التخطي إلى المحتوى الرئيسي

الإنسان والعقل

شهد القرن الحادي والعشرون انفتاحا كبيرا في العلوم المتعلقة بالدماغ البشري، بطريقة مذهلة، ويكفي أن تتابع بضع قنوات على اليوتيوب لتكتشف حجم هذا التطور الخرافي، الذي لا يهتم بتاريخ الدماغ ولا طريقة عمله ولكن بإمكانية استثمار هذه «الآلة» الخرافية، التي ينزع العلم الأكثر حداثة إلى تحريرها من كونها مجرد آلة إلى عضو معقد من مفردات هذا الكون الغريب.
يبدو أن رحلة الإنسان مع العقل ومنذ فجر التاريخ، هي الطريق الذي قاده إلى الحضارة والمعاني الإنسانية، وهو المسار الذي جعله مميزا عن بقية المخلوقات، الحيوانات.
فالإنسان هو ابن العقل والضمير والقلب والروح، وكلها مفردات قد تقود للمعنى نفسه في العلوم الحديثة، باعتبار أن مركز الوعي والإرادة والحركة والألم والفاعلية والحساسية وكل الصفات الممكنة وما سواها، هو ذلك الجهاز القابع في الجمجمة، في رأس الإنسان.
لكن اكتشاف العقل عبر التاريخ استغرق قرونا طويلة وما زال الإنسان قاصرا أمام ما يمكن أن يحمله الدماغ البشري من معجزات يتاح له أن يقوم بها، لتحال من طور الإعجاز إلى الواقع، مما يمكن أن يراه بعض الناس قدرات سحرية أو خارقة، في حين أن ما وراء ذلك ليس إلا القدرة العجيبة لهذا الجهاز المخلوق، الذي مهما استهلك الإنسان من طاقة وبذل من جهد لا يكاد يستهلك طوال عمره ولو بلغ التسعين، سوى ما لا يتجاوز بضع واحد بالمائة من قدرة هائلة وغير محدودة، تتوسع تدريجيا مع العمل والتشغيل بدلا من أن تستهلك.
فالعقل البشري وبعكس الأجهزة الذكية وغيرها لا يستنفد مع الفعل المستمر، إنما يكتسب مزيدا من الطاقة والإحالات التي تقوده إلى مزيد من التشبيكات الرائعة، التي من خلالها يكون للإنسانية أن تدخل مساحة جديدة من الإبداعات والتصورات والفنون اللامتناهية، التي تكشف عن حلم الكائن المستمر في أن يضع نفسه سيدا لهذا العالم.
إن القدرات التي يحملها الطفل على سبيل المثال، هي شيء لا يمكن وصفه، بحيث يمكن لنا أن نتكلم عن طاقة يمكن أن تماثل عقلا كليا لمدينة كبيرة وعميقة من حيث التشابك والبنائيات الذكية، ولا يمكن أن نتخيل ذلك بسهولة، لأن ذلك الاكتشاف العميق يجري في المعامل ويعرفه المختصون بدرجة واضحة ويرونه من خلال سحر الإنسانية الغريب، الذي يحمل في كل يوم جديد، المزيد من الإضاءات لهذا الوجود، بقدر ما يعمل على تعقيده.
وفي مقابل كل ذلك، فالمطلوب منا توظيف هذه الطاقة الخلاقة واستثمارها بالشكل الذي يجعلنا أناسا فاعلين في الحضارة، بأن تمضي كل دقيقة من عوالمنا في فكرة مفيدة ومثمرة وبداية جديدة لاكتشاف آخر وغير متوقع.
نشرت بصحيفة الوطن القطرية 


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

فصول من رواية "دماء في الخرطوم" الصادرة عن دار الفارابي

واحد   داخل المكتب المؤثث على طريقة عصرية، بديكور داخلي راقٍ، رنّ الهاتف النقال على الطاولة الخشبية لأكثر من مرة قبل أن يضغط عبد الحفيظ على الزِر ليردّ على المتحدث من الطرف الآخر.. لقد جرت العادة ألا يستقبل أي مكالمة من رقم مجهول بالنسبة له، لكن إصرار المتصل على تكرار المحاولة للدرجة التي استفزّت المجموعة الجالسة حول طاولة الاجتماع، جعلت عبد الحفيظ يردُّ أخيراً: - عفواً.. من يتحدث معي؟ قالها هكذا، دون أن يردَّ تحية المتصل. - معك اللواء طه عبد الرحمن مدير عام الشرطة. قبل أن يكمل، كان عبد الحفيظ قد نهض من على الكرسي الدوّار، وبحركة لا شعورية جرّ الكارفته تدريجياً إلى أسفل، قائلاً: - نعم سيدي.. تفضل، ما الأمر؟ ليس من عادة عبد الحفيظ أن يطيل المكالمات، لقد تعلم هذه العادة من سنوات عمله بالولايات المتحدة أثناء تدرّبه في إحدى الشركات هناك، بعد أن أكمل دراسته في الهندسة المدنية، قبل أن يعود إلى الخرطوم قبل شهر من الآن، لينشِئ شركة للمقاولات بإمكانيات مادية كبيرة. بدا له أن الضابط مرتبك وغير قادر على الإفصاح، ولثوانٍ ظلّ صامتاً، فيما كانت المجموعة الأجنبية الجالسة ح...

​Book Review: To New York in 87 Days - Wisdom from the sea

  Ossama Lotfy Fateem   , Tuesday 13 Dec 2022 Ila New York fi 87 Yawman (To New York in 87 Days), Emad Blake, Alexandria: Ibiidi Publishing, 2019 Share Facebook X WhatsApp Telegram LinkedIn   The sea has always been an inspiration for writers. Commanding ships, reaching ports, and living the non-traditional life between land and sea were pictured mostly as a triumph for mankind over the sea. Novels like Moby Dick, Treasure Island, The Oldman and the Sea -- to name a few -- are masterpieces that continue to inspire readers and writers alike. In their footsteps Emad Blake wrote To New York in 87 Days. The novel presents two facts: the first Omani and Arab ship, Al Sultana, to reach New York was in 1840; and the main character Ahmed Ben Nooman Al-Kaabi was the chief officer of the ship.  In the book, the reader cannot tell facts from fiction. The author manages to get the reader involved in the journey, its details, and the characters that were instrumental in making th...

Notebooks of Maladies

  Translated by   ELISABETH JAQUETTE 1—Idiot The oldest boys in the neighborhood—“bullies,” as our Egyptian neighbors would say—chased that boy… chased me .   I’d long been obsessed with watching Egyptian TV shows and films, sneaking into the cinema to see them because in our house it was forbidden… “forbidden, boy, to go there.ˮ According to my mother, grandmother, and the other women in the neighborhood, screens are the devil’s handiwork: they corrupt good boys and girls. Of course, they’re poor women, without an ounce of luck.  Since we’ve mentioned girls, the truth is that I’m as afraid of them as of the boys who chase me, but it’s another type of fear. It’s more like dread, the idea of standing in front of an incredibly beautiful girl and saying to her, as people do, “I love you.ˮ I’ve practiced a lot in the bathroom while masturbating, but nothing’s changed; white water flows, mixing with the poorly made soap, and in the end, I realize that I’ve lost the i...