؤثرة وبدائية بصناعة العالم وإعادة تشكيله بروح مغايرة وغير مألوفة.
لقد قام الأدب
الحداثي الغربي على الاشتياق بحالة من الإحساس بكسوف المعنى، وفي المقابل الافتراض
بأنه قائم ويمكن القبض عليه وتطويعه في أشكال محددة عبر الحكايات أو الروايات،
فالبحث عن قيم العدالة والحرية والانتصار للذات وتعزيز القيم الأخلاقية والمفاهيم
كلها تشير إلى حالة حداثوية في النصوص، وتعني أن الإنسان هو بؤرة العالم، والتي
يجب أن تنسج القيم حولها وأن صيرورة الكون كلها تعمل لحسابه.
وبتلخيص بسيط
ففي الفكر الحداثي فإن رغبة إنتاج المعنى او استعادته هي الأساس، ما يعني أن ثمة
نظام وقيمة وألفة ومركز، أما في الفكر ما بعد الحديث فالحكاية تدور حول رغبة إنتاج
اللامعنى وتعظيم الفرص باتجاه ذلك، وتشيتت المركزيات والسرديات الكبيرة بل بعثرتها
إلى اللاشيء. لأن العالم لم يعد على شكل قصة.
لكن حتى هذه
الفكرة هي اليوم محل جدل وارتباك وإعادة بلورة، نعم لم يعد العالم على شكل قصة،
لكن ذلك يتطلب أن يفكر في الأمر برمته ليس على صعيد التضادية فيما كان سابقا، فإذا
كان السابق هو الحكاية الروتينية، أن قيم العالم تقوم على النظام والتتابعية والهيراركية
واستخلاص العظات والعبر، فإن ما بعد السابق وقبل الراهن، يقود إلى المعنى المضاد
في أن ثمة لانظام ولا تتابع ولا هرمية.
إن استخلاص
مغزى (ما بعد الحكاية) أو ما وراءها في سير العالم اليوم، في الأدب والفنون
والسياسة والعلوم الاجتماعية والحياة، بشكل عام في الأنساق المختلفة، يقود إلى
التفكير بالحبكات التأويلية التي تقود إلى الأسئلة المستمرة بدلا من الإجابات
المقنعة وإذا كان ثمة إجابة فهي حتما تقود لسؤال. ربما كان ذلك مدركا من ناحية
أولية. بيد أن الأعمق في ذلك يتمثل في تمثلات المعنى المفترض، لأن حقيقة الكائن لا
تنفك تبحث عن ذلك المعنى، سواء كان الزمن حداثيا أم سواه. وهو أمر افتراضي في
مقامه النهائي، يعني المتعة واللذة ومنح ابتداعية للحياة تجعلها ذات كينونة تشعر
الكائن البشري بأنه موجود وآمن على وجوده.
تمثلات المعنى
- هي - ببساطة يمكن أن نفسرها بأنها المحسوسات التي تنطلق من الأفكار، لكنها ليست
ذات قدرة على الصمود أمام التغيير المستمر في عالم سريع الأثر والتأثر، عالم شبكي
ومعقد يفتقد للمراكز التقليدية ونقاط القوة القديمة. حتى قيل إنه ما من شيء يمكن
أن نعده حدثا، كما لم تعد ثمة حكاية. وقيل إن العيش يعني باستمرار التملص
والتأجيل. وهذا لا يعني التسويف إذ يجب أن تؤخذ هذه المعاني بحذر شديد، لأن أخذها
الحرفي والمباشر قد يجعلها تقود لغير النتائج المفترضة، أي القيم التي من أجلها
سيقت أو تبلورت هذه النظريات الكلامية.
يتراوح فكر
العالم المعاصر، أي العالم الجديد، في واقعه الأبدي بين حقيقتين افتراضيتين هما
الحكاية وما وراءها، المعنى وما وراءه، التأويل وما وراءه، أي الشيء وما يتخفى في
الظل. قديما كان السؤال دائما حول المعنى؟ لكنه اليوم لن يكون كذلك لأن المعنى
استنفد غرضه تماما، كما أن الحكاية ماتت ولم تعد قادرة على تفسير مغزى لوجود
الإنسان في عالم متشابك. وبالنسبة للتأويل هو الآخر فقد الظرفيات والسياقات التي
تجعله يقدر على التشبيك الملموس والمقنع للمعاني والضمائر المستترة، وهذا يتعلق
كذلك بالتباس التاريخ وما يتبع ذلك من أن النصوص التراثية مثلا لم تعد تشير إلى
المعاني ذاتها في سياق تاريخها، لأن ذلك التاريخ غامض وغائب. وهذا المنهج يقود إلى
أن التأويل الجديد يرفض أفكارا مثل علوم ربط الوقائع بالظرف التاريخي. لأن السؤال
الذي يتدثر وراء ذلك، هل من قيمة لذلك الربط. إن القيمة تنوجد من خلال الآن ومن
معطى يفارق الحكاية، لأن هوية ذلك الربط حكائية بحتة، في حين أن التركيب التشابكي
لعالم اليوم ينتصر لنفي السرديات والتتابعيات وينسج شيئا غامضا ربما لم يتبلور
شكله النهائي بعد.
تعليقات