التخطي إلى المحتوى الرئيسي

أين يعيش الكاتب ؟

أين يعيش الكاتب الحقيقي ولأي وطن ينتمي؟ وما هي حدود الأزمنة والأمكنة عنده؟

لزمن قريب كان ثمة من يعتقد أن الكاتب هو ابن الجغرافية والمحل والمكان، ولتاريخ عميق فإن العارفين يدركون أن مهنة الإبداع والكتابة هي تخييل عارف، يتجاوز حدود الراهن والنقطة الإحداثية، التي تقف عندها الذات.

فمنذ الكتابات المقدسة القديمة والمخطوطات التي خلفتها الحضارات الشرقية، نجد كيف أن الإنسان نزح نحو البحث عن عوالم جديدة وأماكن غير مكتشفة، وأوجد أزمنة خارج المألوف، كتب دانتي عن الجحيم، وأبو العلاء المعري كذلك. وكتبوا عن بلاد ليس لها وجود سوى في الخيال، وعن السندباد ورحلاته العجيبة، وكيف تتكلم الحيوانات على لسان ابن المقفع في «كليلة ودمنة».

كل هذا الابتكار يعني أن الأثر السردي الإنساني هو طاقة تتجاوز حدود الممكن والعادي والمألوف والمؤقت واللحظي والآني وغيرها من مفردات بذات المعاني وسواها؛ بهدف اكتشاف ما وراء ذلك من الزمكان، إنها الرغبة الملحة في الكشف المستمر عن خاصية الحياة والمعنى والأنا والجنون البشري.

وفي العصر الحديث فإن كاتبا مثل باولو كويلهو يعبر عن تجلٍ لهذه الصورة. الكاتب الذي يعبر الأزمنة والأمكنة ليكتب نصوصه، في التاريخ وعبر القارات المتعددة، دون أن يقف إلا مُخلّصاً لمشروعه الكتابي. بغض النظر عن الملاحظات النقدية التي يمكن أن تقال عن رواياته؛ في كونها ذات بعد رسالي أو تبشيري أو غيره، وهو أمر قد لا يكون دقيقاً.

استطاع كويلهو أن يرسم علامة على الكاتب المثابر الذي يُجرّب كل شيء، من الخرافة إلى الميثولوجيا إلى الحقيقة الواقعية بمفهوم الواقع داخل النص، إلى التحليل النفسي، إلى الكتابة عن الشخوص الحاضرة والمعاشة مثل عمله الأخير عن الرئيس الجزائري.

إن الكاتب المستقبلي والجاد يعيش داخل اللغة، فهي عالمه الذي من خلاله يحلق في الآفاق، ومن خلال نوافذه يطل على العالم الخارجي، وإذا ما كانت اللغة محدودة إلا أنها منفتحة بالتأويل، وهذه هو سحرها وجمالها، بحيث أن العالم كله في نهاية الأمر يتم تغليفه داخل المجازات.

وبفهم أن النص ما هو إلا مجاز كبير لمحاولة الإدراك والوعي والتماهي مع جملة الأساطير التي تحيط بالإنسان في واقعه، كذلك التجليات لما يمكن أن يعاش أو يفترض، فإن الكتابة تصبح عملا إنسانيا غارقا في التداعي باتجاه الاكتشاف، تحرير المعاني وابتكار المجازات وصناعة الذات الجديدة، وقبل ذلك المحو والإضافة.. تركيب العالم وفق صياغات أكثر أنسنة وجمالا وأسطرة، عندما تصبح الأسطورة أجمل ما في العالم.. تصبح هي النص الغائب والحاضر.

