التخطي إلى المحتوى الرئيسي

هل نضب الخيال؟




إشكاليات الذائقة الفنية والتلقي الجمالي عند العرب

عماد البليك: منذ أن قدم الشاعر التونسي أبو القاسم الشابي أطروحته الجمالية حول "الخيال الشعري عند العرب" وخلص إلى أن الأدب العربي لا ينظر إلى المستقبل ولا ينفذ إلى صميم الأشياء وأنه "كلمة ساذجة" فإن الموقف لا يغادر موقعه، فالإشكاليات لاتزال قائمة إلى اليوم، والبحث عن تحرير الخيال لا يزال معطلا، كما أن الذائقة الفنية والجمالية تقاوم معوقات متجذرة يبدو الفكاك منها صعبا رغم الانفتاح الذي أتاحته الوسائط الحديثة للتلقي والمعرفة. 




وإذا كانت مائة سنة تكاد تفصلنا، عن أطروحة الشابي، أي ما يقارب القرن، فالسؤال القائم ما السبب الذي عطّل مشروع الإنتاج والتلقي الجمالي عند العرب، ولماذا هم إلى اليوم يتعاملون مع العالم على أنه أقرب إلى المسطحات والثنائيات منه إلى شيء عميق له أبعاد متعددة وأوجه متنوعة، وهذا ينطبق على الممارسة الفنية كما ينجر بدرجة أوضح على استقبال الرسائل الجمالية أو الفنية، سواء أنتجت في محيط عربي أو عالمي.
كانت فكرة أبوالقاسم الشابي تقوم على الخلاصة التالية: "قد انتهي بي البحث في الأدب العربي وتتبع روحه في أهم نواحيه إلى فكرة شائعة فيه شُيوع النور في الفضاء لا يشذ عنها قسم من أقسامه ولا ناحية من نواحيه، وهذه الفكرة هي أنه أدب مادي لا سُّمو فيه ولا إلهام ولا تشوُّف إلى المستقبل ولا نظرة إلى صميم الأشياء ولباب الحقائق وأنه كلمة ساذجة لا تُعبر عن معنى عميق بعيد القرار ولا تفصح عن فكرة تتصل بأقصى ناحية من نواحي النفوس".
ويمكن أن نفهم من ذلك أن الشابي رأى أن الخيال العربي يقوم على المحددات التي يمكن تبسيطها في النقاط الآتية:
-        أن الأدب العربي مادي يفتقد للسمو، بعكس ما يشاع أن الذات العربية تتجه إلى الروحانيات وتتمسك بالقيم المجردة كما في الفنون الزخرفية والتجريدات التي انطبعت في عمارة المساجد مثلا. وهذا بالطبع يتعارض مع تراث ديني للمتصوفة في محاولتهم للبحث عن البعد الآخر في النفس وتحريرها من ثنائيات الخير والشر، الشيطان والملاك.
-        يعارض الشابي فكرة الإلهام الشائعة، وهي أن الخيال العربي ليس فيه جذوة الابتكار القائم على التلقي من مصادر اللاوعي أو الوعي، بمعنى إنتاج الأفكار وتوليدها لتحمل طاقة جديدة غير المرئي والمباشر والمعتاد. وإذا كان ثمة إلهام فإن الميثولوجيا العربية حاولت رده في فترة من الفترات كما في الشعر إلى عوالم خارج الذات مثل الجن، كما في أسطورة وادي عبقر حيث الاعتقاد بأن أي شاعر له قرين يعيش في ذلك المكان العجائبي يقوم الشاعر بأخذ حكمته وقصيدته من ذلك القرين. ما يجرد الخيال والإبداع عن الأنس أو الإنسان وينسبه لعالم أسطوري موازي.
-        يرى الشابي أن الأدب العربي لا ينظر إلى المستقبل فهو لحظي وموضعي يغازل المؤقت والوقتي ولا يقطع الوقت ليرسل سؤاله إلى لحظة غامضة غير مكتشفة أو متوقعة، فهو يحوم في الذات منغلقا على ما تظن انه الاكتشاف والحقيقة والمعنى. والمستقبل هنا لا يعني التوقع بقدر ما يعني المجازات المطلقة لما يفوق الخيال نفسه، وهو ابتكار كانت السرديات الدينية أقدر على إنتاجه من المخيلة الشعرية، كما في التصور حول العالم الآخر والبرزخ والأعراف وغيرها من هذه العوالم الغيبية. غير أن هذا لا يعني نتيجة حتمية لأن هناك خلاف قائم هل المستقبل هو الغيب، لأن الغيب يغطي أطياف الزمن في الأمس واللحظة والغد، ويتعدي حدود الزمكان، في حين أن المستقبل هو مسألة خطية مباشرة لحركة الوقت كما ترسمه دقائق الساعة أو ساعة الرمل.
-        يفترض الشابي أن ثمة مركز لكل شيء، وأن الخيال العربي لا ينفذ إلى الصميم أو لب الأشياء. وبالتالي هو بعيد عن روح الأشياء إن جاز التعبير، يحوم في فضاء خارجي وتماسات غير واضحة الملامح من الغوص في الأغوار وسبر اللامرئي والجمالي ونبش العنف والعوالم الخفية والكنوز المخبأة في تلافيف الذات والعالم.
-        وتلخيص كل ذلك هي عبارة "كلمة ساذجة" التي رأى عبرها الشابي أن الخيال العربي هو ساذج لا يعبر عن المعنى العميق ولا بعيد القرار بل لا يفصح عن "فكرة متأصلة بأقصى ناحية من نواحي النفوس"، ليأتي الحكم النهائي والقاتل عبر رصاصة أطلقها الشابي ليميت مشروع الذائقة والجمال عند العرب في واحد من أكبر مشاريع الوجود الإنسانية للفكر والحضور العربي ممثلا في الشعر باعتباره ديوان العرب ولسان الأمة – كما درج القول – في تلك الفترة وربما لا يزال.
إن مراجعة النقد الذي قدمه الشابي لمشروع الخيال العربي أو صناعة الجمال عبر القصيدة أو الشعر، إذا افترضنا أن الخيال وإعماله هو عمل فني يهدف للخروج عن النمط والإبداعية وتوليد الجماليات، يكشف ذلك عن أن الشابي هو الآخر حتى لو كان محقا في بعض ما ذهب إليه، من خلال الروح العامة لما قرره، إلا أنه وبدرجة ما كان يعاني أيضا مما يمارس انتقاده، فقد وقع داخل دائرة المُشكل نفسه، لأن النقد الذي كان يوجهه في تلك المحاضرة التي تحولت إلى كتاب كان قائما على "ردة الفعل" أو "الصدمة الحضارية" وليس عن الدراسة العميقة والمتأنية للمشروع الجمالي العربي – إن وجد – فمعروف أن الشابي كان متأثرا بالمدرسة الرومنطيقية الغربية، والمفارقة أن هذا الأثر بدأ في الوقت الذي كان فيه الغرب يودع هذا التيار ويعلن الخصومة عليه مناديا بتحرير الذات من الانغلاق والمركزية والاتجاه نحو الطبيعة لكمال الذات بعيدا عن عالم البشر.
