التخطي إلى المحتوى الرئيسي

المجنون !

يرى آينشتاين أن الجنون هو "أن تقوم بفعل الشيء نفسه وتكرر ذلك بظن أنك سوف تحصل على نتيجة مختلفة". 
وهو تعريف مختلف عن السائد في أن المجنون يفعل أشياء غير مكررة، فالعادة أن الناس تتوقع أن يقوم ذلك الشخص غريب الأطوار بعمل أشياء غير متوقعة وصعبة التكهن بها. وقد يكون ما يتحدث عنه آينشتاين متعلق بالجنون في حيز معين متعلق بالمعرفة والعلم، أي مجنون العلم الذي لا يقدم جديدا، وهذا أيضا يخالف الصورة الذهنية التي يصبغها الناس على الشخص الذكي أو العبقري بأنه مجنون، فيقال إن فلانا مجنون لأنه قام بعمل مدهش وغير متوقع يشكل ابتكارا أو اختراعا أو أية إضافة معينة للإنسانية.
إذا كان ثمة اتفاق مع التعريف الذي أورده آينشتاين في العموميات، فإن الاتفاق الكلي ينطبق على الجزئية الأخيرة المتعلقة بمسألة النتائج.. لأن المجنون دائما ما يرغب في نتائج مختلفة. فهو لا يركن للعادي والمكرر والمعاد، حيث يريد أن يصنع الدهشة والفرصة الجديدة حتى لو جاء ذلك بسياق غير عقلاني وغير مؤسس له.

درجنا في حياتنا العادية، اليومية، أن نصف المجنون بأنه مفارق للسائد، يقوم بأفعال غريبة لا يمكن التنبؤ بها.. ولا نتحدث عن النتائج والتي غالبا ما نظن أنها "جنونية"، أي غير متوقعة.. 
بهذا الشكل فالمجانين هم أناس يقومون بأفعال غير واردة في الأذهان - أذهان الآخرين ومن حولهم وربما أذهانهم هم- ويأتون بنتائج غير متوقعة أصلا. بغض النظر عن تصنيفهم الفعلي هل هم عقلاء أم لا. هل سنكون متسامحين معهم ولسنا خائفين من مجاورتهم أم لا.
الفرق هنا بين ما يقوله آينشتاين وهو ذلك الفيزيائي الذي غيّر من رؤيتنا للعالم والكون بشكل كبير في القرن العشرين، وما يعتقده العامة.. أن آينشتاين "مجنون" في تعريفه حيث أن قوله بتكرار الفعل يخالف فيه العامة، ومن هنا ربما كان ملمح العبقرية في تعريف الجنون عند آينشتاين إذ أنه جاء بما يعاكس السائد والمدرك في الأذهان العامة، فإذا كان قد أتى بتعريف معروف فلن يكون ذلك سوى رجل آخر غير آينشتاين الذي نعرفه.
إذن.. وبالتالي لو كان تعريف الرجل كالمتوقع.. بأن يفعل الناس المجانين أشياء غير مرصودة أو متوقعة، فهذا لن يجعلنا ننظر إلى الفيزيائي الكبير بوصفه عبقريا أو عقلا "مجنونا" كان له دور واضح في تغيير المفاهيم بدرجة ملموسة في علم الفيزياء والكونيات وعلاقة الإنسان الجدلية مع الطبيعة من حوله. 
هذا يعني أن التعريف أيضا يجب أن يعاد التفكير فيه بدرجة أعمق لنفهم ما كان يقصده الرجل بالضبط، وهو مجال مفتوح للتأمل، فمثل هذه الخواطر التي تأتي عرضا أحيانا تدس وراءها الكثير من ثنايا الأفكار التي تعبر عن تاريخ الذات المرئي وغير المرئي، ونحن ليس أمامنا إلا قمة الجبل المكسو بالثلج، ولسنا قادرين على الرؤية إلا بالغوص في التحليل واكتشاف المعاني الذي يتطلب منا أن نقرأ ونتدبر وكذلك يتطلب ذلك قدرا من المعلومات. 
إذا كان الجنون يظل حالة حيادية بوصفه مرضا يشخص من قبل علماء الطب، إلا أنه في المنظور الاجتماعي ومن قبل المجتمع بشكل عام هو سلوك غريب وهذا يعني في المجتمعات البدائية أو الكلاسيكية أن هذا الشخص قد يخضع للعزلة والتغريب والانتفاء عن المجموع العام للناس، وهذا السلوك موجود بشكل عام في المجتمعات العربية وغيرها. 

