التخطي إلى المحتوى الرئيسي

ما بعد الحداثة .. نسخ الآيات أو نسيها !



في حوار أجرته قناة "الـ بي سي" اللبنانية مع أدونيس، قبل عدة سنوات تحدث عن أشياء كثيرة. وإذا كان الرجل يكرر ما يقول ولكن بطريقة ابتكارية وذكية تكشف كل مرة عن جديد في معطيات الحياة الإنسانية والفكر بشكل عام. إلا أن أهم سمة يتمتع بها أدونيس هي أنه يعمل دائما على قتل الثوابت ليس بهدف نفيها وإنما لأن "الثابت في حد ذاته" متحول، ولأنه قابل لأن يتحرك فيكتسب في كل مرة جمالية وقدرة على النفاذ بحيث يصبح له معنى مختلفا وقدرة على اختراق العقل بطريقة مدهشة.

عماد البليك مع أدونيس
 
ونعرف تماما أن الرجل أسس منذ فترة مبكرة لنظرية "الثابت والمتحول" في الثقافة العربية وهو عنوان كتابه الذي كان في الأصل أطروحة لنيل الدكتوراه.

تحدث أدونيس عن مفصليات مهمة في الثقافة الإسلامية، تبدأ من فكرة الله وتنتهي بفكرة "انحطاط العرب" أو بمعنى أدق "انقراضهم" وهو الانقراض الذي يعني به توقف القدرة على التفكير الإبداعي.

وما كان أدونيس يتخيل أن العرب "المنقرضون" سوف يثورون ذات يوم، ويخرج منهم جيل جديد كما حدث في مصر وتونس. ولهذا قال في برنامج روافد بقناة العربية إن ما يحدث ليس ثورة وإنما تمرد لأن الثورة تحتاج إلى شروط فلسفية ونظرية هي غير متوفرة في سياق ما يحدث الآن، أما التمرد فهو مجرد رفض بأي شكل كان وليس بالضرورة له مضمون أو محتوى فكري.

عودة إلى الماضي والحوار القديم يرى أدونيس أن السبب الرئيسي وراء التخلف العربي يتعلق بأزمة النص.. والمعني النص القرآني الذي بات أسير الأمس في تأويله وفي انفتاحه، في ظل تغير شرطيات الحياة وتحولاتها الضخمة.

وإذا كانت واحدة من المقولات الأسيرة لدينا أن "القرآن صالح لكل زمان ومكان" فرد أدونيس "ما ننسخ من آية أو ننسها نأتِ بخير منها أو مثلها".. وهذا المعنى وأنا أسمع لأدونيس كأنما أراد به أن يقول أن القرآن يجدد نفسه، فالنسخ والنسي هما سمتان بشريتان، وألا كان ذلك يعارض قول الله تعالى "وتمت كلمة ربك صدقا وعدلاً لا مبدل لكلماته".

وبتحليل أدق فالثابت هو "كلمة الرب" والمتغير هو "الآية" وهي معنى مفتوح هنا لا تعني مجرد الآية القرانية بمعناها الدلالي الكلاسيكي، وإنما تعني الآية التي تتجدد بتجدد الحياة الإنسانية وتتحول مع تحول متطلبات الكائن البشري  .

مثل هذا التأويل البسيط يمكن أن يفتح القراءة إلى نقطة مهمة أشار إليها أدونيس وهي أن النص القرآني يجب أن تعاد قراءته ليواكب الحياة الإنسانية في آخر تجلياتها، وهي المرحلة التي اسماها (ما بعد الحداثة) ووصفها على أنها (مرحلة التجريب والفوضى الخلاقة).. وحتى لا نضل في المعنى فالمقصود أن الحداثة كانت بناء استاتيكي جامد، في حين أن "ما بعد الحداثة" ليست بناء في حد ذاتها بل هي ثورة على القيم والتقاليد والأنماط.. ومفهوم الثورة هنا يعني البحث عن الجديد، وطالما كان الإنسان باحثا عن الجديد فهو وفق المفهوم القرآني أو مفهوم النص يعمل على نسخ الآيات ونسيها.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

