التخطي إلى المحتوى الرئيسي

شـــــــــاورما عمــــاد البليك ، بقلم فخر الدين حسب الله

لئن لم تقرأ رواية شاورما فسارع بقراءتها , ستجد نفسك امام تشويق وسرد يأخذك الى آفاق مفتوحة , ستجد نفسك شخصا داخل الرواية نفسها مع شخوصها الذين لم يسمهم البليك بأسماء محددة , إكتفى فقط بوصفهم , الاعرج والبدين ,,السيدة ,,الخ ,, لكنهم يتحركون بيننا ,,يعيشون معنا بذات المحددات والظروف ,
(المهم يا ولدى ,,تعال لأريك شيئا ,,خذ هذه المخلاة ,,إياك أن تفرط فيها فربما يعود صاحبها ذات يوم ,,) بهذه الجملة أنهى عماد البليك روايته الرائعة شاورما ,,كنت أحسست لحظتها أنه يجب على الان الاتصال على ذلك السودانى التركى المتواجد حاليا بتركيا ,,ربما لأحضنه بحرارة وأبلغه إعجابى الشديد بكفاحه فى الحياة رغما عن هروبه بعد أن صعبت عليه مواجهة السلطة الغاشمة ليركب سفينة الانسان المقهور ويهاجر الى بلد آخر هو تركيا قيضت له ظروف معينة أن ينتمى اليه كوطن ثان ,ضحكت و تذكرت المرأة الخليجية كبيرة السن التى باعت أغنامها لانها تزعجها لحظة المسلسل حين كانت تتابعه بمعايشة تفوق الخيال أو تلك الفتاة التى دخلت فى غيبوبة لحظة طعن البطل الذى تعشقه فى مسلسل آخر , فقلت فى نفسى شكيتك على الله يا عماد البليك ,, , قصة صبى مشرد بسبب الضغوط الاسرية زاده فى الحياة الايمان والصبر والمثابرة بالاضافة لاستيعابه لتراكم التجربة والمعرفة الانسانية لعبور مطبات ومتاريس كافية أن تحيله الى مجرم كبير استطاع ان يتحول بفضل ذلك كله وحظوظه الى رجل أعمال وانسان ناجح ,,ربما هذا الوصف يختزل الرواية التى تقع فى 152 صفحة الى شئ بسيط , لكن الأمر يختلف تماما , وأكثر تعقيدا , اذ خلال رحلته فى الحياة يصحبنا البليك لمعايشة المشردين وسط الخرطوم بتفاصيل حياتهم والتعقيدات التى رمتهم الى هذا المصير ليفتح باب المساءلة العادلة .. من رمى بهؤلاء الى هذا الجحيم ؟؟ ثم يدخلنا فى متاهات الاسئلة الوجودية هل الانسان مخير فى حياته ام مسير ,,لا يجيب بالطبع فقط يلمح الى أن القدر يسيطر بشكل كبير فى تسيير نواميس الكون بما فيها الانسان نفسه و الذى هو اهم عناصره ,,يرينا التشابك العميق بين النظم السياسية وافرازاتها على المجتمع بحيث تظل معايش الناس وحيواتهم مرتبطة بشكل كبير بما تشرعه تلك الحكومات وأذرعها من قوانين , كما تناقش الرواية المفارقة الواضحة بين طبقات المجتمع كواحدة من تجليات السياسة الاقتصادية ومدى الفروق بين طبقة تعيش فى ثراء فاحش وأخرى تقتات فتات الموائد كما يتطرق لشكل العلاقة العفوية بين الجنوبى والشمالى فى فترة ما قبل الانفصال والتوترات التى صاحبت ذلك فى ترميز الفتاة الجنوبية من جانب والبابا من ناحية أخرى ,وبجرأة كبيرة يكشف القناع عن هواجس النفس البشرية فى نزاعها بين الخير والشر , تجد نفسك فى تتبع الصفحات ,, بل هى حياتنا صفحة صفحة , وبين ذلك كله تبرز قصة نجاح بطل الرواية ,,نجاح منقوص نعم لتنصله من أسرته الحقيقية والارتماء بين أحضان أخرى تركية كملاذ من ويلات العذاب الذى لاقاه فى طفولته جانحا بذلك حسب التوصيفات القياسية للاسرة السودانية قبل تفككها ,,نجاح من بين الدموع والالام .
فضاء الرواية الزمنى سبعينيات القرن الفائت حتى يومنا هذا , من مايو الى الانقاذ , الفضاء المكانى هو الخرطوم العاصمة التى تعتبر مركزا تدور حوله التفاصيل الصغيرة لتشكل الاحداث الكبيرة ,,تأتى الرواية على لسان راويها وبطلها الرجل السودانى التركى بغير اسم معين ,وكذا باقى الشخوص الذين يظهرون بتسلسل منطقى ومناسب دون ان تجد صعوبة فى التعاطى معهم ,,اذ أن الاحداث تتخذ مكانها وتسلسلها بشكل منطقى يجعلك تعايشها بسلاسة لا متناهية فالقفز من حدث الى آخر فى ترابط سهل يزيد من متعة القراءة والتساؤل : كيف استطاع البليك بعمل هذا كله ,, ولماذا لم يسبقه الى هذا أحد من قبل ؟؟يقول البليك ان الاتراك مروا من هنا ,,وذو القرط التركى يحدد نظرتهم الينا فقد كان أجداده مستعمرين لنا وكنا مجرد عبيد ,, لكن رغما عن ذلك يأتى بطل الرواية السودانى ليؤكد بأن الانسانية ان تجردت من نزعات التسلط والقهر يمكن أن ترسخ لمعانى تحقق هدف وجودها فى الكون ,,فهاهو التركى عمه يتخذه ولدا ,,بينما التركية أمه مجازا تجد فيه حميمية الابن , و ابنتهم تجده شريكا للحياة ,,رغما عن طفولة مشوشة ومضطربة استطاع البطل أن ينتصر لارادة الانسان وتحقيق هدف لطالما تخيله ووجد نفسه فيه.
هذه انطباعاتى عن رواية شاورما التى ان قرأتها ربما تجد فيها خلاف ما رأيت ,, ففيها من التعقيد ممتع ومن السهل الممتنع .

