التخطي إلى المحتوى الرئيسي

الطبقات مرة أخرى !

بغض النظر عن كون كتاب الطبقات.. طبقات ود ضيف الله الذي ينسب للعالم محمد النور بن ضيف الله المتوفى في 1810م، والذي يعالج فيه مشهدا للحياة الاجتماعية السودانية في فترة الدولة السنارية (1505 – 1821م)، لاسيما حياة المتصوفة وأهل الذكر. بغض النظر عن كونه خرافة أو جهالة كما يرى البعض، فإن هذا الكتاب يعتبر إلى اليوم واحدا من أهم المراجع للحياة السودانية في تلك الفترة، لا بوصفه يعبر عن الحقيقة ولكن بصفته مجازا مرسلا للواقع في تلك الفترة "المهمة" من التاريخ السوداني والتي بدأ فيها تشكل الشخصية السودانية المهيمنة إلى اليوم في ملمح البعد الديني والتشبث بالانتماء العروبي وكذلك العقل الذي يجمع بين الحقيقة والمجاز أو الأسطورة والواقع.


إن الإفادات التي يحاول أن يقدمها البعض مشككا في قيمة الكتاب العلمية أو ضحالته أو جهالته، ليس بذات أثر كبير إذا ما أخذنا الكتاب من قيمته السردية وليس من كونه وثيقة تاريخية بالمعنى المباشر. مع اليقين بأن التاريخ نفسه في نهاية الأمر ما هو إلا مرويات سردية تصور لنا مواقف وأحكام مبنية على ظرفيات كثيرة هي في محصلتها صورة المؤرخ أو الكاتب، فليس ثمة حقائق دامغة ونحن نتكلم عن التاريخ.
ولنقل بمعنى آخر لكي نزيح البغضاء والعداوة عن هذا "السجل الوطني" فإن الطبقات هو سردية عن إنسان سنار وطبيعة الحياة في تلك الفترة وكيف كانت الناس تتعامل مع الدين والغيب والواقع، وهو مجال مفتوح يلقي لنا بالكثير من التصورات والأبحاث لو أنه تم الاشتغال على هذا المنظور بدرجة متعمقة من التأمل والبحث وليس مجرد المضي نحو اطلاق الإحكام غير المجدية أو المنصفة في أغلب الأحيان.
إن مضامين أي نص، سواء كان يعالج التأريخ أو السرد لروح التاريخ، لا يعني بأية حال ذلك حقيقة النص، ولا يصور مواقف الكاتب بالمعنى السهل، أو يعكس الوقائع المفترضة بل أن ذلك يُلخص في فكرة السردية أو النصية المرسلة التي تعني كتابة مفتوحة باتجاه الزمان والمكان، وهذه الطريقة موجودة حتى في النصوص المقدسة حيث ينفتح النص المتعالي على التاريخ البشري وعلى الخلفيات والمواضعات ليصور لنا سير الأولين ويقدمها لنا دون أي إنحياز معلن.
فالخرافة أو الأسطورة أو الميثولوجيات التي يتضمنها كتاب الطبقات لا تعني موقفا تاريخيا أو حقائق أو علوم يستند عليها، بل هي صور تعبر عن واقع علينا أن نراه كما هو بوصفه الأسطوري، ونعمل فيه ملكة التأمل إن وجدت بهدف المراجعات لتشكل تلك الشخصية وبناء الذات السودانية، لأن تلك المرحلة برأي كثير من نقاد الفكر التاريخي السوداني تظل مهمة جدا وإزاحة الكثير من الغييبات عنها و"الطبقات" أيضا.. أي التراكمات الحاصلة على المستوى الرأسي في الرؤية، لتباعد الزمن. كل ذلك سوف يخدم في تشغيل واقع أفضل للحياة السودانية.
لقد تم الكلام كثيرا حول الهوية السنارية، وعن ضرورة العودة إلى تلك المرحلة بوصفها مفصل التكوين الحديث للدولة، وكانت مراحل ما بعد الاستقلال هي التي أشعلت لحد ملموس هذه النزعة التي توازن في التعاطي معها اليسار واليمين، فالإسلاميون كانوا ينادون بـ "سنار" (سنار موعدنا) بوصفها المرجعية والأصل والإسلام الذي يصورونه على أنه القيمة والمدنية والحضارة، واليساريون أو الليبراليون كذلك كانوا يرون في سنار صورة للدولة الحلم.. كما في تصورات محمد عبد الحي في "العودة إلى سنار".
