قد يختلف البعض
معي منذ البداية حول ما سأطرحه، لكن لنأخذ الأمور رويدا، والسؤال البسيط الذي
أطرحه، هل لدينا إشكال في التلقي والذائقة الجمالية، سواء تعلق الأمر بعمومية
المعنى في مسائل الحياة والقراءة البصرية والاقتراب من ما وراء مكنونات العين
والبصيرة، أو بمعنى آخر في الذائقة الأخرى التي مكانها الذهن والمتعلقة بالوعي
المطلق للجمال والانتباه لما وراء المحسوس والمرئي والمباشر، ويتضمن ذلك القراءة والتمييز
بين الكتاب والآخر، معيار يسميه البعض الجودة أو الاستنارة أو المتعة سواء كان
النص الذي أمامنا شعرا كان أم رواية أو كتابا في الثقافة بشكل عام.
سأذهب إلى
الافتراض الذي قد يكون محور الخلاف، وهو قضية ضعف التخييل العام وقيام الوعي
الجمالي على مرتكزات كلاسيكية في الرؤية والتلقي والاندغام مع العوالم الفنية أي
كان نوعها. طبعا هذا الكلام قد يكون صادما ومباشرا، ولكن لو عدنا لطبيعة مُشكِّلات
الأساس الجمالي عندنا لوجدنا أنها في جوهرها بائسة وفطرية، لم تغادر روزنامات
الحياة الفطرية والطبيعة والبيئة المحيطة والتي لم تتطور بالمعنى الملموس في تشكيل
ثقافة جمالية حديثة، وسأمضي إلى أبعد الأمثلة وأقربها، بسؤال مباشر حول المكان
السوداني وكونه يفتقر لشروط الدافعية التي تصنع بعدا جديدا للذات في إنتاج ما وراء
الذهنيات الشكلانية والمباشرة.
المكان لا يعني
الأبعاد الثلاثة المحددة، ولا يعني الأرض ولا الأشجار ولا المباني، بل هو ذلك والسياق
الثقافي العام الذي يتحرك فيه فضاء المعرفة الإنسانية، الحكايات والسرديات
والموروثات في الوعي واللاوعي، إن هذا المكان في تحليله الأولى يكشف عن ضعف في
التطور أو التعزيز الجمالي لمكنون التخييل منذ خمسة قرون، فما زالت طبقات الوعي
الذي سطرته فترة الحقبة السنارية هو الماثل في التلقى الإبداعي والخيال والتصورات
الميثولوجية، ولعل مراجعة بسيطة للفكر السياسي السوداني مثلا تكشف هذا الشيء، كيف
أن الصراع نفسه يدار بذات الآليات، ذات الطابع المأسطر والأغلفة الشكلية والحلول
المؤقتة وغياب التحفيز المستقبلي، ما ينعكس على بناء ضعيف وهش من المفاهيم
والتثوير الذهني ويجعلنا في المساحة نفسها لا نغادرها.
إن ترهل الواقع
السياسي هو انعكاس لهشاشة في الوعي الجمالي والفكري، وهو ضعف في فلسفتنا للمكان
وحكمتنا في تبصره والاستفادة من أسراره وأبعاده، فضعف المكان وبؤسه هو انعكاس لبؤس
الذات، بعدم قدرتها على تحفيز معان تخالف السائد والمألوف بما يعمل على إنشاء
مخيلة إنسانية جديدة قد تكون صادمة في البداية ولكنها مع الوقت تصبح محبذة وواقعية
وتشكل منطق الوجود والحياة والصيرورة. وليس أبعد من ذلك أن كلية المشهد السياسي
بمعنى إدارة شأن مؤسسة السلطة وأنساق العلاقات بين المجتمع في شكل ناظم وسليم، هي
جزء لا ينفصل عن الجماليات الفنية والإبداع العام في تعظيم وسائل الإنتاج وخروج
آلياته عن التقليد والعادي والقفز بالكلاسيكي منه إلى نمط جديد وفاعل يرفد
المستقبل من خلال وعي يتجاوز الصور المعادة والمكرر من الفاعلية الشكلية باتجاه ما
نتعامل معه بشكل يومي.
