التخطي إلى المحتوى الرئيسي

الروائي منصور الصويم يكتب عن شاورما البليك

يحكى أن قصة بطل رواية )شاورما(، في صعوده من حضيض الشارع إلى أن يبلغ شأنا عظيما بين أثرياء ووجهاء الخرطوم، التي يرويها في تشويق عجيب على مستمع مجهول يناديه بابنه؛ تنقل وقائع مسيرة هذه الرجل حكاية بلد بأكمله خلال ثلاث حقب سياسية مهمة ومفصلية في تاريخ السودان، تبتدئ بالعهد المايوي، مرورا بفترة الديمقراطية القصيرة، ولا تنتهي عند العهد الإنقاذي الذي لا يزال دائرا في زمنه المغلق، وبالتالي عبر سرد ذكي سلس توثق الرواية لتحولات اجتماعية وسياسية عظيمة ضربت الوطن وأصابت إنسانه في كثير من مسلماته وقيمه وتركته في عراء السؤال يجتر الحيرة حول حاله ومآله.
قال الراوي: (شاورما) هي الرواية الخامسة للروائي والناقد عماد البليك، ومثل أغلب أعماله الروائية السابقة وآخرها (القط المقدس)، تظهر البصمة النقدية والفكرية للبليك جلية في هذه الرواية لكل من يقرأها بعمق وتأنٍ، فروح الناقد التي تطبع كافة أعمال البليك تشتغل تشريحا وتفكيكا في بنى الوعي للمجتمع السوداني وفي البناء التكويني للدولة السودانية، لكن هذا الاشتغال يتم بحرفية روائية عالية، حيث يتبدى وكأنه طبقة ثانية (أعمق) من الشكل الأولي الذي تظهره الرواية وهو حكاية نضال وصعود بطل الرواية (الراوي) منذ هروبه من أسرته ومصادفته للرجل (الغيبي - الإشكالي) صاحب المخلاة في سطح القطار، ثم تشرده في الخرطوم واصطدامه بالنخبة السياسية والمجتمعية الزائفة والفاسدة؛ متمثلة في خاله ورهطه الحزبي والأمني، وعبر تجاربه في الشارع مع المشردين، ومحاولاته المستمرة بلا توقف لتأسيس (حالة وعي) يقظ تفسر له ما يجري من حوله، سواء أثناء اشتغاله بإحدى الكنائس الكبرى، أو حين اعتقاله من قبل أجهزة الأمن أو وهو يتعرض لتجربة الموت قتلا مرتين، وإلى أن يدخل في تلك العلاقة الوجودية الشائكة مع عمه ومتبنيه الرجل التركي الوافد إلى السودان وصاحب مطعم الشاورما.
قال الراوي: في رواية (شاورما)، ذات الواقعية الموضوعية، يتركب السرد من مستويين يشتغلان بشكل جدلي يعكس (اللعبة) الذكية التي يراهن عليها الكاتب: الحكاية والتأمل. فالمتعة التي تتحقق للقارئ أثناء مطاردة تفاصيل حكاية الراوي المثيرة لا تنفصل مطلقا عن تلك اللحظات التأملية التفكرية التي يشحن بها الكاتب مفاصل الرواية وتقدم بالتالي مواجهة (ذهنية حادة) بين عقل القارئ وتلك الأسئلة الوجودية والمصيرية والفكرية التي يطرحها الراوي بعفوية منذ بداية الرواية وحتى نهايتها، محاولا عبرها فهم (العالم) ورسم صورة حياتية تفسر له ما يدور حوله سواء في مدارات (القسوة والعنف) أو (العطف والحنان).
ختم الراوي؛ قال: العنوان (شاورما) ربما يفسر تلك الحالة من الاحتجاج التي يبديها الراوي في ما يخص حيرة الشباب وتعطلهم وركونهم إلى الانتظار في بلد هجره الأمل وسكنه الألم.
استدرك الراوي؛ قال: هذا عرض سريع لرواية بديعة تستحق قراءات أخرى وفي مساحة أكبر.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