وهذا الإشكال مازال قائما في الثقافة العربية التي تتعامل برجع الصدى بعد أن يكون الفعل قد استنفد غرضه في الموضع التاريخي أو السياق الزمني له الذي أوجده داخل ثقافة معينة، وهذه الاستلافات قائمة إلى اليوم في الفنون المختلفة والأدب والعلوم كذلك. وهذا ناتج عن انقطاع العربي ليس عن التواصل مع المنتج الجمالي الغربي، بل لأن ذلك المنتج تم ويتم أصلا في بيئة ثقافية لها عمقها المعرفي والإنساني الذي لا يمكن الاستيلاء على سياقه ولباسه العام ومحاولة تلبيسه داخل ثقافة أخرى، وللأسف هذا ما يحدث، فالكثير من أشكال الفنون والأنواع الأدبية يتم نقله وبطريقة غير عميقة أساسا وبتقليد مشوه أحيانا بمحاولة استلهامه أو الاستقاء منه، والنتائج تكون كارثية من حيث الضعف والهشاشة والتشويه الذي يتم حيث تغيب الأصالة والعمق الذاتي والبعد الواعي للفعل الثقافي بما يشبه تغليف التفاحة بقشرة البطاطس.
كان الشابي ضحية مرحلة من مراحل النزوع نحو التحرر العربي والرغبة في إنتاج نهضة حضارية وتحرير الإنسان من سياقات الأمس، وكان ثمة ظن لدى البعض بأن ذلك لن يتم إلا بتهشيم الماضي واستبداله بصورة متخيلة أساسا هي غير مكتملة، لحاضر لا يمكن بأي حال أن يأتي من العدم، لأن النهضة هي مسألة نمو طبيعي وتراكمي وليست طفرة مشوهة ليس لها أصول ولا جذور ولا هدف. 
مع مطلع القرن العشرين، انحسر تيار الرومنطيقيا في الغرب، وأعلن الفرنسيون تذمرهم من استلاب عقل الإنسان ومنطقه وتخديره بالانفلات نحو الذات وتقييدها بفكر متوهم حول الحرية أو إشباعها بالعاطفة والانجرار الجامح نحو الخيال الذي يحاول أن يعقلن العالم من منظور الحنين والكآبة والحزن المفتعل أو التعلق بالأمل الكذاب أو الثورة العمياء التي تستعير نفسها من محاولة تقليد الصورة "الساذجة" التي تطرحها الطبيعة أو الحكمة المتوارثة حول النصر والهزيمة والانكسار أو الصعود للقمم والعلياء.
وقد كانت أشعار الشابي انعكاسا لكل هذه الأزمات والتقلبات في تلك المرحلة التاريخية ومحاولة انقاذ الذات من محيط الأزمة بالتعمق فيها، ففي شعر الشابي كان واضحا ذلك الملمح الذاتي من حيث رغبة الأنا في العيش المنفرد بعيدا عن المجتمع "في الغاب في الجبل البعيد عن الورى.. حيث الطبيعة والجمال السامي".. وإن كان ثمة ما يرد الإنسان عن ذلك فهو حنان الأم الذي يصد الأوهام وصغار الأخوان الذي يرون سلامهم معلق بسلام أخيهم الأكبر، وهي فلسفة تكشف عن الوصاية وأن لا حياة لهذه الأم ولا هؤلاء الصغار دون ذلك الراعي المفترض والمتوهم الذي يرى أن العالم لا يكون ولا يكتمل إلا دونه. وهو خيال يكشف في محضه عن فكرة الأبوة والسلطة التي تسيطر على الذهنية العربية، فالشابي حتى لو نزح للرومنطيقية الغربية إلا أنه مارسها بالنزعة التي جعلت ذاته أسيرة الأمس إذ كان صعبا نزع جينات الماضي وقرونا طويلة من التسلط المعلن ضد الفرد ومعناه، في ليلة وضحاها.
في مقابل ذلك وعندما يكون الحديث عن الثورة، أو "إرادة الحياة" كما يسميها الشابي، فإن الاستجابة معلقة بالقدر.. بذلك المجهول.. بحنين مجهول إلى الغائب.. حتى أن الاستعارة التي يطلقها لتشبيه الأمر بصعود الجبال أو العيش بين الحفر، لم تنفذ بعيدا إلى استقراء جمالي أو توليد خيال إبداعي جديد ومتوهج، فالصورة التي جاء بها لا تكاد تغادر "جلمود  صخر حطه السيل من عل" حيث أغلب الصور الاستعارية العربية كانت ولازالت تقوم على الثنائيات والمسطحات والمقارنة بين الشيئين، وليس على فرادة الأشياء كذلك لم تتحرر من الدراما الموجهة والبسيطة التي لا تستفز الذهن بقدر ما تكرس غائية ومنهج محدد وخطي.
كان التيار الرومنطيقي الذي يحاول أن يحرر العقل من خلال الفراغ، قد ساد لفترة من الزمن في الحياة العربية، بل غطى اتجاهات فكرية كذلك، وانعكس ذلك، على أن تعلقت الفكرة الجمالية باللجوء إلى الذات وانغلاقها على المعنى بأن الخيال ليس إلا أسير الرغبة في التحليق والصور القائمة على الثنائية ومحاولة تقليد الطبيعة وتأملها، والبحث عن الجمال بوصفه معتمدا على هبات الطبيعة فالبهاء في شروق الشمس والأصيل وزقزقة العصافير وهدوء الليل وسكنة الأرواح وخرير المياه، وغيرها من الصور التي لم تنزح إلى أبعد من محاولة التمثيل المباشر انعكاسا لمرآة مخلوق المعاين واليومي حول الإنسان منذ أزله في الأرض. وكأن هذا اكتشاف جديد أو سحر طارئ، والأسوأ أن الصور الذهنية للجمال ظلت معلقة بالنمطية فالقبح على سبيل المثال لا يمكن أن يكون جمالا، لو جاء في معطى فني. وهكذا. كما رأينا في مدارس فنية غربية في التشكيل حيث بإمكان جثث ضحايا المعركة أن يكونوا لوحة معبرة بدمائهم.
لم يتخلص الذهن العربي كما في أشعار إيليا أبوماضي من فكرة تنظر للجمال على أنه "كن جميلا ترى الوجود جميلا".. وأن الحياة هي تجليات المرئي.. كما في قصيدة "السماء" حيث تتجلى السماء وفق حرفة الإنسان أو عمله، فالراعي سماؤه مروج فسيحة خضراء.. ودائما كان نزوع إيليا إلى إعطاء الجمال والإبتسام وفك التجهم كمعادلات للوعي والاندماج في الحياة والاستمرار في العطاء والمساهمة الفاعلة والإيجابية فيها، فليس ثمة طريق آخر يمكن تجريبه سوى ذلك الفعل القائم على استعارة الأبيض دون الأسود. وإذا كان إيليا جاء ليعكس المنظور الرومنطيقي في التشديد على الحزن والكآبة كمعنى للاندغام في الوجود، فقد اتجه إلى المسلك المغاير الذي فتح الباب على مصرعيه للجمال والابتسام الذي جعل الأمل القديم المعلق على الرجاءات والأشواق والبكاء يقوم على المضادات تماما.
