التخطي إلى المحتوى الرئيسي

القلم.. من الأصبع الدموي إلى "الكي بورد"

القلم ذلك السر الغامض الذي كتب تاريخ الإنسانية. متى اخترع؟ ومن هو أول من كتب به؟.. كثير من الأساطير وقليل من الحقائق. فالقلم تاريخ ملغز وغريب.
ورد في الأثر أن أول ما خلق الله سبحانه وتعالى من الكائنات.. هو القلم.. ثم دواة الحبر.. فقد جاء عن أبي هريرة أنه قال: "سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول أول ما خلق الله القلم ثم خلق النون وهي الدواة وذلك في قوله تعالى (ن والقلم وما يسطرون)، ثم قال له: اكتب، قال: وما أكتب ؟ قال: ما كان وما هو كائن إلى يوم القيامة".
وفي هذا الحديث إشارات غامضة.. منها أن القلم يكتب الأمس والمستقبل.. وهو بالتالي هو مفتاح الذاكرة مثلما هو مفتاح الغيب. وربما المراد أنه مفتاح المعرفة، فالإنسان يسيطر على الأشياء بمعرفته واقترابه من الأسرار الخفية التي تحكم الأِشياء، تلك السنن والنواميس الإلهية التي لا يمكن لأحد أن يطلع عليها إلا بالعلم ثم العلم.
من ناحية تاريخية براجماتية وفقا للمدونات القديمة فالقلم من الاختراعات المبكرة في فجر الحضارة الإنسانية، حتى قبل أن يكون الإنسان كاتبا وقبل أن يتعلم الكتابة. وهنا يكون السؤال: وماذا كان يفعل الإنسان بالقلم؟!
يعتقد أن أول قلم اخترعه الإنسان أو استعمله كان (أصابعه) التي غمسها في دماء الحيوانات ورسم بها على الكهوف والأحجار والصخور، ويذهب البعض إلى أن هذا القول ليس فرضية بل هو أمر بديهي، تدل عليه الرسومات الدموية المكتشفة في كهوف الصحاري لاسيما في جنوب فرنسا. وغيرها من بلدان العالم مما لم يكتشف بعد.
ومن ثم استعمل الإنسان عيدان الخشب وريش الطيور، فكانت عبارة عن أقلام تغمس في الأصباغ المختلفة، لتحكي عن مشاعر الإنسان وأحلامه وصراعه مع العالم. وفي تلك الفترة التاريخية الغارقة في القدم اختلطت الكتابة مع الرسم. فليس ثمة حاجز بينهما.
ومن الملاحظات الواضحة أن اللغات القديمة كانت تشبه الرسومات ومن ثم تعقدت اللغة في حروفها كرموز لها دلالات عبر المفردات.. لكن بعض اللغات وإلى اليوم ما زالت تقوم على النسج التصويري الذي يشابه الرسم. وحتى لو كانت اللغة مجرد رسومات فهي ليست سهلة التفسير كما حدث مع كثير من لغات العالم القديم التي احتاجت إلى وقت طويل حتى تم تفكيك رموزها وفهمها كما في الكتابة الهيروغليفية في الحضارة المصرية القديمة.
تشير المصادر إلى أن أول أبجدية موثوق بها ظهرت عام 1400 قبل الميلاد، في مدينة أوغاريت الفينيقية في لبنان الحالية، ومن تلك الفترة وإلى الآن تطورت الكتابة وتعقدت وصارت علما مربكا لكن القلم ظل على حاله تلك الآلة الصغيرة التي تحاول أن تقول كل شيء. مجرد عود أو ريشة مستدقة الرأس. 
ويقال أن التطور النوعي المهم في تاريخ القلم حدث في الحضارة الإسلامية، تحديدا في عصر الفاطميين، فذات يوم وحسب الروايات.. مل الخليفة المعز (مؤسس مدينة القاهرة) من غمس الريشة في دواة الحبر فأمر بصنع قلم يضم بداخله "خزان حبر" يكتب لفترة طويلة دون الحاجة لإدخاله في الدواة.
جاء وصف هذا القلم الفريد في كتاب (المجالس والمسامرات) للقاضي حنيفة النعمان حيث قال: "ذكر المعز القلم فقال نريد قلما يكتب بلا استمداد من دواة بحيث يكون مداده من داخله متى شاء الإنسان كتب به ومتى شاء تركه فارتفع المداد" .
بهذا الوصف يكون الخليفة الفاطمي المعز لدين الله (المتوفى عام 365هـ - 975م) هو صاحب الفضل في اخترع قلم الحبر السائل وليس الأمريكي "لويس ووترمان" عام 1884كما هو شائع. وكلاهما من ناحية تجريدية قلم المعز وقلم ووترمان، يعتمدان على انسكاب الحبر على مجرى معدني نازل. فحين يُقلب القلم رأسا على عقب ينسكب الحبر (بفعل الجاذبية) باتجاه الرأس المعدني ثم يعود إلى الخزان الداخلي حين يرفع عن الورق.
ولكن هذه الفكرة يعيبها استمرار انسكاب الحبر (فيما لو نسي القلم مقلوبا أو في وضع أفقي) في حين اعتبر الرأس المعدني خشنا بالنسبة للورق (وكثيرا ما كان يغرز في صفحات الكتابة)، ولحل هذه المشكلة ابتكر الأمريكي جون لويد قلماً سائلا أكثر نعومة وسلاسة يعتمد على وجود كرة معدنية (في رأسه) تتدحرج بحرية فوق سطح الورق.
رغم تطور القلم الكروي (وأقلام الحبر اللزجة) إلا أن الشركات اليابانية أخذت على عاتقها تطوير "الجميع" منذ ستينات القرن الماضي - من خلال أقلام تميزت بالرخص والجودة وعدم الحاجة لملئها مجددا.
الآن يواجه القلم بصراع جديد مع اختراع "الكي بورد" ويقول خبراء في علم التقنية أن أطفال المستقبل القريب مهددون بجهلهم الكتابة عن طريق القلم، لأنهم سوف يشبون منذ الصغر على "الكي بورد"، وقد نشرت دراسات في هذا الإطار بالولايات المتحدة، تنبأت لبعض أطفال رياض الأطفال بأنهم لن يكونوا قادرين البتة على الكتابة بالقلم وهم في سن الثالثة عشرة. هذا إذا لم يتم اللحاق بهم.
فهل يعني هذا أن القلم يتجه إلى تاريخ جديد. ليكون "الكي بورد" هو بديله؟ أو يكون هو القلم الجديد للإنسانية.. يكون "ن الإنسانية" الجديد.

