التخطي إلى المحتوى الرئيسي

صندوق "بنو حنظل"

أحيانا تشعر بأن الزمن لا يتقدم وكأن الأشياء نفسها يعاد إنتاجها دون إضافة ولا تقديم أو توظيف للمواهب، وسأتحدث اليوم عن قصة وردت في كتاب (حكايات كانتربري السودانية) لمحرره دونالد هولي"، وهي الحكاية رقم واحد التي جاءت بعنوان "حكاية الضابط الإداري يوم الانتخابات في (أم بطيخ)"، حيث يقطن بنو حنظل من الأبالة، وهي قصة تصور لنا كيف أن اللعب والتلاعب بدأ منذ أيام مبكرة، فمنذ تلك الفترة في سنوات الإنجليز احتال سكان تلك المنطقة المقطوعة ليكون لهم تزوير الانتخابات والفوز بها وممارسة فنون لا تعرف من أين تعلمونها بالضبط، وكأن هذا الشيء متأصل فيهم.


إن القصة تراجع مسائل محل شك إلى اليوم كالنزاهة المفترضة في قضايا الانتخابات أو الشفافية المجتمعية التي تغيب عن كثير من تفاصيل الحياة، وربما السبب الذي يمكن إرجاع الظاهرة إليه هو المادة والسلطة، فكلاهما يعمل على أن يجعل الإنسان يتأخر في الجانب الأخلاقي والقيمي ليفعل ما شاء دون أدنى حياء، وكما قيل "فإذا لم تستح فأفعل ما تشاء"، والقضية أبعد من الحياء لأن السياسة والسلطة الممارسة في السودان، لا تعرف ولو هذه القواعد البدائية أو فكرة مكارم الأخلاق الكلاسيكية.
إن الحديث عن التزوير في أي نوع من الانتخابات، لا يعني انفصالا عن تلك المسافة القديمة، ليس لأن التاريخ يعيد تدوير نفسه، بل ربما لأن تحركا رأسيا حقيقيا لم يحصل في بنى المجتمع وأنساقه التربوية والقيم عامة، فالمسافة هي باقية من تلك الحقبة إلى اليوم والأزمات قائمة، المجتمع نفسه يعاني ويلات التسلط والقبلية والأفراد الذين يكون عليهم فرض وصايتهم على الآخرين شاءوا أم رفضوا، كما أن هؤلاء الخاضعين للسلطة هم لا يفكرون البتة بل يعشقون هذه العبودية والانصياع والمضي في الاجترار للمشهد نفسه.
إن الديمقراطية كفعل كما تظهر في تلك الحكاية من الكتاب المذكور لا توجد كفكرة أساسا في المجتمع السوداني، لأن بناء المجتمع الديمقراطي هو عمل تراكمي يقوم على خطوات لابد من قطعها في التربية والتعليم والمعرفة وصياغة الحياة الجديدة، وتحرير الإنسان من الموروثات السلبية التي تعوقه عن رؤية ذاته وتجعله يعيش الخوف وغير قادر على الانفلات ليكون حرا وكريما، بأن يفهم قدراته وأنه يتمتع بصفة مواطن قبل كل شيء، وهو المفهوم الذي لا يزال بعيد المنال عندنا.
يعيدنا الإنجليزي "دنكان وير" راوي الحكاية، إلى العديد من الأمور الجديرة بالنظر مثل كيفية تداخل الشأن العام مع الخاص، وكيف للحقيقة أن تبدو مزيفة والعكس صحيح بأن يظهر المزيف والبليد على أنه حقيقي وناجح وهكذا. وهي جزء من الأساطير الاجتماعية المتوارثة في تغليف الرؤية بسد منيع من الاستبصار الذي يقفز لما وراء النافذة بأن يرى المستقبل، فنحن أسرى اللحظات والتاريخ. كما في فكر القبلية التي هي انعكاس لقرون طويلة لم نتحرر منها، في حين المضاد أننا نتحدث عن المدنية وفكر التحديث، وهو في النهايات ليس إلا صورة خارجية لمشهد لم يكتمل في الأساس، وإذا لم تكن البداوة شرا فالشر هو أن تكون في جحيم الاهتزاز بعدم الوجود في مكان محدد، وهذه هي صورتنا إذا ما توقفنا مع الذات بنبل.