فصول من رواية "دماء في الخرطوم" الصادرة عن دار الفارابي

واحد   داخل المكتب المؤثث على طريقة عصرية، بديكور داخلي راقٍ، رنّ الهاتف النقال على الطاولة الخشبية لأكثر من مرة قبل أن يضغط عبد الحفيظ على الزِر ليردّ على المتحدث من الطرف الآخر.. لقد جرت العادة ألا يستقبل أي مكالمة من رقم مجهول بالنسبة له، لكن إصرار المتصل على تكرار المحاولة للدرجة التي استفزّت المجموعة الجالسة حول طاولة الاجتماع، جعلت عبد الحفيظ يردُّ أخيراً: - عفواً.. من يتحدث معي؟ قالها هكذا، دون أن يردَّ تحية المتصل. - معك اللواء طه عبد الرحمن مدير عام الشرطة. قبل أن يكمل، كان عبد الحفيظ قد نهض من على الكرسي الدوّار، وبحركة لا شعورية جرّ الكارفته تدريجياً إلى أسفل، قائلاً: - نعم سيدي.. تفضل، ما الأمر؟ ليس من عادة عبد الحفيظ أن يطيل المكالمات، لقد تعلم هذه العادة من سنوات عمله بالولايات المتحدة أثناء تدرّبه في إحدى الشركات هناك، بعد أن أكمل دراسته في الهندسة المدنية، قبل أن يعود إلى الخرطوم قبل شهر من الآن، لينشِئ شركة للمقاولات بإمكانيات مادية كبيرة. بدا له أن الضابط مرتبك وغير قادر على الإفصاح، ولثوانٍ ظلّ صامتاً، فيما كانت المجموعة الأجنبية الجالسة ح...

هل نضب الخيال؟

إشكاليات الذائقة الفنية والتلقي الجمالي عند العرب عماد البليك: منذ أن قدم الشاعر التونسي أبو القاسم الشابي أطروحته الجمالية حول "الخيال الشعري عند العرب" وخلص إلى أن الأدب العربي لا ينظر إلى المستقبل ولا ينفذ إلى صميم الأشياء وأنه "كلمة ساذجة" فإن الموقف لا يغادر موقعه، فالإشكاليات لاتزال قائمة إلى اليوم، والبحث عن تحرير الخيال لا يزال معطلا، كما أن الذائقة الفنية والجمالية تقاوم معوقات متجذرة يبدو الفكاك منها صعبا رغم الانفتاح الذي أتاحته الوسائط الحديثة للتلقي والمعرفة.  وإذا كانت مائة سنة تكاد تفصلنا، عن أطروحة الشابي، أي ما يقارب القرن، فالسؤال القائم ما السبب الذي عطّل مشروع الإنتاج والتلقي الجمالي عند العرب، ولماذا هم إلى اليوم يتعاملون مع العالم على أنه أقرب إلى المسطحات والثنائيات منه إلى شيء عميق له أبعاد متعددة وأوجه متنوعة، وهذا ينطبق على الممارسة الفنية كما ينجر بدرجة أوضح على استقبال الرسائل الجمالية أو الفنية، سواء أنتجت في محيط عربي أو عالمي. كانت فكرة أبوالقاسم الشابي تقوم على الخلاصة التالية: "قد انتهي بي البحث في الأدب...

Notebooks of Maladies

  Translated by   ELISABETH JAQUETTE 1—Idiot The oldest boys in the neighborhood—“bullies,” as our Egyptian neighbors would say—chased that boy… chased me .   I’d long been obsessed with watching Egyptian TV shows and films, sneaking into the cinema to see them because in our house it was forbidden… “forbidden, boy, to go there.ˮ According to my mother, grandmother, and the other women in the neighborhood, screens are the devil’s handiwork: they corrupt good boys and girls. Of course, they’re poor women, without an ounce of luck.  Since we’ve mentioned girls, the truth is that I’m as afraid of them as of the boys who chase me, but it’s another type of fear. It’s more like dread, the idea of standing in front of an incredibly beautiful girl and saying to her, as people do, “I love you.ˮ I’ve practiced a lot in the bathroom while masturbating, but nothing’s changed; white water flows, mixing with the poorly made soap, and in the end, I realize that I’ve lost the i...