كل هذه المحاولات كانت تعكس لاواقعية في الفن، والمقصود بواقعية الفن ليس تماثل مع الحياة والمرئيات بل إنتاج الصور والتخييل الذي يجعل الفن قيمة لذاته بعيدا عن الاستناد على التوصيلات أو "اللنكات" بين النص وخارجه. أو العكس. هذا التيار الذي كان جزءا لا يتجزأ من ما يعرف بحركة التحديث أو محاولة فهم الحداثة في العالم العربي، أو البحث عنها من داخل التراث والقيم الموروثة، فدائما كانت المقاربات أو الحلول تتكلم عن التوليفات بين الأمس واليوم، دون التفكير في أن التحديث هو حركة ديناميكية تخضع لسياقات معقدة في المجتمع وليس لمجرد معادلة يمكن إنتاجها بسهولة لجمع المتناقضات أو البحث عن الوسط كفضيلة لا مثيل لها. وهذا جزء من المخيال الفني أو الجمالي الذي يقوم على النظرة نفسها في الثنائية وأن الحداثة كفعل جمالي أو غاية إبداعية لحياة جديدة أرقى هي التوسط بين حالتين أو نقطتين. وهذا لم يحدث في الغرب، فالتحديث في العالم الصناعي الغربي لم يأت وليد اكراه لزج القديم في الجديد أو البحث عن الباهر والرائع في الماضي لزعنفته في الحاضر، إنما قام على مساءلات مستمرة وصراع عنيف في بعض الأحيان بين التيارات الفكرية المختلفة في الحياة وترادف ذلك مع الممارسات وتراكم الخبرات ليولد الجمالية الجديدة للحياة المفترضة، وهو عملية مستمرة لم تتوقف بإنتاج ما عرف بالحداثة بل أن الحركة اتجهت لما بعدها.. وهكذا مع كل يوم تتعقد فيه الحياة وتتسارع بقدر ما تبطيء.
إن الاجتهادات التي قدمها أناس أمثال طه حسين الذي عرف بعميد الأدب العربي، استلف بعضها من الغرب لكنه لم ينجح في أن يقترب سواء من الفكرة الغربية أو نموذج مشرقي خاص، وهناك يشار بشكل واضح إلى القص والسرد عن طه حسين ومدى الضعف الذي يكتنفه، سواء في "الأيام" أو "دعاء الكروان"  أو "المعذبون في الأرض" وغيرها. فالرؤية الجمالية في هذه الأعمال بدائية إيقاعية تتمثل صور الاستعارة التقليدية ولا تتجه لإنتاج سياق معصرن وليد التجربة العميقة للذات والتراكم المفترض، وفي هذا الإطار يرى الدكتور إبراهيم عوض أستاذ النقد الأدبي بجامعة عين شمس في هذه النصوص "سذاجة فى تصوير الحياة والشخصيات وخَلَل فى البناء السَّرْدِىّ وعلوّ لغة الحوار كثيرا عن مستوى المتكلمين".. وأن قصة كـ "المعذبون في الأرض".. "مملوءة بالعيوب الفنية التى تنبئ عن أن طه حسين ليس قصاصا كبيرا". وهذا أمر مفرغ منه لأن طه حسين لم يتم تعريفه على أنه سارد أو قاص، كما أنه ليس شاعرا، في حين انه اكتسب موقعه من سياقات كلية تتعلق بالتفكير العام حول الأدب العربي خاصة في مشروعه حول الشعر الجاهلي.
لكن الملفت للانتباه في ذلك أن التجربة الأدبية العربية ظلت تتراوح بين هذه الرومنطيقية المفرطة عند الشابي وتمجيد الأحزان والانتباه للجمال والانفتاح باتجاه الاستعارات المستلفة من الطبيعة عند إيليا أبوماضي، وفي الإبداع السردي فإن طه حسين حتى لو لم يحضر في المشهد الروائي إلا أنه كان له أثر في المخيال العام بموقعه النقدي العام في حين أن مشروعه في كلياته يفتقد إلى التفكير الفاعل في المسألة الجمالية وتحرير الخيال بشكل عام، وهنا يمكن الاستشهاد بما توصل إليه الشاعر والناقد مجاهد عبد المنعم في كتابه "رحلة في فكر طه حسين" الصادر في 2001 والذي يعالج فيه  انكسار الثورة العقلية في مشروع طه حسين وكيف أن "غوغول العربي" لم يفلح في أن يطور مفاهيم النقد والإبداع والرؤية الجمالية وجدل الأدب والحياة بشكل عام. ويخلص المؤلف إلى الأفكار الآتية في نقد مشروع طه حسين وهي النقاط التي تصب في نقد المشروع التحديثي العربي الثقافي والجمالي، وتكرس لفكرة استمرار الخلل في التلقي الجمالي والذائقة الفنية والأدبية عموما.. لأن التأسيس الحقيقي لم ينرسم بعد:
-        يرى الكاتب أن طه حسين لم يطور مفاهيمه النقدية فهي ظلت شبه جامدة تدور حول النقطة المركزية نفسها، من اتخاذ العقل كمعيار للحقيقة وتبنى الفكر الديكارتي "الشك للوصول إلى اليقين".
-        يذهب إلى أن عميد الأدب العربي اعتمد الذوق الشخصي كمعيار في المسائل الفنية، وهذا بالطبع ينافي المنهج العقلاني الذي يدعو له، لأن العقل يفترض وضع السياق العام والخارجي في الاعتبار، أي إعمال مدرسة الاختلاف التي ترى أن الحقيقة يمكن رؤيتها من خارج الذات، وربما أن هذا المنهج في النقد لم يكن قد تبلور عالميا وقتها إذ جاء فيما بعد في أوروبا، فعربيا لم يكن ثمة تطور أو نمو للنقد ليسمح بالوصول للنتيجة التي تمت في ثقافة أخرى تشهد فاعلية وحراك بخلاف الركود والتوسع المحدود داخل نسق المعرفة العربية. 
-        كما ان الإعجاب والذوق الجمالي القائم على الذات، عند طه حسين كان بحسب المؤلف ينحو باتجاه تكريس موقف الوسط، أي الحلول القائمة على وجود ثنائيات ومراكز في الكون لكل شيء، لهذا برأي مجاهد عبد المنعم فإن طه حسين افتقد للأساس الموضوعي وقدم المواقف الوسطية بين القاهرة وباريس والأزهر وجامعة القاهرة، القديم والجديد، التراث والمعاصر، وبهذا انكسرت ثورته العقلية وانتهت إلى أن تقف في الوسط دون أن تبرح يمينا وشمالا. هذا الموقف الذي انعكس في تفكير عام في حركة الفكر التجديدي الذي نزع إلى محاولة فهم التراث ومحاولة إدماجه في الراهن، فدائما كان مفهوم التوسط أو الوسيطة قائما كما تم ربطه بالإسلام حتى في المفهوم الاقتصادي عندما كان الحديث عن أن جمالية الاقتصاد الإسلامي في كونه يتوسط الشيوعية والرأسمالية، وكان ذلك ردة فعل لحراك فترة البرود العالمي ما بين نزاع الشرق والغرب.
-        يرى الكاتب في دراسته "النقد الادبي والرؤية الجمالية" ضمن الكتاب المعني، أن طه حسين رغم عقله العملي الذي يمثل نقطة قوته إلا أن هذه النقطة نفسها هي مصدر الضعف، فإذا كان العقل العلمي لابد ان يسترشد بالنظريات إلا أن العميد في مشروعه النقدي تحديدا فيما يتعلق بالرؤية الجمالية، لم يكن مزودا بأساس جمالي أو نظرية يتبعها، ويفسر ذلك بغيبة عالم الجمال عن اهتماماته، وهذا انعكس على إنتاجه المعرفي كليا.
يقود ذلك إلى تشكيل مسرح عام يكشف لنا أن نمو العقل الناقد للجمال الذي يمكن أن يطور فيه ويقدمه بما يرفع الخيال ويسمو به إلى مساحة جديدة، ويخلصه من الإرث والصور الكلاسيكية والمقيدة، لم يكن بالمسألة السهلة، في ظل أن المركزيات المعرفية نفسها لم تكن في نقدها تهتم بهذا الشيء أو أن رؤيتها تقوم على ردة الفعل أو تنظر إلى مفهوم الجمال في الإطار التقليدي له.
