التخطي إلى المحتوى الرئيسي

توثيق الفنون والتراث

أذكر ونحن في سن الطفولة كانت تصدر سلسلة كتيبات عن الأغاني السودانية تباع في كل مكتبات البلاد تقريبا، ولا أعرف من صاحب الفكرة وكيف بدأت ولماذا توقفت؟ رغم أنها فكرة جيدة في توثيق الأغاني وفي ربط محبي الغناء بالكلمة مدونة.. وقطعا في قراءتها إحساس يختلف عن سماعها.
وبشكل عام فإننا في السودان نفتقد إلى عملية التوثيق كما النشر في هذه المجالات، كما نفتقد أيضا إلى الدراسات وكتابة السير، ففي مجال الغناء أيضا لا أعرف كتبا كثيرة وثقت لحياة فنانين بحيث يكون الكتاب كله كاملا عن فنان من الألف إلى الياء.

غير أنني أتذكر فقط ما كتبه الدكتور على المك عن عبد العزيز محمد داؤود، رغم أنه كتاب متوسط الحجم ولا يعكس كل مشروع أبو داؤود الفني..
ففنان بقامة محمد وردي أو محمد الأمين أو عثمان حسين وشرحبيل أحمد وغيرهم، لم نقرأ كتبا عنهم، فقط نكتفي بما يمكن أن نقرأه من شذرات هنا وهناك في طيات أوراق الصحف أو ما نسمعه في برامج متفرقة كما في برنامج "أغاني وأغاني" الذي يحسب له أنه يقدم خدمة طيبة في المجال التوثيقي. لكنها منقوصة لافتقاد التدوين.
وإذا كان التوثيق الفني أو للغناء باعتباره أكبر مدونة فنية في تاريخ السودان المعاصر، قد تضاءل وأصبح هامشيا مع أشياء كثيرة جرى تهميشها وتلاشت تدريجيا من مركز الاهتمام، فإن موضوع التوثيق والأرشفة يخرج عن نطاق الفن والغناء قطعا ليشمل ما لا حصر له من المجالات التي لا تعد، والتي يكون بعضها ابتكاريا وغير مطروق من قبل.
وأمثلة على ذلك فإن التوثيق والكتابة عن فن المطبخ السوداني، ليس له من أي مرجع واضح، كما العمارة السودانية، وحركة التشكيل السوداني الحديثة كما الحرف والصناعات التقليدية، بحيث تفتقر المكتبة السودانية إلى مرجع واف في هذا الباب، وهي أمور مخجلة قطعا، وليس الإشكال في توفر المادة أو الوصول إليها بقدر ما يكمن في المقام الأول في الرغبة والجدية بفعل هذا الشيء، كما أن العدد الكبير من الجامعات التي أنشأت وللأسف لم يتعاظم دورها في إطار البحث العلمي الذي يتقاطع مع خواص المجتمع السوداني ويوثق للثقافة والفنون والإنسان في البلاد.
أهمية التوثيق والأرشفة ومن ثم البحث في هذه المجالات وجعلها مرتبة بشكل علمي بحيث يمكن الرجوع إليها والاستفادة منها، لا تتطلب كثير توضيح، لكن ما يمكن الإشارة إليه أن أي تطور حديث وانتقال إلى فجر جديد من رؤية الحياة الأفضل لا يمكن أن يتم ذلك بمعزل عن عملية ترقية حقيقية ومثابرة تعالج المكتسبات وذخائر الأمة من قيم وتراث وموروثات وتراكم ثقافي وفني بالإضافة إلى تراث التقاليد وأنماط الحياة الإنسانية المختلفة.
إذ كان ثمة إشارة فيمكن التذكير بالأستاذ الطيب محمد الطيب الذي كان له اهتمام خاص بالمناظير الشعبية والمجتمع من حيث أصوله وجذوره ونظرته للحياة القائمة على الثقافة والفن التقليدي، وفي هذا كان للرجل أن أصدر كتابين مهمين هما "المسيد" الذي يؤرشف ويرصد ويوثق لهذه التجربة الحضارية في التاريخ السوداني ويضعها في مسارها الزمني بما يفيد الأجيال المقبلة، والكتاب الثاني هو "الإنداية" التي مثلت إحدى واجهات السودان المنفتح الذي لم يكن قد دخل طور الدولة المؤدلجة. كذلك فإن الطيب محمد الطيب اشتهر ببرنامج "صور شعبية" الذي كان يعرضه تلفزيون السودان ويقدم من خلاله التراث الشعبي لقبائل السودان من غناء ورقص وتراثيات.