طرفة = حقيقة:


من أطرف الموقف  في تاريخ القلم، إنفاق وكالة ناسا مبلغ 150مليون دولار من أجل ابتكار قلم سائل لا يتأثر بانعدام الجاذبية في الفضاء.. وفي المقابل حل الروس هذه المعضلة بتزويد رواد الفضاء بأقلام رصاص لا تساوي (ربع ريال).. 

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

فصول من رواية "دماء في الخرطوم" الصادرة عن دار الفارابي

واحد   داخل المكتب المؤثث على طريقة عصرية، بديكور داخلي راقٍ، رنّ الهاتف النقال على الطاولة الخشبية لأكثر من مرة قبل أن يضغط عبد الحفيظ على الزِر ليردّ على المتحدث من الطرف الآخر.. لقد جرت العادة ألا يستقبل أي مكالمة من رقم مجهول بالنسبة له، لكن إصرار المتصل على تكرار المحاولة للدرجة التي استفزّت المجموعة الجالسة حول طاولة الاجتماع، جعلت عبد الحفيظ يردُّ أخيراً: - عفواً.. من يتحدث معي؟ قالها هكذا، دون أن يردَّ تحية المتصل. - معك اللواء طه عبد الرحمن مدير عام الشرطة. قبل أن يكمل، كان عبد الحفيظ قد نهض من على الكرسي الدوّار، وبحركة لا شعورية جرّ الكارفته تدريجياً إلى أسفل، قائلاً: - نعم سيدي.. تفضل، ما الأمر؟ ليس من عادة عبد الحفيظ أن يطيل المكالمات، لقد تعلم هذه العادة من سنوات عمله بالولايات المتحدة أثناء تدرّبه في إحدى الشركات هناك، بعد أن أكمل دراسته في الهندسة المدنية، قبل أن يعود إلى الخرطوم قبل شهر من الآن، لينشِئ شركة للمقاولات بإمكانيات مادية كبيرة. بدا له أن الضابط مرتبك وغير قادر على الإفصاح، ولثوانٍ ظلّ صامتاً، فيما كانت المجموعة الأجنبية الجالسة ح...