فصول من رواية "دماء في الخرطوم" الصادرة عن دار الفارابي

واحد   داخل المكتب المؤثث على طريقة عصرية، بديكور داخلي راقٍ، رنّ الهاتف النقال على الطاولة الخشبية لأكثر من مرة قبل أن يضغط عبد الحفيظ على الزِر ليردّ على المتحدث من الطرف الآخر.. لقد جرت العادة ألا يستقبل أي مكالمة من رقم مجهول بالنسبة له، لكن إصرار المتصل على تكرار المحاولة للدرجة التي استفزّت المجموعة الجالسة حول طاولة الاجتماع، جعلت عبد الحفيظ يردُّ أخيراً: - عفواً.. من يتحدث معي؟ قالها هكذا، دون أن يردَّ تحية المتصل. - معك اللواء طه عبد الرحمن مدير عام الشرطة. قبل أن يكمل، كان عبد الحفيظ قد نهض من على الكرسي الدوّار، وبحركة لا شعورية جرّ الكارفته تدريجياً إلى أسفل، قائلاً: - نعم سيدي.. تفضل، ما الأمر؟ ليس من عادة عبد الحفيظ أن يطيل المكالمات، لقد تعلم هذه العادة من سنوات عمله بالولايات المتحدة أثناء تدرّبه في إحدى الشركات هناك، بعد أن أكمل دراسته في الهندسة المدنية، قبل أن يعود إلى الخرطوم قبل شهر من الآن، لينشِئ شركة للمقاولات بإمكانيات مادية كبيرة. بدا له أن الضابط مرتبك وغير قادر على الإفصاح، ولثوانٍ ظلّ صامتاً، فيما كانت المجموعة الأجنبية الجالسة ح...

هل نضب الخيال؟

إشكاليات الذائقة الفنية والتلقي الجمالي عند العرب عماد البليك: منذ أن قدم الشاعر التونسي أبو القاسم الشابي أطروحته الجمالية حول "الخيال الشعري عند العرب" وخلص إلى أن الأدب العربي لا ينظر إلى المستقبل ولا ينفذ إلى صميم الأشياء وأنه "كلمة ساذجة" فإن الموقف لا يغادر موقعه، فالإشكاليات لاتزال قائمة إلى اليوم، والبحث عن تحرير الخيال لا يزال معطلا، كما أن الذائقة الفنية والجمالية تقاوم معوقات متجذرة يبدو الفكاك منها صعبا رغم الانفتاح الذي أتاحته الوسائط الحديثة للتلقي والمعرفة.  وإذا كانت مائة سنة تكاد تفصلنا، عن أطروحة الشابي، أي ما يقارب القرن، فالسؤال القائم ما السبب الذي عطّل مشروع الإنتاج والتلقي الجمالي عند العرب، ولماذا هم إلى اليوم يتعاملون مع العالم على أنه أقرب إلى المسطحات والثنائيات منه إلى شيء عميق له أبعاد متعددة وأوجه متنوعة، وهذا ينطبق على الممارسة الفنية كما ينجر بدرجة أوضح على استقبال الرسائل الجمالية أو الفنية، سواء أنتجت في محيط عربي أو عالمي. كانت فكرة أبوالقاسم الشابي تقوم على الخلاصة التالية: "قد انتهي بي البحث في الأدب...

راما رواية البليك تغوص في أسرار الخلود وتتجاوز قواعد السرد

  في طفولتها البعيدة وهي تلعب بين مزارع الفول والفاصوليا وتسبح أحياناً مع البنات في النهر ساعة الفيضان، لم تكن خالدة تتخيل شكل مستقبلها، توفى معظم من تعرفهم ويعرفونها، كانت تحب فصل الشتاء لأنه يسمح لها بالاختباء تحت غطاء اللحاف، لتحلم، كانت طفولتها وشبابها مليئة بالفوضى فهي بنت الجزار الذي في لمحة بصر ومحض الصدفة تحول ضمن الحرس لشخصي لوزير مهم، هي بنت المرأة الطيبة القادمة من رحم الرق والبؤس، جد كان شحاذاً وتفاصيل مربكة استمرت إلى أن وجدت راجا الهندي الطيب تاجر المجوهرات، تكتمل الفرحة بميلاد الطفلة راما، الاسم المقتبس من الخلود بقداسته وأسراره. حياتها الجديدة لم تنسها ماضيها حكايات الخالة الصحفية المناضلة عوضية، والعم الذي مات بمرض لم يمهله كثيراً وسفيان، الأخ المولع بالفن والغناء، كثيراً ما يسير الماضي كشريط سينمائي بمونتاج محكم متداخل الأزمنة. كثيراً ما كانت تشعر بوخزة في صدرها وأن هنالك ما هو مؤلم في مقتبل الأيام، يموت الأب في حادثة مفجعة وهي طالبة جامعية، بكته رغم أنه لم يعد ذلك الأب الطيب الذي كسر الأعراف والتقاليد وانتصر للحب منذ أصبح من الحاشية ومرافقاً للوزير في كل أسفاره....