من هنا فإن بدايات الفن الروائي العربي مثلا كما عند نجيب محفوظ استند على رؤية الجمال بداية بالتراث والموروث ممثلا في المكان سواء في عمقه التاريخي البعيد أو المكان كحاضر في العمارة المنظورة كما في زقاق المدق وخان الخليلي، وهذا جعل الصورة أو المشهدية في الاستطيقا المحفوظية تقوم على التوظيف المباشر لجماليات المكان المحتفى به، بحيث يكون هو البطل المركزي للأحداث وحركة التاريخ وتقلبات السياسي والاجتماعي، وبهذا فإن فكرة النص الروائي استندت في المعيار الجمالي على المنظور والمرئي والمعاش، ومحاولة الرصد وجعل خبرة الحياة هي أساس التعريف بالجماليات. وبالتالي فالذائقة هنا تقترن عند القارئ مباشرة، باسترجاع الصور والانعكاسات المرئية ومحاولة ربط سياق النص بحقيقة افتراضية خارجية، ما يعطل إعمال الذهن ويحرر الخيال لكي يكون وصيا على ذاته في الابتكار والتوليد دون الاعتماد على قوالب وتصورات ذهنية جاهزة.
إن انحسار التيار الرومانسي في الشعر والقصيدة لم يحرر الأدب والنقد ومجمل المفهوم الجمالي للحياة العربية من أثر تلك الفترة، فلاحقا كان شاعر مثل نزار قباني يكتسح الآفاق لقدرته على دغدغة مجرد المشاعر دون النفاذ العميق إلى طبقات اللاوعي وبرزخ الذهن البشري الذي يقوم على الوقوف في المساحات الفاصلة بين الحقيقة كاختيار وفرض. كما تجلى في مدارس فنية أوروبية كالسيريالية وأعمال بيكاسو التي أعادت تهشيم الصور البدائية للعالم الخارجي، أو كما في مدارس العمارة مثل التفكيكية المعمارية التي جعلت المباني القديمة تعود في صبغة حديثة بإدماجها في المحيط بطرق تبدو أشبه بالخدع، مثل تغطية مبنى اللوفر بهرم زجاجي عملاق..
لم تستطع الحياة العربية وفي مجمل صورها السياسية والاجتماعية والاقتصادية أن تتحرر من النمط وتتسامح مع نموها الطبيعي، بحيث تحولت اجتهادات البحث عن الجمالي في الحديث إلى عمليات مشوهة لم تفهم طبيعة المجتمع أو تساير حركته الذبذبية العادية، وحيث جاءت كحل نهائي أو إملاء فوقي ومتعالي تحاول نخب غير مؤسسة معرفيا بالدرجة السليمة تتنازع بين القديم والجديد، المتعالى والمحدود، الحلول الكلية والتجزئات، أن تفرضه كحتميات تاريخية. وهذا كان مرئيا في الفنون بشكل عام الأدبية والتشكيلية والسينما كذلك التي نزعت إلى الرومانسية والصراعات اليومية في الحياة دون أن تمس جذورها، بحيث ركزت على أغلفة كالحب الشكلاني والغناء والصور الذهنية المسبقة التي فرضتها لعقود طويلة بحيث أوصلت في نهاية المطاف الذوق العربي إلى ما هو عليه اليوم من "سذاجة الخيال"، باستعارة تعبير الشابي.
في مرحلة الستينات وبداية السبعينات مع صعود التيار المقاوم والتهاب جذور البعد القومي في الحياة العربية، كان المعنى الجمالي يتغطى بطبقات من التوحش الذي انكشف اليوم جليا، كان ذلك يحدث حتى لو بدا الخارج لطيفا ينزع لأفكار كبيرة كالبيت الواحد والوحدة، وكان الشعر قد بدأ يتسيد الموقف الجمالي الإبداعي في القصيدة الجديدة ذات الإيقاع والتفعيلة التي سرعان ما وجدت نفسها تقاوم الصمود أمام رغبات التحديث المستمر غير المؤسس له ودعوات تنظيرية تشكك في المشروع الجمالي والإبداعي العربي كأطروحات أدونيس الذي كان برأي البعض في درجة مطابقة من المستوى الذي حاول أن يقدم له الشابي من نقد التخييل العربي والحكم عليه بالسطحية، فقد اختصر أدونيس مثلا الشعر العربي بالقول: ".. وإذا عرفنا أن الجاحظ لا يُميّز الشعر والخطابة بل يرى أنهما واحدا أدركنا كيف أنَّ الشعر العربي يقوم على فضائل الأمية والبداهة والارتجال وهي فضائل لا يزال يعتمدها معظم العرب المحدثين قُراء ونُقاد وشُعراء".
هذا التقرير إن كان سديدا نوعا ما من حيث اتجاه الحداثة الشعرية إلى ما يشبه الارتجال والبداهة، وكونها لم تنفك عن الصور النمطية نفسها غير قادرة على إنتاج مخيال جديد، ومواكبة لما بدأ يتعقد على مستوى الخارج مع نشوء المدن العربية الجديدة ذات الكثافة السكانية الكبيرة والمركزيات وتعدد الصور والسرديات اليومية في الحياة وتغير أنظمة وأنماط الإنتاج وثقافة العمل الحديثة التي استبدلت الرعي والزراعة بالذهاب إلى المكتب والمصنع، والسيارة بدلا عن الراحلة؛ أو كما عبر الأديب السوداني طارق الطيب فـ "الجمل لايقف خلف إشارة حمراء" في مجموعة قصصية بهذا الاسم.. فقد ظلت هناك أزمة في تحديد أين يقف الكائن وأين يتحرك، لأن وجوده أصبح داخل نطاق جديد وغير مألوف زج فيه فجأة ودون مقدمات تراكمية، بمعنى أنه وجد نفسه فجأة في فضاء المدينة والحواضر المتناسلة، كل ذلك عطله عن التأمل القديم ذي الطابع الشعبي والحكائي المتناقل، في الوقت الذي جعله أيضا لا يرى السماء ولا نجومها ويفتقد البداوة والنمط الريفي للحياة، فصارت الصور الجمالية والمشاهد مختلة غير مؤسسة على نظر واضح في المعنى المتدثر وراء استطيقا الكائن الذي يتجسد من خلالها تعريفه ودوره في الحياة وعلاقته بمجازات الوجود عموما.
لم يعد الكائن الجمالي العربي – إن وجد – قائما على معنى أصيل أو حديث بالدرجة الواضحة فهو يتنقل في المساحات بين هنا وهناك، يفتقد لتعريف محدد أو كيمياء تفسره بالشكل الكافي، وتضافر ذلك الجنون في خلل المعيار الجمالي أو أنساق الوعي المعرفي بالجمال، مع موجات الصعود الكبير للأسئلة التي تحاول أن تؤسس وعيا بمن نحن في مسار التاريخ البعيد، بظهور عدد كبير من الكتابات التي تدور في فلك ما يعرف بسؤال "الحداثة" أو "النهضة الجديدة"، وكان الغالب الأعم هو التشكيك في التاريخ وجدواه، سواء تم ذلك بشكل مباشر وواضح أو عن طريق رسائل إشارية غير مباشرة، خشية المواجهة مع السلطة والتسلط، كما في كتابات نصر حامد أبوزيد وحسن حنفي وخليل عبد الكريم وقبلهم كان حسين مروة والاشتغالات التي قام بها محمد عابد الجابري في محاولة وعي العقل العربي، كما محمد أركون. هذه المشروعات ذات البعد النقدي في وعي العقل العربي وتاريخه ومساره عبر تلافيف الزمن، كانت بشكل أو بآخر تحاول فهم موقع الذات الجديدة في الحاضر وبالتالي إمكانية وعي المستقبل، وكانت المرتكزات الجمالية تشكل جانبا من هذا المشروع حتى لو لم تكن بالمعنى المباشر.