 نشر المقال في صحيفة الوطن القطرية

http://www.al-watan.com/news-details/id/70555

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

فصول من رواية "دماء في الخرطوم" الصادرة عن دار الفارابي

واحد   داخل المكتب المؤثث على طريقة عصرية، بديكور داخلي راقٍ، رنّ الهاتف النقال على الطاولة الخشبية لأكثر من مرة قبل أن يضغط عبد الحفيظ على الزِر ليردّ على المتحدث من الطرف الآخر.. لقد جرت العادة ألا يستقبل أي مكالمة من رقم مجهول بالنسبة له، لكن إصرار المتصل على تكرار المحاولة للدرجة التي استفزّت المجموعة الجالسة حول طاولة الاجتماع، جعلت عبد الحفيظ يردُّ أخيراً: - عفواً.. من يتحدث معي؟ قالها هكذا، دون أن يردَّ تحية المتصل. - معك اللواء طه عبد الرحمن مدير عام الشرطة. قبل أن يكمل، كان عبد الحفيظ قد نهض من على الكرسي الدوّار، وبحركة لا شعورية جرّ الكارفته تدريجياً إلى أسفل، قائلاً: - نعم سيدي.. تفضل، ما الأمر؟ ليس من عادة عبد الحفيظ أن يطيل المكالمات، لقد تعلم هذه العادة من سنوات عمله بالولايات المتحدة أثناء تدرّبه في إحدى الشركات هناك، بعد أن أكمل دراسته في الهندسة المدنية، قبل أن يعود إلى الخرطوم قبل شهر من الآن، لينشِئ شركة للمقاولات بإمكانيات مادية كبيرة. بدا له أن الضابط مرتبك وغير قادر على الإفصاح، ولثوانٍ ظلّ صامتاً، فيما كانت المجموعة الأجنبية الجالسة ح...

هل نضب الخيال؟

إشكاليات الذائقة الفنية والتلقي الجمالي عند العرب عماد البليك: منذ أن قدم الشاعر التونسي أبو القاسم الشابي أطروحته الجمالية حول "الخيال الشعري عند العرب" وخلص إلى أن الأدب العربي لا ينظر إلى المستقبل ولا ينفذ إلى صميم الأشياء وأنه "كلمة ساذجة" فإن الموقف لا يغادر موقعه، فالإشكاليات لاتزال قائمة إلى اليوم، والبحث عن تحرير الخيال لا يزال معطلا، كما أن الذائقة الفنية والجمالية تقاوم معوقات متجذرة يبدو الفكاك منها صعبا رغم الانفتاح الذي أتاحته الوسائط الحديثة للتلقي والمعرفة.  وإذا كانت مائة سنة تكاد تفصلنا، عن أطروحة الشابي، أي ما يقارب القرن، فالسؤال القائم ما السبب الذي عطّل مشروع الإنتاج والتلقي الجمالي عند العرب، ولماذا هم إلى اليوم يتعاملون مع العالم على أنه أقرب إلى المسطحات والثنائيات منه إلى شيء عميق له أبعاد متعددة وأوجه متنوعة، وهذا ينطبق على الممارسة الفنية كما ينجر بدرجة أوضح على استقبال الرسائل الجمالية أو الفنية، سواء أنتجت في محيط عربي أو عالمي. كانت فكرة أبوالقاسم الشابي تقوم على الخلاصة التالية: "قد انتهي بي البحث في الأدب...

حوار عماد البليك في مجموعة "يلا نقرأ سودان"

رتب للحوار وأعده وأجراه بشكل رئيسي جعفر عبد الله جعفر جعفر عبدو: الاسم بالكامل، تاريخ الميلاد، المراحل التعليمية، الإقامة الحالية، الحالة الاجتماعية . عماد البليك: شكرا الاخ جعفر على الدعوة لهذا الحوار، اسمي عماد الدين عبد الله محمد، البليك هو لقب جدي محمد، درست مراحلي الاولى في بربر بنهر النيل والجامعة بالخرطوم، كلية الهندسية معمار، اقيم حاليا في مسقط بسلطنة عمان، متزوج واب لطفلين مهيد 5 ومهيار 9 زوجتي ام سلمة عبد المنعم ابوسبعة. جعفر: لماذا اخترت الكتابة والعمل الصحفي رغم دراسة الهندسة؟ عماد البليك: خيار مبكر، رغم انني كنت احب الفنون والرسم وامتحنت مادتها في الثانوية، لم اكره المعمار وما زلت احبه لكن في اطاره النظري، بالنسبة لي نما حب الكتابة وتعلقي بالصحافة معضدا بسنوات الجامعة، حيث كان يومي ينقسم بين المدرج ومكتب الصحيفة، وهكذا وجدت انني صحفي.. ان هذا ما يمكن لي ان انجح فيه. فالحياة لا تحتمل مسارات متعددة. وقد كان للكتابة ان تأخذني وتتكامل مع الصحافة واستفدت من ذلك كثيرا في تجربتي الابداعية. جعفر: ما هي اول رواية قمت بكتابتها؟ عماد البليك: رواية اسمها الحصاد و...