إن كثيرا من أنساق الحياة في السودان هي شكليات وترميمات لفكر غير مؤسس له أو مكتمل لأنه لم يقم على مراجعات حقيقة للذات بحيث يكون إما التأصيل الذي يرد الاعتبار والمعنى، أو يكون العالم الجديد الذي هو امتداد وتجسير لمرحلة خلت من حيث المبنى والمرتكزات، وهذا غائب لأنه لم تتم وقفة او استراحة تهيء ذلك، ففي حوالي ستين عاما ومنذ ما يعرف بالاستقلال، لم يتمكن هذا الشعب أن يتنفس الصعداء ليعاين إلى الإشكاليات العميقة في ظل ممارسة النوستالجيا والصخب مُعاد الصدى وتعميق الجراح بالحروب والانكسارات والإحساس الذاتي المستعاد بأن الأنا هي الأفضل والأعمق غورا.
إن صندوق "بنو حنظل" وإخفاقهم في إدارة انتخابات ذكية يكشف عن تورية مستمرة في المشهد السوداني السياسي، بحيث كل يطرف يعرف أنه خادع أو مخدوع، في حين أن النتائج النهائية تظل معلومة تماما. وهي بالتالي سياقات تجعل التغيير غير وارد، بمعنى دفع الحياة للأمام بفعل إيجابي من خلال فكر سياسي خلاق وديمقراطي، ذلك للإشارة الجلية إلى أن الديمقراطية هي مسألة أخرى مختلفة تماما وغير متشكلة بالمعنى السليم في النسق السوداني الراهن، الذي يتعالى على مستحضرات الذات وحقائقها من العيش في الأمس السحيق بغلافي حداثي هش وبالي وعموميات في الرؤى الفكرية سواء على صعيد الأفكار السياسية أو الاقتصادية أو تطوير الحياة بشكل عام.
صدر كتاب "حكايات كانتربري" في طبعة بالعربية عن مركز عبد الكريم ميرغني في 2003 بترجمة الأستاذ محمد أحمد الخضر التوم ليضيف إلى المكتبة السودانية واحدة من مئات الكتب وآلاف الأفكار التي تعالج مرحلة من مراحل السودان الحديث نحن أحوج إلى مراجعتها وقراءتها بحيث نتعلم منها، فتلك الفترة بقدر ما كان فيها الهيمنة للآخر إلا أنها ذات أثر واضح في المجتمع إلى اليوم مثلها مثل فترات أخرى، حيث أن العقل طبقي في محايثة الأفكار وتركيبها وإعادة إنتاجها، فالاستعمار الإنجليزي وإن سعى لبناء دولة جديدة كان له بعده المتراخي في تكريس قيم بالية، بإعتبار المصلحة والمنفعة والرأسمال الذي يهيمن على الفكر الكولونيالي، وإلى اليوم ما زال تحرير العقول والخيالات بنقلها إلى التخييل الإيجابي والفاعل أمرا يبدو كما لو أنه مستحيل في ظل امتداد ظل الأشجار العالية لذلك الماضي البعيد، بحيث لم تبق سوى شروخ هي الذكريات التي نجترها ونحن غير واثقين من الخطوات المقبلة كيف ستكون أو ستتلون في ظل عالم بات سريع التغيير والأثر.
والمفارقة أن "أم بطيخ" كما ذكر الخواجة ليس فيها أي بطيخ. وهي مجرد استعارة ربما للحلم أو الممكن الغائب، ساعة يكون للناس أن تتمسك بالأمل لكن الآمال لا تصنع شعوبا إذا كانت القيم والمفاهيم التي تصنع المستقبل غائبة في حد ذاتها. ليس هذا من قبيل الظنون لكن مواجهة شجاعة مع الذات لابد منها. لا يمكن للفجر "وهي كلمة أحببناها" أن ينفلت من بين الغيوم الداكنة التي لا تتيح الرؤية وليس لفجر "كاذب" أن يقربنا من الرؤية والاستبصار. فأن تكون أنت يجب أن تمضي بكل قوة وعزيمة.
نحتاج لمراجعات كبيرة وشجاعة وحلم وعقل. وقبل ذلك علينا أن نفهم أن جوهر مشكلتنا هي ذواتنا.. ليس العالم إلا غلاف لتلك التضاريس التي تعشعش في أدمغتنا، ونحن نمارس الاغتيال المستمر للفكرة والانتصار على الألم المتوارث.



تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

فصول من رواية "دماء في الخرطوم" الصادرة عن دار الفارابي

واحد   داخل المكتب المؤثث على طريقة عصرية، بديكور داخلي راقٍ، رنّ الهاتف النقال على الطاولة الخشبية لأكثر من مرة قبل أن يضغط عبد الحفيظ على الزِر ليردّ على المتحدث من الطرف الآخر.. لقد جرت العادة ألا يستقبل أي مكالمة من رقم مجهول بالنسبة له، لكن إصرار المتصل على تكرار المحاولة للدرجة التي استفزّت المجموعة الجالسة حول طاولة الاجتماع، جعلت عبد الحفيظ يردُّ أخيراً: - عفواً.. من يتحدث معي؟ قالها هكذا، دون أن يردَّ تحية المتصل. - معك اللواء طه عبد الرحمن مدير عام الشرطة. قبل أن يكمل، كان عبد الحفيظ قد نهض من على الكرسي الدوّار، وبحركة لا شعورية جرّ الكارفته تدريجياً إلى أسفل، قائلاً: - نعم سيدي.. تفضل، ما الأمر؟ ليس من عادة عبد الحفيظ أن يطيل المكالمات، لقد تعلم هذه العادة من سنوات عمله بالولايات المتحدة أثناء تدرّبه في إحدى الشركات هناك، بعد أن أكمل دراسته في الهندسة المدنية، قبل أن يعود إلى الخرطوم قبل شهر من الآن، لينشِئ شركة للمقاولات بإمكانيات مادية كبيرة. بدا له أن الضابط مرتبك وغير قادر على الإفصاح، ولثوانٍ ظلّ صامتاً، فيما كانت المجموعة الأجنبية الجالسة ح...

هل نضب الخيال؟

إشكاليات الذائقة الفنية والتلقي الجمالي عند العرب عماد البليك: منذ أن قدم الشاعر التونسي أبو القاسم الشابي أطروحته الجمالية حول "الخيال الشعري عند العرب" وخلص إلى أن الأدب العربي لا ينظر إلى المستقبل ولا ينفذ إلى صميم الأشياء وأنه "كلمة ساذجة" فإن الموقف لا يغادر موقعه، فالإشكاليات لاتزال قائمة إلى اليوم، والبحث عن تحرير الخيال لا يزال معطلا، كما أن الذائقة الفنية والجمالية تقاوم معوقات متجذرة يبدو الفكاك منها صعبا رغم الانفتاح الذي أتاحته الوسائط الحديثة للتلقي والمعرفة.  وإذا كانت مائة سنة تكاد تفصلنا، عن أطروحة الشابي، أي ما يقارب القرن، فالسؤال القائم ما السبب الذي عطّل مشروع الإنتاج والتلقي الجمالي عند العرب، ولماذا هم إلى اليوم يتعاملون مع العالم على أنه أقرب إلى المسطحات والثنائيات منه إلى شيء عميق له أبعاد متعددة وأوجه متنوعة، وهذا ينطبق على الممارسة الفنية كما ينجر بدرجة أوضح على استقبال الرسائل الجمالية أو الفنية، سواء أنتجت في محيط عربي أو عالمي. كانت فكرة أبوالقاسم الشابي تقوم على الخلاصة التالية: "قد انتهي بي البحث في الأدب...

راما رواية البليك تغوص في أسرار الخلود وتتجاوز قواعد السرد

  في طفولتها البعيدة وهي تلعب بين مزارع الفول والفاصوليا وتسبح أحياناً مع البنات في النهر ساعة الفيضان، لم تكن خالدة تتخيل شكل مستقبلها، توفى معظم من تعرفهم ويعرفونها، كانت تحب فصل الشتاء لأنه يسمح لها بالاختباء تحت غطاء اللحاف، لتحلم، كانت طفولتها وشبابها مليئة بالفوضى فهي بنت الجزار الذي في لمحة بصر ومحض الصدفة تحول ضمن الحرس لشخصي لوزير مهم، هي بنت المرأة الطيبة القادمة من رحم الرق والبؤس، جد كان شحاذاً وتفاصيل مربكة استمرت إلى أن وجدت راجا الهندي الطيب تاجر المجوهرات، تكتمل الفرحة بميلاد الطفلة راما، الاسم المقتبس من الخلود بقداسته وأسراره. حياتها الجديدة لم تنسها ماضيها حكايات الخالة الصحفية المناضلة عوضية، والعم الذي مات بمرض لم يمهله كثيراً وسفيان، الأخ المولع بالفن والغناء، كثيراً ما يسير الماضي كشريط سينمائي بمونتاج محكم متداخل الأزمنة. كثيراً ما كانت تشعر بوخزة في صدرها وأن هنالك ما هو مؤلم في مقتبل الأيام، يموت الأب في حادثة مفجعة وهي طالبة جامعية، بكته رغم أنه لم يعد ذلك الأب الطيب الذي كسر الأعراف والتقاليد وانتصر للحب منذ أصبح من الحاشية ومرافقاً للوزير في كل أسفاره....