فعلى سبيل المثال فإن الاتجاه نحو التصوف أو إعادة إنتاج الصوفية بوصفها يمكن أن تشكل بديلا روحانيا لحل الأزمات المستعصية في إشكال الدين وموقعه في الحياة الإنسانية ودخوله المستعصي في فكر الدولة العربية الحديثة، كان هذا الاتجاه يماثله بدرجة ثانية من الوعي الجمالي لموقع الذات في العالم والأنطولوجيا عموما، الطريقة التي صاغ بها أدونيس مشروعه الذي وإن بدأ مهتما بالظاهرة الأدبية أو الإبداعية إلا أنه في السنوات الأخيرة اتجه وفي الخطاب الجماهيري العام إلى الدور الإصلاحي والتنويري الذي يكاد يماثل أدوار بعض رجال النهضة الأوائل في الغرب، في كيفية النظر إلى الحياة بوجهة جديدة من خلال غربلة الوعي وتحييد الدين وتخليص العقل من الفكر الخرافي أو الأسطوري، بأن يكون الجمال هو قيمة لحد ذاته منفصلة عن أي قيم أخرى متمثلة في تجليات الغيبيات التي يسعى بها البعض تفسير كل شيء حول معنى الحياة.
هذا الخلط والتداخل بين المشروع السياسي والغيبي كما في أطروحات الأخوان المسلمين مثلا وكما يتجلى في فكر رجل مثل سيد قطب بدأ أديبا وانتهى مفسرا للقران الكريم، قبله كانت ثمة إشارات جلية في هذا المنوال في الرجوع إلى الظاهرة الأدبية التراثية ممثلة في الكتابة عن الإسلام المبكر أو الصحابة وغيرهم، فهذا لم يكن بالموضوع الجديد، فلقد استغرق صاحب رواية "زينب" في هذا الشيء، واتجه ليتخصص في الكتابة عن الإسلام كذلك، كتب طه حسين مجموعة من المؤلفات المتعلقة بالتاريخ الإسلامي، وأيضا العقاد في العبقريات، وكان سيد قطب مثالا واضحا للهجرة تماما من الألف إلى الياء. وهنا يتموضع السؤال عن هذه الحركية التي تجعل المشروع الإبداعي أو الأدبي والجمالي لابد له أن يرتبط سواء عند قدماء أو محدثين في النهضة الحديثة بهذا الشكل الذي يجعل الدين وقيمه وتاريخه تكاد لا تنفك، حيث لم يتخلق مشروع أدبي أو فني بمعزل عن ذلك الميراث الذي لا يمثل هنا القيمة الروحانية، بقدر ما يذهب في كثير من هذه المعالجات إلى التمثل السياسي والتاريخ الذي يقوم على المعارك والدماء والحروب، وكاد نجيب محفوظ يقع في الإشكال نفسه عندما كتب رواية مثل "أولاد حارتنا" حاولت أن تتمثل السردية الأنطولوجية لوعي العالم عبر النص الديني، ونقده، ولم يسع إلى تشكيل مدونة منفصلة تمام الانفصال عن ذلك الميراث أيضا.
إن حقيقة الوعي الجمالي والمسار الإبداعي والتخييل العربي بشكل عام وإلى اليوم وعبر هذه النماذج وما جرى عرضه، تكشف أن هذه "الحقيقة" قائمة بارتباط كبير وبيّن بالوعي الديني كما أن الفكر الجمالي نفسه لا ينفك عن الوعي الكامل للنص المؤسس في التاريخ الإسلامي أي القران، فالشعر والسرد وكل هذه الفنون سواء ابتعدت أو اقتربت، كان لها مرجعيتها عبر هذا النص الذي أصبح المرجعية لوعي الجمال، لهذا كان سيد قطب قد راجع ضمن ما راجع وهو يتجه لبناء التصورات الجمالية حول العالم بعد أن تأسلم، القصص القراني والبناء الفني الذي تقوم عليه السرديات داخل النص القراني. وعموما لم يكن الخطاب الإبداعي ليتحرر من الفكر، فثمة تداخل كبير بين المفكر والأديب في الثقافة العربية، بحيث أن المرجعية تعود دائما لسؤال الأيدولوجية ودورها في الحياة، سواء كان إبعادا لها أم تقريبا لها. فمن طرف ما حتى ما يعرف بـ "الملاحدة" أو "العلمانيين" كانوا وما زالوا يؤسسون موقعهم من خلال نقض المشروع الجمالي القائم على العقيدة الدينية، دون أن يكون هذا البناء قائما بذاته بعدم الرجوع إلى مرجعية خارجية يستند عليها، وهنا عمق الإشكال.
فأدونيس الذي يسميه البعض بـ "النبي الوثني" ليس إلا أديب يتمظهر في تجلياته الواضحة في مشروع نقد الفكر الديني بالطريقة نفسها التي سبقه إليها منظرو التفكيك الديني أمثال نصر حامد وخليل عبد الكريم وغيرهما.  ففي معرض القاهرة للكتاب هذه السنة 2015 بالقاهرة، قدم محاضرة بعنوان "نحو خطاب ديني جديد" لخصتها رؤية مفاداها ضرورة قيام قراءة جديدة للدين تفصله عن الدولة، وليس هذا بالقول الجديد، والأمر الثاني أنه دعا إلى نشوء جبهة مدنية علمانية تكون شكلا جديدا من انتقاد الموروث وإعادة النظر فيه والتأسيس لقيم جديدة وعلاقات إنسانية جديدة ومجتمع جديد. وهنا سيقف المراقب أمام سؤال جدير بالتأمل، هل انتهت الأدونيسية في الرهان على النص والشعر والعالم الجمالي بأن تذهب مباشرة إلى عمق الأزمة، كما يرى الأغلبية وهي المسألة الجدلية القائمة على الدين؟ وبالتالي يتم التنازل عن الجمالي لصالح براغماتية الواقع وفروضه القاسية؟ وهل ذلك أمر أصيل أم أن تبعات انتكاسة الربيع العربي وهيمنة عصر التوحش والتطرف هي التي فرضت هذا التفكير بأن يكون الحديث عن الخلاص متعلقا فقط بالمعالجات الدينية البحتة، نظرية الفصل والإزاحة بين الدنيا والدين، أو بين العالمين السماوي والأرضي. وهو ليس بالحل الجديد ولا الأطروحة الحديثة، ما يجعل موضوع الجمال والأشكال الفنية والقوالب الأدبية وغيرها من الرهانات التي قيلت ذات يوم في المسار الإبداعي العربي الحديث كأنها تسقط اليوم، بحيث يكاد يكون الأدب والفن بلا قيمة أو أي دور في إحداث ثورة في المفاهيم الإنسانية برفدها نحو الأفضل.
إن المقولات الجاهزة والمعلبة التي تقال كعناوين أو فضاءات الحرية والديمقراطية وغيرها من المسائل المستعادة مرارا، يكشف ذلك عن ضعف في المخيلة العربية التي باتت عاجزة عن الخروج على القوالب والأنماط المتوارثة والتي يعاد إنتاجها بتأويل ضعيف، بحيث بات المقدس هو سمة كل شيء في حياة الشعوب، فالعربي لم يعد له سوى مقدسات في كافة تفاصيل وثنايا حياته ولم يعد يؤمن بسوى الأصنام التي تتمثل في شخصيات بعينها تدور حولها هالات الإبداع والقداسة والعمادة وكذلك مدارس فنية بعينها تفرض نفسها على أنها الأفضل أو مركزيات مكانية لم تبدأ في التزحزح إلا مؤخرا، في أن الفنون والآداب لها تموضعات جغرافية، هذا الفهم الذي لم ينزاح إلى اليوم بحيث الجغرافية دليل في تعريف الإبداع وتقسيم حظوظه بين البلدان العربية كما في نموذج الجوائز الأدبية.