إن استرجاع صورة سنار ليست إلا يوتوبيا أو نوع من النوستالجيا التي قد لا يكون لها تأسيس عقلاني أو منطقي ما لم تتم مراجعات كبيرة جدا على صعيد هذا المشروع المنفتح باتجاه تاريخ قديم قبله، وبعده. فثمة إهمال لما وراء ذلك وأيضا لما بعده. وكأن سنار هي نقطة منقطعة عن التاريخ السوداني الذي في خلاصته هو حلقة متصلة ليس لها بداية بعينها.
إن صورة المجتمع السناري كما في الطبقات، هي حقيقته التي علينا أن نعمل فيها النظر وهي جزء من التركيب الطبقي في العقل السوداني القائم إلى اليوم سواء على صعيد المفاهيمية الكونية أو النظر إلى العالم عموما، فمتشكلات الذهن الجمعي من تلك الأيام البعيدة، لا زالت تؤثر في مفاصل الحياة السياسية والاجتماعية وحتى أنظمة الإنتاج الزراعي تقوم على الأبجديات نفسها التي جاء في كتاب الطبقات.. وود ضيف الله ليس مسؤولا عما حدث، بقدر ما هو ناقل وسارد لتلك الوقائع والأحداث والظنون.. وهذا لا يعفي بدرجة ما أن المؤلف له ملمحه داخل النص، وهذا يمكن تلمسه في أمور كثيرة مثل انتقاء الشخصيات الواردة في الكتاب، طريقة ترتيبها، اختيار القصص نفسها.
فإلى الآن ولضعف المصادر والكسل البحثي وربما عدم الاهتمام وظروف الحياة، لا توجد دراسة حاولت استقصاء المسكوت عنه في كتاب الطبقات، هل هناك شخصيات بعينها أهملها ود ضيف الله ولم يشر إليها وهل خضع الترتيب للمدون لهم لأي اعتبارات شخصية أو سياسية أو مواضعات اجتماعية بعينها. كذلك ما هي الإغواءات أو المآثر التي كانت.. تجعل المؤلف يحكي قصة معينة ويغفل غيرها، كذلك مصداقية بعض الشخصيات وهل ثمة اختلاقات في بعضها، بمعنى أنها ليس لها حضور خارج النص؟!.. وهذا ما يقود في نهاية الأمر إلى الفكرة الأولى بخصوص أن الطبقات في النهاية لا يمثل إلا روحا سردية تستلهم التاريخ وليس تاريخا في حده ذاته. لهذا فإن التعاطي معه يجب أن يكون بشكل أكثر مرونة من كافة الأطراف المعارضين أو المتفقين مع الكتاب.
وثمة سؤال يندرج في المسار نفسه فيما يتعلق بظروف كتابة هذا الكتاب وكونه بقي إلى اليوم حيا، وهل ثمة كتب أخرى منافسة له دونت وذهبت أدراج الرياح وما هي الأسباب؟ هل هو مجرد الإهمال أم أن هناك منطق وراء ذلك؟ والإشارة التي تفهم هنا هي الظروف التاريخية والسياسية بالتحديد، حيث نحتاج إلى دراسات أكثر قارئية في هذا الإطار للطبقات.. لاسيما معرفة مؤلفه ونسقه حياته ومواضعات السلطة في تلك الفترة.
إن أي قراءة تاريخية لأي نص يجب أن لا تنفصل عن زمنه، وحتى لو أن النص يتعالى على التاريخ لأنه يخلد ويبقى ويظل كاشفا وتنويريا كلما تقدم الزمن، فإنه يظل لصيقا بحيثيات ومحايثات ذلك الزمن الذي كتب فيه، وهذا الإشكال لا يقف عنده كتاب الطبقات بل أغلب الآثار التراثية، في الكتب التي خلفها عدد من علماء السودان، فثمة مدونات كثيرة مهملة بعضها ما زال لم يصل للناس أو في أيد تتوارثه. وهذا يحتاج لفعل تثوير لنبش هذه الكنوز، لعل في إحيائها صورة أو مرآة للتاريخ المغلق.