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

فصول من رواية "دماء في الخرطوم" الصادرة عن دار الفارابي

واحد   داخل المكتب المؤثث على طريقة عصرية، بديكور داخلي راقٍ، رنّ الهاتف النقال على الطاولة الخشبية لأكثر من مرة قبل أن يضغط عبد الحفيظ على الزِر ليردّ على المتحدث من الطرف الآخر.. لقد جرت العادة ألا يستقبل أي مكالمة من رقم مجهول بالنسبة له، لكن إصرار المتصل على تكرار المحاولة للدرجة التي استفزّت المجموعة الجالسة حول طاولة الاجتماع، جعلت عبد الحفيظ يردُّ أخيراً: - عفواً.. من يتحدث معي؟ قالها هكذا، دون أن يردَّ تحية المتصل. - معك اللواء طه عبد الرحمن مدير عام الشرطة. قبل أن يكمل، كان عبد الحفيظ قد نهض من على الكرسي الدوّار، وبحركة لا شعورية جرّ الكارفته تدريجياً إلى أسفل، قائلاً: - نعم سيدي.. تفضل، ما الأمر؟ ليس من عادة عبد الحفيظ أن يطيل المكالمات، لقد تعلم هذه العادة من سنوات عمله بالولايات المتحدة أثناء تدرّبه في إحدى الشركات هناك، بعد أن أكمل دراسته في الهندسة المدنية، قبل أن يعود إلى الخرطوم قبل شهر من الآن، لينشِئ شركة للمقاولات بإمكانيات مادية كبيرة. بدا له أن الضابط مرتبك وغير قادر على الإفصاح، ولثوانٍ ظلّ صامتاً، فيما كانت المجموعة الأجنبية الجالسة ح...

هل نضب الخيال؟

إشكاليات الذائقة الفنية والتلقي الجمالي عند العرب عماد البليك: منذ أن قدم الشاعر التونسي أبو القاسم الشابي أطروحته الجمالية حول "الخيال الشعري عند العرب" وخلص إلى أن الأدب العربي لا ينظر إلى المستقبل ولا ينفذ إلى صميم الأشياء وأنه "كلمة ساذجة" فإن الموقف لا يغادر موقعه، فالإشكاليات لاتزال قائمة إلى اليوم، والبحث عن تحرير الخيال لا يزال معطلا، كما أن الذائقة الفنية والجمالية تقاوم معوقات متجذرة يبدو الفكاك منها صعبا رغم الانفتاح الذي أتاحته الوسائط الحديثة للتلقي والمعرفة.  وإذا كانت مائة سنة تكاد تفصلنا، عن أطروحة الشابي، أي ما يقارب القرن، فالسؤال القائم ما السبب الذي عطّل مشروع الإنتاج والتلقي الجمالي عند العرب، ولماذا هم إلى اليوم يتعاملون مع العالم على أنه أقرب إلى المسطحات والثنائيات منه إلى شيء عميق له أبعاد متعددة وأوجه متنوعة، وهذا ينطبق على الممارسة الفنية كما ينجر بدرجة أوضح على استقبال الرسائل الجمالية أو الفنية، سواء أنتجت في محيط عربي أو عالمي. كانت فكرة أبوالقاسم الشابي تقوم على الخلاصة التالية: "قد انتهي بي البحث في الأدب...

راما رواية البليك تغوص في أسرار الخلود وتتجاوز قواعد السرد

  في طفولتها البعيدة وهي تلعب بين مزارع الفول والفاصوليا وتسبح أحياناً مع البنات في النهر ساعة الفيضان، لم تكن خالدة تتخيل شكل مستقبلها، توفى معظم من تعرفهم ويعرفونها، كانت تحب فصل الشتاء لأنه يسمح لها بالاختباء تحت غطاء اللحاف، لتحلم، كانت طفولتها وشبابها مليئة بالفوضى فهي بنت الجزار الذي في لمحة بصر ومحض الصدفة تحول ضمن الحرس لشخصي لوزير مهم، هي بنت المرأة الطيبة القادمة من رحم الرق والبؤس، جد كان شحاذاً وتفاصيل مربكة استمرت إلى أن وجدت راجا الهندي الطيب تاجر المجوهرات، تكتمل الفرحة بميلاد الطفلة راما، الاسم المقتبس من الخلود بقداسته وأسراره. حياتها الجديدة لم تنسها ماضيها حكايات الخالة الصحفية المناضلة عوضية، والعم الذي مات بمرض لم يمهله كثيراً وسفيان، الأخ المولع بالفن والغناء، كثيراً ما يسير الماضي كشريط سينمائي بمونتاج محكم متداخل الأزمنة. كثيراً ما كانت تشعر بوخزة في صدرها وأن هنالك ما هو مؤلم في مقتبل الأيام، يموت الأب في حادثة مفجعة وهي طالبة جامعية، بكته رغم أنه لم يعد ذلك الأب الطيب الذي كسر الأعراف والتقاليد وانتصر للحب منذ أصبح من الحاشية ومرافقاً للوزير في كل أسفاره....