ومن المؤسف أن الحلول المطروحة لتطوير الحياة عموما ويدخل فيها تطوير التخييل والنظرة للإبداع وحفز الجماليات، ما هي إلا مستعادات لم تشهد كثير قفزة باتجاه فكر جديد تماما، لا يعني مجرد القطيعة لأنه خصم مع إطار زمكاني معين، بل يعني غربلة شجاعة تنتقل بالذوات إلى محيط جديد تماما من رؤية العالم والحياة وتلمس الأفضل في بناء المستقبل الإنساني. فـكلمة "ساذجة/ساذج" التي وصف بها الشابي الخيال العربي، لا زالت صالحة فهي توصيف لمجمل المشهد في محاولة فهم أنساق الحياة وإيجاد الحلول سواء على صعيد السياسة أو الاقتصاد أو المجتمع أو الفنون أو الأدب أو العمارة، وغيرها. فالمحدد ما زال هو المهيمن والمسيطر، والمعرفة والأفق المستقبلي متعلق لحد كبير بالمدونة الدينية في كون حقيقة العالم ومعضلاته وعكس ذلك حلول مشكلاته لا يمكن أن تقوم خارج ذلك النطاق، وحتى لو حاول البعض أن ينفي ذلك فهو يقع فيه سواء شاء أم أبى.
إن النفاذ إلى قيم جمالية جديدة في الحياة العربية، ليس بالأمر الهين في ظل غياب التأسيس الذي ينطلق من تفكيك كبير وهائل لبنى الحياة والثقافة والأصول التي تشكل المعرفة الإنسانية، وليس هذا بعمل سهل يقوم على مجرد تنظير أو مؤسسات صغيرة، بل هو شأن جمعي كبير للدولة دور فيه من خلال إعادة تعريف التعليم والإعلام والمجتمع المدني، فاليوم لا يمكننا أن نفصل كل هذه الأنساق عن التطوير والتحديث والجمال الأخلاقي والقيمي والظاهري، ولو رجعنا للمجتمع العربي القديم جدا كما في العصر "الجاهلي/ قبل الإسلام" لإدركنا أن الشعر مثلا كان كمعطى جمالي لا يتجزأ من التصور العام التربوي والقيمي والإعلامي، بل هو الميثولوجيا نفسها التي تشكل وعي الإنسان بكل شيء من حوله. وهذا يكاد ينطبق على الإبداع في الحضارة الغربية بحيث تتداخل الأنساق والقيم الجمالية ويصبح ثمة مشروع واحد باسم الحرية والجمال والتحرر من الخوف والمضي نحو صناعة الذات المتفردة في إيجاد كينونتها وقدرتها على أن تخترق نواميس هذا الكون بكل وعي وقدرة على التفسير والاختراق وتحرير المعنى. وهذا يتجلى في الفنون الحديثة كما في الرواية أو المقالة الغنائية كأخر تجليات الفنون الأدبية، أو السينما أو مواقع الانترنت الشبكية ذات النصوص المتناسلة بشكل مخيف.
لن يتحرر الخيال أو يتطور الوعي والذائقة الجمالية المرتبطة به بمجرد أمنيات، كما أن المنتجات الأدبية والإبداعية والفنية عموما ستكون هزيلة مهما تعقد الواقع ودرجة توحشه، في غياب التفكير الخلاق الحر بدرجة كبيرة، بمعنى أن يكون هذا العقل حرا في تمزيق الثوابت والانتقال للمتغيرات وإعمال فكر التغيير والتجديد كقيمة في حد ذاته، وهي مستويات معقدة جدا من المعرفة والتداخل الشبكي المعقد في عالم اليوم الذي يصعب فيه فرز الحقائق من الأوهام في ظل التدفق المعلوماتي الهائل والوسائط اللامتناهية في إنتاج الأفكار والمفاهيم والقيم وتعريفها بوجهات كثيرة، بما يشبه نظرية الأكوان المتوازية في فيزياء ستيفن هوكينج، حيث لا شيء له تاريخ ولا محددات حتى الزمن نفسه الذي كان هوكينج قد كتب كتابا حول تاريخه، يبدو أنه سوف يشكك فيه الآن.
يرى البعض أن ثمة فكرة كانت رائعة في التاريخ الإسلامي والعربي مع بداية القرن الثاني الهجري عندما انفتح مشروع تحرري وجمالي يقوم على إعمال العقل وجعل الوحي شأنا بشريا يستند فيه كل إنسان على عالمه ومتخيلاته الجمالية وروحانيته، بحيث تكون النبوة بإعلان ختمها دلالة على الانفتاح الكلي باتجاه صياغة الجمال المطلق الذي يكون فيه الإنسان جزءا من الله والعكس صحيح بأن يتخلل الله العالم مرسلا لكلمته، وهو ما قاد رجلا كالحلاج إلى حبل المشنقة، وهو الطريق الصعب الذي كان على ابن عربي أن يسيره وغيره من أعلام التصوف الإسلامي. لكن التصوف نفسه لن يبقى إلا صورة ذهنية لما يفترض أنه كان، لأن حقيقة ما كان لا يمكن أن ندركها اليوم، فالنص شيء آخر هو تأويلنا وقراءتنا له وليس هو التاريخ أبدا حتى لو تداخل معه بدرجة ما. ومن الضروري الانتباه أن تلك الفترات الذكية من الإلهام يمكن حتى لو كانت مجازية أو هي مجرد سرديات متخيلة، أن تقود إلى تشكيل وعي جديد، وقد أشار أدونيس لذلك، وقبله كثيرون تحدثوا عن الانفتاح المعتزلي وأطروحات أخوان الصفا وكيف أن الفلسفة والحكمة تداخلت مع الكلام المتعالي وقتذاك في محاولة فهم العالم والذات، تزامن مع ذلك إحياء واحد من العلوم الاستراتيجية التي ذات ارتباط كبير بالتحرر من الإشكال التقليدية للوعي العلمي وهو علم الفلك، الذي اتجه في تلك الفترات إلى العلمية والمنطقية والمباشرة، متحررا من الخرافة والصور الكلاسيكية قبلها عن تعريف سكان بيت السماء من نجوم وكواكب وغيرها، فتم بناء المراصد الفلكية بدلا من التفكير في آلية رجوم الشياطين الواردة في النص القراني.
إن قراءة واقع اليوم في الترهل السياسي والتغييب الذهني الحادث رغم الانفتاح في العالم الآني بفعل الوسائط سهلة التناول والتعامل، بالإضافة إلى عشوائية الخطاب والحياة في البلدان العربية، واستمرار التخلف بشكل عام في الأنساق المختلفة، يكشف هذا المشهد برمته وخلاصته عن شعوب لم تتدرب بالشكل الكافي على وعي الجمال، فهي ما زالت تقيم الوعي على النسق الإيقاعي التقليدي الذي يقوم على مفهوم "القسطاس" والكفتين المتأرجحتين، ولم يتجه الوعي لأكثر من ذلك. نعم ثمة بعض المفارقين لهذا المسار لكنهم قلة، وفي النهاية فالحكم العام هو الغالب في أن ثمة عمل كبير يجب أن يبذل، لكي نصبح أمما أفضل من خلال التحرر وتحرير الخيال ليكون أداة فاعلة ليس على مستوى الأدب والفنون بل العلوم والتنمية الإنسانية وتوسيع المدارك لتصبح للحياة قيمة جمالية في حد ذاتها تعاش لأجلها، وليست مجرد حياة مكتنزة بالأضغاث والأحلام الجوفاء التي تفضي للفراغ، لأنها تفتقد للتأسيسات والمرجعيات القوية التي تجعل الكائن له إرادة التغيير بعد أن يكون حرا بحق ومتحررا من الخوف والأنا الانفعالية وردة الفعل البلهاء.