هناك مسارات أخرى واجتهادات في الفلكلور كذلك اللغات المحلية واللغة الدارجة كما في جهد البروفيسور عون الشريف قاسم في قاموس اللهجة العامية السودانية. وهذه بذور في شجرة كبيرة جدا، فالمجتمع السوداني غني وثري جدا من حيث التراث القومي الذي للأسف يتناثر مع الزمن والعولمة ويخضع لمواجهة الحياة الجديدة وعصف المعاش والاقتصاد، وهنا يشار إلى أن عادات كالزواج وطقوس الموت كلها بدأت في التغير كثيرا، والكلام هنا ليس عن أين الصحيح وأين الخطأ؟ فهي أمور نسبية في القراءة والإفادة. لكن الحديث هنا عن هل وثقنا وسجلنا لهذه الطقوس قبل أن تتبدل تماما، فهل ثمة قراءة واضحة ثقافية ومعرفية في طقس الموت في السودان، وكيف يتعامل معه الناس ابتداء من تحضير الأكفان إلى دفن الأبدان إلى ما يتبع ذلك من عادات وهو تراث عظيم له طقوسه ومفرداته التي يمكن الكتابة عنها بشكل غني جدا بالرجوع إلى المرويات وتسجيل هذه اللحظات بالكاميرا والصورة والتعبير اللفظي. كذلك العرس الذي تغير من زمن السيرة التي تصل إلى النهر في الوسط النيلي إلى تباين هذا الطقس في حد ذاته من مكان لآخر في ربوع السودان المختلفة.
أخيرا يمكن التساؤل عن وجه آخر من الصورة وهو الجانب الاقتصادي لهذه الموارد التراثية وعملية الاستثمار في المجال الفني والثقافي والفلكلور، وسأكتفي بمثال واحد في المجال الفني، فنحن نعرف أن هناك شركات فنية تقوم بإنتاج ألبومات لفنانين سواء من الجيل الجديد أم السابق، ولكنها تقف عند هذه الحدود، فلماذا لا يرتقي عمل هذه الشركات لتكون مؤثرة في عملية صياغة المستقبل الفني والموسيقي وتطويره بدلا من الاكتفاء بالدور التجاري البحت. ولو علمنا أن مجال النشر والتوثيق الفني سوف يدر أموالا أيضا، فسوف نجد أن الربح سيتحقق أيضا.
لكن المشكلة تظل في رأس المال السوداني الذي لا يزال يتعامل بإشكال تقليدية مع فكرة المال وتحريكه وكيفية الاستفادة منه تنمية وربحا وفي الوقت نفسه إفادة المجتمع بوجه ما. والجانب الآخر يتعلق بعملية البحث والصبر المطلوب لكي يكتمل مشروعا من هذا النوع.
وقد كتبت هذه الأفكار وفي بالي سلسلة كان قد ابتدرها محجوب علي الباشا المعروف بـ "صلاح الباشا" بعنوان "أهل الإبداع في بلادي" لم يصدر منها غير كتاب واحد، وكانت في الأصل مقالات يسطرها بصفحة السودان بجريدة الشرق القطرية. هذا الكتاب رغم أنه يعبر عن رؤية شخصية نوعا ما في الغناء السوداني والأشعار المرتبطة به إلا أنه يظل مرجعيا في مجاله، فقد وثق فيه الرجل لعدد لا بأس به من الفنانين، وأعرف أن الرجل كان ليستمر في مشروعه لو أنه وجد من يأخذ بيده.
وهي بمثابة دعوة مفتوحة لتوثيق الحياة السودانية في كافة أطيافها الثقافية بحيث ننتقل من ثقافة المشافهة والكلام إلى التدوين، فعلى سبيل المثال فإن ما يطرح من أفكار في برنامج "أغاني وأغاني" يمكن أن يكون مادة مقروءة جيدة في مكتبة الكثيرين.
بالطبع هناك جيل جديد يمكن أن يقوم بذلك وتمتلكني ثقة بأنه سوف يتحقق. ولكن نحتاج إلى شيء من الاستجمام من معاناة العيش والحياة اليومية المرهقة في الراهن.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