لكن بدرجة أرقى فهؤلاء الناس يمكن التفكير بهم من زوايا إبداعية وغير منظورة، فثمة ما يختزلونه من الأفكار والجماليات فمنهم أناس يمكنهم على سبيل المثال أن يرسموا لوحات "خارقة" أو يؤلفوا قصصا "مدهشة" أو يؤدون أعمالهم ويراكمون ثرواتهم بطريقة مثيرة للغرابة، وهناك تراث عظيم في هذا الجانب لو أننا عملنا على رصده أو إلقاء الضوء عليه.
يجب هنا أن نفرق بين الحالتين الطبية والطبيعية.. الجنون بوصفه خلل بيولوجي في الدماغ والجنون بوصفه هجرة العقل البشري من المعتاد والروتين والمكرر إلى فضاءات الإبداع والاختراع والإضافة إلى العالم.
وفي المعنى المجازي الثاني الذي يتطبع بالسيريالية والعبثية لدى البعض، فهذا يعني ببساطة أن تكون إنسانا قادرا على رؤية الجوانب غير المرئية للآخرين من الأشياء، وهذا ما يمكنك من إضافة شيء له قيمة أو عمل أشياء جديدة يشار إليها.. أما الاستمرار في الفعل المدرك والمعاد فهذا يجعلك في خانة الإنسان "الطبيعي".
في هذا الإطار يشار إلى كتاب "تاريخ الجنون في العصر الكلاسيكي" الصادر لأول مرة في 1961 للفرنسي ميشيل فوكو، والذي يقوم فيه بفحص الأفكار والمؤسسات المتعلقة بالجنون في التاريخ الأوروبي، لأنه حتى الجنون يصبح عملا مؤسسيا طالما كانت هناك نظرة موحدة من المجتمع قصاد هذا المفهوم أو الممارسات المتعلقة به.
يتطرق فوكو إلى ما قبل فكرة الجنون.. أي المجذومين، الذين مثلوا أولى حلقات "الحمقى" في العصور الوسطي، والذين تمت محاربتهم ومن ثم جاء التيار الثاني في الجنون الحديث، ولا يقدم فوكو رؤية عادية في موضوع لا مفكر فيه بالسياق الواضح.. إذ يأخذنا إلى الجنون بعيدا، باحثا عن أسبابه ومسمياته وممارساته ومؤسساته لنفهمه بوصفه خاصية إنسانية.. 
ويربط فكر فوكو وآخرين بين الجنون ومؤسسة السجن والعزلة، فالمجنون غالبا ما يتم إخضاعه للعزل عن المجتمع ويتعامل معه الناس على أنه نبتة شيطانية وغريبة غير صالحة للعيش معها، وبالتالي – هو - يعيش داخل سجن المجتمع، ولا يقدر على اختراقه، ربما لغياب القاعدة المشتركة للحوار أي "لغة التعايش" والفهم لما وراء مدركات ذلك الكائن البشري الخارج عن مألوف المجموع.
قبل يومين قرأت عن تجربة لإذاعة في الأرجنتين يقدمها المرضى النفسيون وهو تعبير ألطف للمجانين، ولاشك أن لديهم ما يقال وما يحكى مما هو غير متوقع، وهذه الإذاعة التي تبث من داخل مصح عقلي، يقدر عدد المستمعين لها بـ 12 مليون مستمع، وهو رقم كبير يكشف عن مفارقة في أن وراء ذلك الجنون سحر يستحق أن ينتبه الناس له ويتعايشون معه بوصفه إبداعا.
إن الجنون.. قد يكون إبداعا أو يؤدي لذلك.. وقد يكون تطرفا وتشددا من منظور آخر وهو أمر واقعي.. فأن يرتكب إنسان ما "حماقة" بأن يفجر نفسه في حفل عرس ليهلك عشرات البشر – حدث ذلك مرة في الأردن -.. فلن نصفه بغير الجنون..
وبالتالي.. ودائما يظل أمره محيرا.. هذا الجنون..
في الختام.. ثلاثة أفكار "مجنونة" لابد من قولها.. رغم أن واقع البلد لا يحتملها الآن.. دراسة عميقة ومطولة تقوم برصد الجنون في السودان والمجانين.. ولاشك كل منا في ذاكرته بعض من هذه الذكريات التي تتعلق بمجنون في الحي أو الحلة.. كذلك متحف للجنون في السودان.. على الأقل نصوص الجنون..  