وقد عقَّد من
المشكل أن نمط التقاليد والقيم المتوارثة لم يخضع للتطوير بالشكل الذي يؤهل لدخول
مرحلة أكثر نهضة في التخييل والوعي الجمالي، والقياس ليس على شخص أو اثنين أو نخبة
بعينها، إنما على الصورة الكلية لمجتمع يعاني إشكاليات في القفز على مشكلته
الراهنة ويغوص في دولاب الماضي ويبدو كأنه معزول ذهنيا عن سياق التواصل الكوني رغم
وجود أدوات قوية وفاعلة اليوم للتواصل الاجتماعي والشبكي ورغم أن الانترنت يعمل فعليا
على تغيير العالم وترحيله نحو فضاءات جديدة من الخيال والوعي والاستنارة والخروج
عن الذات الجامدة التي يغلفها إطار اجتماعي أو مكاني معين.
فالتعاطي مع وسائل
التواصل الاجتماعية على سبيل المثال، يكشف بوضوح هذه "الضحالة" الفكرية
ونقل الساحة المجتمعية الخارجية، بكل ما فيها من سلبيات إلى ذلك الفضاء الجديد،
حيث لم يختلف سوى الماعون، وبالتالي لا جديد على مستوى الأخلية والإبداع والتشغيل
الذهني الذي يقود لاكتشافات باهرة وجديدة للذات على مستوى الفرد والمجموع
الإنساني، وكان ممكنا توظيف هذا الفضاء والانترنت عموما في إعادة إنتاج وإبداع
المكان وإعمال فكر التثوير والتغيير في الحياة السودانية بشكل عام، لكن هذا لا
يحدث بالشكل الواضح والاجتهادات الموجودة هي جذر معزولة تفتقد للتأسيس القوي
والعقلانية وتتشبع بما خارج الفضاء الافتراضي من العزل الذي تفرضه رواسب الماضي
والتاريخ والذهنية الجامدة التي تقوم تجذرا على الوصايا والإكراه والثوابت التي لا
جدل حولها بنظرة من يؤمن بها.
إن سؤال الخيال
والجمال، يعني القدرة على توليد معان متناسلة غير مستنسخة تشير دائما للجديد وتعمل
بشكل مستمر على استفزاز الأذهان بالمغامرة في حيز الممكنات واللاممكنات وتخريج
القيود إلى الانعتاق، وهذا ليس جليا اليوم فالمكان يعاني واقعا يرثى حاله في الضعف
الفني والجمالي، هنا المقصود هو المكان كمتشكل بصري مباشر كمدينة ومبان وجسور وطرق
وغيرها. والاقتصاد والإنتاج يعاني أيضا ذلك الهوان من تغييب أو غياب شبه تام
للأنماط الحديثة من فكر الصناعة التي تقوم على جعل الكائن جزءا من عالم فاعل
ومنفتح ومشارك في المنظومات الكونية والدليل إلى الآن أننا كدولة خارج سياق
التجارة الدولية، وأنظمة الاقتصاد عندنا لا تواكب المعطيات التي يمكن أن تجدها في
أبسط قرية نائية في أوروبا أو الصين أو الهند، فالموضوع لا يتعلق بعالم متقدم وآخر
متخلف أو ثالث كما درج القول قديما. لكن الأمر يتعلق بالاهتزاز وغياب التأسيس
والدوران في الأفلاك نفسها دون القدرة على الخروج من تابوهات النظر إلى الذات بعين
الحسرة، دون أن ينقلب ذلك إلى طاقة فاعلة تعمل على إبدال الرداءة إلى شيء جميل له
خلاقية وجاذبية ومعطى جمالي وآخاذ.
لن نقف بحدود
العمارة والمدن ولا الفنون البصرية ولا المسرح ولا السينما ولا الأدب والشعر ولا
الصناعات الحرفية ولا رداءة تغليف المنتج الذي يخجل فعلا أمام أي منتج يرد من أي
دولة أخرى في أعماق قارة منسية منتجا معبا مستهلكا للبطن أو للعقل، بل يمتد ذلك
إلى كل متشكلات الحياة من ديكور المنازل وذائقية الألوان وفظاظتها أحيانا وسوء
المنظر العام للشارع من ضعف البيئة الذي ينعكس على تهميش المعنى الجمالي، فالخرطوم
على سبيل المثال كما قال لي أحد الأصدقاء مدينة فقيرة على مستوى الماعون البيئي،
وهذا لا يحتاج إلى أي إثبات وهذا ليس مسؤولية دولة أو حكومة فحسب بل هي ثقافة
جماعية لا وجود لها، لا أحد يكترث أو يتربى على أن يحافظ على النظافة العامة ليصنع
مدينة جميلة.. لا أحد يرتب دكانته بشكل أنيق وبديع ليفتخر به هو نفسه أولا.. تدخل
سوبرماركت في حي يسمى فاخر فتكتشف أنك داخل متاهة.. لنا الله.!
emadblake@gmail.com
تعليقات