هل نضب الخيال؟

إشكاليات الذائقة الفنية والتلقي الجمالي عند العرب عماد البليك: منذ أن قدم الشاعر التونسي أبو القاسم الشابي أطروحته الجمالية حول "الخيال الشعري عند العرب" وخلص إلى أن الأدب العربي لا ينظر إلى المستقبل ولا ينفذ إلى صميم الأشياء وأنه "كلمة ساذجة" فإن الموقف لا يغادر موقعه، فالإشكاليات لاتزال قائمة إلى اليوم، والبحث عن تحرير الخيال لا يزال معطلا، كما أن الذائقة الفنية والجمالية تقاوم معوقات متجذرة يبدو الفكاك منها صعبا رغم الانفتاح الذي أتاحته الوسائط الحديثة للتلقي والمعرفة.  وإذا كانت مائة سنة تكاد تفصلنا، عن أطروحة الشابي، أي ما يقارب القرن، فالسؤال القائم ما السبب الذي عطّل مشروع الإنتاج والتلقي الجمالي عند العرب، ولماذا هم إلى اليوم يتعاملون مع العالم على أنه أقرب إلى المسطحات والثنائيات منه إلى شيء عميق له أبعاد متعددة وأوجه متنوعة، وهذا ينطبق على الممارسة الفنية كما ينجر بدرجة أوضح على استقبال الرسائل الجمالية أو الفنية، سواء أنتجت في محيط عربي أو عالمي. كانت فكرة أبوالقاسم الشابي تقوم على الخلاصة التالية: "قد انتهي بي البحث في الأدب...

راما رواية البليك تغوص في أسرار الخلود وتتجاوز قواعد السرد

  في طفولتها البعيدة وهي تلعب بين مزارع الفول والفاصوليا وتسبح أحياناً مع البنات في النهر ساعة الفيضان، لم تكن خالدة تتخيل شكل مستقبلها، توفى معظم من تعرفهم ويعرفونها، كانت تحب فصل الشتاء لأنه يسمح لها بالاختباء تحت غطاء اللحاف، لتحلم، كانت طفولتها وشبابها مليئة بالفوضى فهي بنت الجزار الذي في لمحة بصر ومحض الصدفة تحول ضمن الحرس لشخصي لوزير مهم، هي بنت المرأة الطيبة القادمة من رحم الرق والبؤس، جد كان شحاذاً وتفاصيل مربكة استمرت إلى أن وجدت راجا الهندي الطيب تاجر المجوهرات، تكتمل الفرحة بميلاد الطفلة راما، الاسم المقتبس من الخلود بقداسته وأسراره. حياتها الجديدة لم تنسها ماضيها حكايات الخالة الصحفية المناضلة عوضية، والعم الذي مات بمرض لم يمهله كثيراً وسفيان، الأخ المولع بالفن والغناء، كثيراً ما يسير الماضي كشريط سينمائي بمونتاج محكم متداخل الأزمنة. كثيراً ما كانت تشعر بوخزة في صدرها وأن هنالك ما هو مؤلم في مقتبل الأيام، يموت الأب في حادثة مفجعة وهي طالبة جامعية، بكته رغم أنه لم يعد ذلك الأب الطيب الذي كسر الأعراف والتقاليد وانتصر للحب منذ أصبح من الحاشية ومرافقاً للوزير في كل أسفاره....