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

راما رواية البليك تغوص في أسرار الخلود وتتجاوز قواعد السرد

  في طفولتها البعيدة وهي تلعب بين مزارع الفول والفاصوليا وتسبح أحياناً مع البنات في النهر ساعة الفيضان، لم تكن خالدة تتخيل شكل مستقبلها، توفى معظم من تعرفهم ويعرفونها، كانت تحب فصل الشتاء لأنه يسمح لها بالاختباء تحت غطاء اللحاف، لتحلم، كانت طفولتها وشبابها مليئة بالفوضى فهي بنت الجزار الذي في لمحة بصر ومحض الصدفة تحول ضمن الحرس لشخصي لوزير مهم، هي بنت المرأة الطيبة القادمة من رحم الرق والبؤس، جد كان شحاذاً وتفاصيل مربكة استمرت إلى أن وجدت راجا الهندي الطيب تاجر المجوهرات، تكتمل الفرحة بميلاد الطفلة راما، الاسم المقتبس من الخلود بقداسته وأسراره. حياتها الجديدة لم تنسها ماضيها حكايات الخالة الصحفية المناضلة عوضية، والعم الذي مات بمرض لم يمهله كثيراً وسفيان، الأخ المولع بالفن والغناء، كثيراً ما يسير الماضي كشريط سينمائي بمونتاج محكم متداخل الأزمنة. كثيراً ما كانت تشعر بوخزة في صدرها وأن هنالك ما هو مؤلم في مقتبل الأيام، يموت الأب في حادثة مفجعة وهي طالبة جامعية، بكته رغم أنه لم يعد ذلك الأب الطيب الذي كسر الأعراف والتقاليد وانتصر للحب منذ أصبح من الحاشية ومرافقاً للوزير في كل أسفاره. تش

المناورة والطريق الأفضل.. إلى حمدوك مرة أخرى

لقد أهتم العلماء في فترة التنوير الأوروبي بالطبيعة، والأحياء، كيف تشكلت في الماضي. في سبيل السيطرة على المستقبل، لأن أدراك نسق التشكيل في التاريخ، يقود إلى التحكم في القادم.   قبل أن يأتي داروين الذي كسب شهرة كبيرة بنظرية التطور، جرب آخرون أغفلهم التاريخ هذا النمط من التفكير، ومنهم جان باتيست لامارك، الذي يعتبر أول من استخدم مصطلح البيولوجيا بالمعنى الحديث. وكان تقريبا أول من صاغ نظرية شبه متكاملة في التطور الإحيائي. استهل بذكر لاما رك، للاستشهاد بمقولته: "هل نتحرك أفضل حين تتقطع بنا السبل ولا نجد مخرجا.. عندما يتغير كل شيء؟" الفكرة تقوم على أن الكائنات في محيطها الطبيعي، دائما ما تلجأ إلى الحل في ساعات الاستعصاء القصوى، عندما يتبدل كل شيء تماما. تصل ما يمكن الاصطلاح عليه بلحظة "التلاشي". هنا تناور بطريقة جديدة. تستخدم كافة السبل الممكنة التي لم تخطر من قبل، وتستطيع أن تحدث انقلابا في الطبيعة نفسها لصالحها. هذا الأمر ينطبق ليس على الحيوانات والأحياء في فطرتها. بل على المجتمعات، ففن المناورة في "المساحات الصغيرة" أو "الفرص المعتمة" يقود إل

عن رواية الامام الغجري للكاتب عماد البليك، بقلم: فخر الدين حسب الله

في روايته "الإمام الغجري" التى يمكن وصفها بالرواية الواقعية، حيث تتحرك في جغرافيا وتاريخ محددين (السودان، 1821_الى الان)، يسرد البليك في متعة متناهيه تفاصيل الكثير من الأحداث التاريخية في السودان الحديث في رحلة البحث عن سر الغموض الذي يلف غياب أحد الرموز الدينية، الطائفية، السياسية.. واسمه الإمام سفيان النصري (الغجري). تبدأ أحداث الرواية عن صحفي سودانى، يحاول أن يكشف القناع والأسرار حول غياب الامام الغجري قبل عدة عقود، ليجد نفسه أم ام ملف شائك، شديد التعقيد . الصحفي بعد أن أمسك ببعض الخيوط وقبل أن تكتمل، اغتيل قبل أن ينشر ما لديه، اصابع الاتهام تتجه الى السلطة الحاكمة، فالنظام يقبض علي حرية النشر، ويضيق على الحريات، ويمنع الحديث حول غياب الإمام. وللنظام سوابق في الاغتيالات والتعذيب، فقد اغتيل صحفيون من قبل. يلجأ آخرون ينتمون إلى مؤسسات الدولة الحديثه الي عملية تحضير الأرواح لمعرفة ماذا كان يريد أن يقول الصحفي.. تسير الرواية بأقوال روح الصحفي.. لتحكى الروح حقيقة ما جري مضافا إليها خواطره وآرائه . تكشف الرواية عن الحبل السري بين السياسي ورجل الدين وانع