رغم كل ما قيل وما يقال عن سنار.. وعن الفونج.. وكل ما يدور من نقد وجدل، فالحقائق والصور العميقة لا تزال بعيدة..

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

فصول من رواية "دماء في الخرطوم" الصادرة عن دار الفارابي

واحد   داخل المكتب المؤثث على طريقة عصرية، بديكور داخلي راقٍ، رنّ الهاتف النقال على الطاولة الخشبية لأكثر من مرة قبل أن يضغط عبد الحفيظ على الزِر ليردّ على المتحدث من الطرف الآخر.. لقد جرت العادة ألا يستقبل أي مكالمة من رقم مجهول بالنسبة له، لكن إصرار المتصل على تكرار المحاولة للدرجة التي استفزّت المجموعة الجالسة حول طاولة الاجتماع، جعلت عبد الحفيظ يردُّ أخيراً: - عفواً.. من يتحدث معي؟ قالها هكذا، دون أن يردَّ تحية المتصل. - معك اللواء طه عبد الرحمن مدير عام الشرطة. قبل أن يكمل، كان عبد الحفيظ قد نهض من على الكرسي الدوّار، وبحركة لا شعورية جرّ الكارفته تدريجياً إلى أسفل، قائلاً: - نعم سيدي.. تفضل، ما الأمر؟ ليس من عادة عبد الحفيظ أن يطيل المكالمات، لقد تعلم هذه العادة من سنوات عمله بالولايات المتحدة أثناء تدرّبه في إحدى الشركات هناك، بعد أن أكمل دراسته في الهندسة المدنية، قبل أن يعود إلى الخرطوم قبل شهر من الآن، لينشِئ شركة للمقاولات بإمكانيات مادية كبيرة. بدا له أن الضابط مرتبك وغير قادر على الإفصاح، ولثوانٍ ظلّ صامتاً، فيما كانت المجموعة الأجنبية الجالسة ح...

​Book Review: To New York in 87 Days - Wisdom from the sea

  Ossama Lotfy Fateem   , Tuesday 13 Dec 2022 Ila New York fi 87 Yawman (To New York in 87 Days), Emad Blake, Alexandria: Ibiidi Publishing, 2019 Share Facebook X WhatsApp Telegram LinkedIn   The sea has always been an inspiration for writers. Commanding ships, reaching ports, and living the non-traditional life between land and sea were pictured mostly as a triumph for mankind over the sea. Novels like Moby Dick, Treasure Island, The Oldman and the Sea -- to name a few -- are masterpieces that continue to inspire readers and writers alike. In their footsteps Emad Blake wrote To New York in 87 Days. The novel presents two facts: the first Omani and Arab ship, Al Sultana, to reach New York was in 1840; and the main character Ahmed Ben Nooman Al-Kaabi was the chief officer of the ship.  In the book, the reader cannot tell facts from fiction. The author manages to get the reader involved in the journey, its details, and the characters that were instrumental in making th...

Notebooks of Maladies

  Translated by   ELISABETH JAQUETTE 1—Idiot The oldest boys in the neighborhood—“bullies,” as our Egyptian neighbors would say—chased that boy… chased me .   I’d long been obsessed with watching Egyptian TV shows and films, sneaking into the cinema to see them because in our house it was forbidden… “forbidden, boy, to go there.ˮ According to my mother, grandmother, and the other women in the neighborhood, screens are the devil’s handiwork: they corrupt good boys and girls. Of course, they’re poor women, without an ounce of luck.  Since we’ve mentioned girls, the truth is that I’m as afraid of them as of the boys who chase me, but it’s another type of fear. It’s more like dread, the idea of standing in front of an incredibly beautiful girl and saying to her, as people do, “I love you.ˮ I’ve practiced a lot in the bathroom while masturbating, but nothing’s changed; white water flows, mixing with the poorly made soap, and in the end, I realize that I’ve lost the i...