فنوننا هي الأخرى مطالبة بأن تتحرر كثيرا من الكلاسيكيات البائدة وأن تمضي نحو فجر جديد تستلهم فيه معنى الإنسان والكائن، وتستبدل المجازات البلاغية العتيقة بصور ومشاهد ومتخيلات غير منطوقة من قبل، وهذا لا يأتي بمجرد الرغبات والجلوس على قوارع الطرقات في إنتظار أن تمطر السماء فتوحات في النصوص واللوحات التشكيلية والخيال الشعري، فذلك هو وليد مماحكات يومية وصراع متأصل وقوي وشجاع بين الذات والعالم، ومجتمع يعرف كيف يقدر المواهب ويعزز مكانة الفن والعلم وأن كل منهما هو وجه مكمل للآخر، وأن موهبة الشاعر لا تقل عن موهبة الطبيب الحاذق في جراحته. بعيدا عن مجتمعات التشيء القبيح والنظر إلى المجتمعات وفق قاعدة الماديات في فهم الأمور وتقسيم الأرزاق الريعي وإقصاء الناس وجعلهم طبقات.
إن تاريخ الجمال لو تأملنا فيه بعمق لأدركنا أنه تاريخ الإنسان وهو يرغب في أن يكون له قدرٌ أفضل في غده، فكلما عرف كيف يفهم ميكانيكا العالم التي تجعله مرئيا وممتعا أو متخفيا ورائعا، كل ذلك يسوق الذات والكائن لكي يتدرج في المسارات من حالة إلى حالة ومن جذب إلى أعمق منه كما في عرفان المتصوفة والسيرياليين الجدد، إنه تحد ليس بالسهل أبدا، وقيمة لا تكتمل إلا بالمغامرات الكبيرة التي تؤمن بالإنسان قبل كل شيء. والمحزن المبكي أن الإنسان إلى اليوم في عالمنا العربي لم يصل ليكون هو المفردة ذات الأهمية العليا والدرجة المطلقة في الاحترام والتوقير، حتى لو أنه كان صاحب البطولة في الروايات والحكايات الشعبية والدراما، لأن الإنسان الحقيقي والمفترض لم يولد بعد سواء على صعيد الواقع أو النص، فالمتخيلات حتما سوف تكون عاجزة ما دام أفق الجمال محدودا وضيقا لا يتسع لغير البكائيات والندم والأمراض النفسية المستوطنة لدى شعوبنا والتي تمنعهم من التقدم. أمراض كالخوف من كل شيء، كالأنانية المفرطة، كخداع الذات بظن أنك تعلم وأنت لا تعلم، وغيرها من الأزمات اللامتناهية التي تصور في خلاصاتها مظهرا شاملا لأزمة عميقة في خلل العلاقة مع الكون عموما.
فالأفكار الكبيرة والرائدة والعظيمة لا تأتي من فراغ أو خواء، بل وراءها عقول عاملة ومفكرة وعظيمة، وخيال جامح يقوم على التحليق المنفتح والواعي وليس المقيد الذي يتمثل المرئيات ويقلدها، بل ذلك الذي يصنع استعارته الذاتية ويحكم بناءها ونسقها وينسج منها مسرحا لوجود مواز لوجودنا الحاضر في حد ذاته، وليست هذه القدرة بالبدائية كما يتصور البعض عندما يحاول أن ينظر مثلا إلى تاريخ الأساطير القديمة التي مثلت إزاحة للعالم المرئي بتفسيرات خارجه تماما، وتموضعت هذه النتائج الاستعارية بكافة ما تحمله من قصص وسرديات على أنها حقيقة العالم، عندما يكون للمعنى أن يولد من خارجه. أما اليوم فالميثولوجيا الجديدة هي أيضا تقوم على ما يشابه تلك الفترات السابقة، في أن يكون لدى الكائن القدرة على الاستحضار الجمالي والبناء العملاق لأكوان ورؤى وسرديات جديدة تكون ذات دور فاعل في فهم العالم وتفسيره والخروج به إلى مساحات مختلفة عما كان في التاريخ كذلك أثر اللحظة والدراما والافتعال. لقد فعل الغرب ذلك في ثورة الانترنت على سبيل المثال وفي مشروعات كبيرة كالفيسبوك، الذي تحول إلى خزانة كونية عملاقة لكل أحلام الناس ومعاشاتهم وحيواتهم بما فيها من خير وشر، فمن كان يتصور ذلك المخزن الكوني قبل سنوات. وهذا يجعل القيم التقليدية لوعي العالم لابد لها أن تتبدل، ولابد للخيال أن يعاد إخضاعه ليس لقالب جديد، بل أن القوالب نفسها تصبح مصدر شك وتشكيك.
لقد أوجد الإنسان المعاصر في عالم متحضر، يحترم العقل قبل كل شيء، قيمة للكون والذات البشرية من خلال رد الاعتبار للجمال والإيمان بأن الحرية هي الاختلاف. وأن الاختلاف يقوم على وعي الفنون والآداب والقراءة المتعمقة في التاريخ والنقد الفاعل الذي يصوب ويحلل ويحاول أن يصل إلى عالم آخر ومغاير للدارج والمرئي والمباشر، وهذه قيمة الفنون ومغزاها الأساسي في حياة البشر. وهي مجازات السرديات سواء السياسية أو الاجتماعية أو الأدبية، فليس ثمة حقيقة مطلقة اليوم أوتاريخ مؤكد، فالكل مشكك فيه وهي كذلك قيمة العالم المتحرر الذي يطلق للخيال العنان اللامحدد بحيث يكون المعنى الجمالي نفسه متغيرا بين هذه اللحظة وما بعدها بثوان، فالتحرك السريع للمعلومات يجعل القبض على المعرفة صعبا، كما يجعل النظريات تتغير بدرجة أسرع والتعمق يصل لمساحات غير متصورة لكل من رغب في أن يندمج في هذا المحيط العالمي الواسع، من رغبة الكائنات البشرية في أن تخلق لهذا العالم قيمة تاريخية من خلال الحضور، أو حضورا من خلال الزمن الافتراضي الذي مضى ولم يبق لنا أن نمسك به أبدا، بل أن نعيد إنتاجه وتخيله وتصوره بما نملك من ظنون إيجابية وملكات شاردة عن القيود والتحديدات والتصورات المسبقة.
إن الانطلاق من تصور سابق لأي شيء، هو الجهل نفسه، وهو يعني ببساطة أننا خارج الذائقة الفنية وخارج الجمال، ولن نكون سوى إضافات كمية لهذا العالم ليس لها من بعد رابع ولا خامس، حيث تظل مجسمة بحدود المكان التقليدي والفراغ الأقليدسي الذي ليس له من أي تصور خارج الممكن والمحدود، في حين أن المطلوب هو ذات مبدعة مفارقة، مغامرة، لها من الإيمان بالذات المشفوعة بالتأهيل والإحساس المستمر بأن العلم مسألة مستمرة والنقد إيجابي وأن المعنى يتشكل من التشكيك والتجزئة والتقسيم وليس من البحث عن الوحدة والهيئات الكلية الشاملة في منظورها القديم. نعم قد تكون ثمة وحدات كلية لكنها ليست تلك التي عرفناها أو ألفناها، لأن الفحوى الجمالية تغيرت لم يعد الكل بمعنى المجموع بل بمعنى التناثر، وهذا جزء من فرضيات العصر الشبكي، حيث يتوحد العالم في شبكة ليس لها من مركز أبدا.
ونصل إلى خلاصة أن العقل العربي اليوم يحتاج إلى آليات ضخمة في تعزيز القدرات وبناء وعي جديد يتجاوز الاغتيال والهواجس البليدة إلى مرحلة من الإيمان بدور الإنسان الفاعل المتسلح بالحكمة والجمال والذي يرى العالم من مناظير غير تقليدية ومن خلال فاعلية وأنساق معرفية حديثة، لا يكون العلم بها اجترارا بل محبة قائمة على التشرب والقدرة على النقد والتحليل والمراجعات فكمال الموهبة من تلك الخاصية المتعلقة بعدم الاستسلام، عدم الرضوخ والتكلم عن ثوابت أو أشياء معينة تشكل مرجعيات بعينها لتفسير العالم، فليس ثمة مرجعية في عالم اليوم سوف ذلك التغير السريع، تلك الذات التي لا تعرف سوى السؤال والنقد وأن تُسأل كذلك الأسئلة الصحيحة وليس التي تمارس التدوير لما سبق أن قيل، وهذا تحد كبير وعميق، سيكون ليس مسؤولية الأفراد المعينين أو من كان يطلق عليهم في أزمنة قريبة نخبا أو مثقفين أو أبطال أو قدوات، ليس لهؤلاء ذكر ولا مكان في عالم اليوم، وليس ثمة بطل واحد، هو ذلك الفرد الذكي واللماح والذي يتخيل بطاقته القصوى في أن يرى العالم في اللحظة الثانية أفضل من اللحظة الأولى، وعليه أن يشارك في تحويل هذا الخيال إلى طاقة جمالية لها مثول أمام التحديات ولها قدرة على أن تجعل الإجابات والقيم البديلة للخيال في الواقع، بأن تصبح ذات فائدة ونفعية في مستويات العلم والعلوم، وذات متعة وتسلية وثقافة في مستويات الأدب والفنون والمعارف الروحية. إنها سمة العصر الذي نعيشه الذي ما زال يتشكل والذي لم يصل بعد لمفاهيم محددة وهذا لا يعني الانتظار لأن حياة الفرد لا تقف وهي محدودة، بل يعني أن نبذل الطاقة ونحرر كل ما حولنا ما أمكن وقبل ذلك ما بداخلنا. 

نشرت بمجلة "مشارف مقدسية" العدد الخامس (5) - ربيع 2016م



   

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

راما رواية البليك تغوص في أسرار الخلود وتتجاوز قواعد السرد

  في طفولتها البعيدة وهي تلعب بين مزارع الفول والفاصوليا وتسبح أحياناً مع البنات في النهر ساعة الفيضان، لم تكن خالدة تتخيل شكل مستقبلها، توفى معظم من تعرفهم ويعرفونها، كانت تحب فصل الشتاء لأنه يسمح لها بالاختباء تحت غطاء اللحاف، لتحلم، كانت طفولتها وشبابها مليئة بالفوضى فهي بنت الجزار الذي في لمحة بصر ومحض الصدفة تحول ضمن الحرس لشخصي لوزير مهم، هي بنت المرأة الطيبة القادمة من رحم الرق والبؤس، جد كان شحاذاً وتفاصيل مربكة استمرت إلى أن وجدت راجا الهندي الطيب تاجر المجوهرات، تكتمل الفرحة بميلاد الطفلة راما، الاسم المقتبس من الخلود بقداسته وأسراره. حياتها الجديدة لم تنسها ماضيها حكايات الخالة الصحفية المناضلة عوضية، والعم الذي مات بمرض لم يمهله كثيراً وسفيان، الأخ المولع بالفن والغناء، كثيراً ما يسير الماضي كشريط سينمائي بمونتاج محكم متداخل الأزمنة. كثيراً ما كانت تشعر بوخزة في صدرها وأن هنالك ما هو مؤلم في مقتبل الأيام، يموت الأب في حادثة مفجعة وهي طالبة جامعية، بكته رغم أنه لم يعد ذلك الأب الطيب الذي كسر الأعراف والتقاليد وانتصر للحب منذ أصبح من الحاشية ومرافقاً للوزير في كل أسفاره....

عن رواية الامام الغجري للكاتب عماد البليك، بقلم: فخر الدين حسب الله

في روايته "الإمام الغجري" التى يمكن وصفها بالرواية الواقعية، حيث تتحرك في جغرافيا وتاريخ محددين (السودان، 1821_الى الان)، يسرد البليك في متعة متناهيه تفاصيل الكثير من الأحداث التاريخية في السودان الحديث في رحلة البحث عن سر الغموض الذي يلف غياب أحد الرموز الدينية، الطائفية، السياسية.. واسمه الإمام سفيان النصري (الغجري). تبدأ أحداث الرواية عن صحفي سودانى، يحاول أن يكشف القناع والأسرار حول غياب الامام الغجري قبل عدة عقود، ليجد نفسه أم ام ملف شائك، شديد التعقيد . الصحفي بعد أن أمسك ببعض الخيوط وقبل أن تكتمل، اغتيل قبل أن ينشر ما لديه، اصابع الاتهام تتجه الى السلطة الحاكمة، فالنظام يقبض علي حرية النشر، ويضيق على الحريات، ويمنع الحديث حول غياب الإمام. وللنظام سوابق في الاغتيالات والتعذيب، فقد اغتيل صحفيون من قبل. يلجأ آخرون ينتمون إلى مؤسسات الدولة الحديثه الي عملية تحضير الأرواح لمعرفة ماذا كان يريد أن يقول الصحفي.. تسير الرواية بأقوال روح الصحفي.. لتحكى الروح حقيقة ما جري مضافا إليها خواطره وآرائه . تكشف الرواية عن الحبل السري بين السياسي ورجل الدين وانع...

المناورة والطريق الأفضل.. إلى حمدوك مرة أخرى

لقد أهتم العلماء في فترة التنوير الأوروبي بالطبيعة، والأحياء، كيف تشكلت في الماضي. في سبيل السيطرة على المستقبل، لأن أدراك نسق التشكيل في التاريخ، يقود إلى التحكم في القادم.   قبل أن يأتي داروين الذي كسب شهرة كبيرة بنظرية التطور، جرب آخرون أغفلهم التاريخ هذا النمط من التفكير، ومنهم جان باتيست لامارك، الذي يعتبر أول من استخدم مصطلح البيولوجيا بالمعنى الحديث. وكان تقريبا أول من صاغ نظرية شبه متكاملة في التطور الإحيائي. استهل بذكر لاما رك، للاستشهاد بمقولته: "هل نتحرك أفضل حين تتقطع بنا السبل ولا نجد مخرجا.. عندما يتغير كل شيء؟" الفكرة تقوم على أن الكائنات في محيطها الطبيعي، دائما ما تلجأ إلى الحل في ساعات الاستعصاء القصوى، عندما يتبدل كل شيء تماما. تصل ما يمكن الاصطلاح عليه بلحظة "التلاشي". هنا تناور بطريقة جديدة. تستخدم كافة السبل الممكنة التي لم تخطر من قبل، وتستطيع أن تحدث انقلابا في الطبيعة نفسها لصالحها. هذا الأمر ينطبق ليس على الحيوانات والأحياء في فطرتها. بل على المجتمعات، ففن المناورة في "المساحات الصغيرة" أو "الفرص المعتمة" يقود إل...