فصول من رواية "دماء في الخرطوم" الصادرة عن دار الفارابي

واحد   داخل المكتب المؤثث على طريقة عصرية، بديكور داخلي راقٍ، رنّ الهاتف النقال على الطاولة الخشبية لأكثر من مرة قبل أن يضغط عبد الحفيظ على الزِر ليردّ على المتحدث من الطرف الآخر.. لقد جرت العادة ألا يستقبل أي مكالمة من رقم مجهول بالنسبة له، لكن إصرار المتصل على تكرار المحاولة للدرجة التي استفزّت المجموعة الجالسة حول طاولة الاجتماع، جعلت عبد الحفيظ يردُّ أخيراً: - عفواً.. من يتحدث معي؟ قالها هكذا، دون أن يردَّ تحية المتصل. - معك اللواء طه عبد الرحمن مدير عام الشرطة. قبل أن يكمل، كان عبد الحفيظ قد نهض من على الكرسي الدوّار، وبحركة لا شعورية جرّ الكارفته تدريجياً إلى أسفل، قائلاً: - نعم سيدي.. تفضل، ما الأمر؟ ليس من عادة عبد الحفيظ أن يطيل المكالمات، لقد تعلم هذه العادة من سنوات عمله بالولايات المتحدة أثناء تدرّبه في إحدى الشركات هناك، بعد أن أكمل دراسته في الهندسة المدنية، قبل أن يعود إلى الخرطوم قبل شهر من الآن، لينشِئ شركة للمقاولات بإمكانيات مادية كبيرة. بدا له أن الضابط مرتبك وغير قادر على الإفصاح، ولثوانٍ ظلّ صامتاً، فيما كانت المجموعة الأجنبية الجالسة ح...

هل نضب الخيال؟

إشكاليات الذائقة الفنية والتلقي الجمالي عند العرب عماد البليك: منذ أن قدم الشاعر التونسي أبو القاسم الشابي أطروحته الجمالية حول "الخيال الشعري عند العرب" وخلص إلى أن الأدب العربي لا ينظر إلى المستقبل ولا ينفذ إلى صميم الأشياء وأنه "كلمة ساذجة" فإن الموقف لا يغادر موقعه، فالإشكاليات لاتزال قائمة إلى اليوم، والبحث عن تحرير الخيال لا يزال معطلا، كما أن الذائقة الفنية والجمالية تقاوم معوقات متجذرة يبدو الفكاك منها صعبا رغم الانفتاح الذي أتاحته الوسائط الحديثة للتلقي والمعرفة.  وإذا كانت مائة سنة تكاد تفصلنا، عن أطروحة الشابي، أي ما يقارب القرن، فالسؤال القائم ما السبب الذي عطّل مشروع الإنتاج والتلقي الجمالي عند العرب، ولماذا هم إلى اليوم يتعاملون مع العالم على أنه أقرب إلى المسطحات والثنائيات منه إلى شيء عميق له أبعاد متعددة وأوجه متنوعة، وهذا ينطبق على الممارسة الفنية كما ينجر بدرجة أوضح على استقبال الرسائل الجمالية أو الفنية، سواء أنتجت في محيط عربي أو عالمي. كانت فكرة أبوالقاسم الشابي تقوم على الخلاصة التالية: "قد انتهي بي البحث في الأدب...

راما رواية البليك تغوص في أسرار الخلود وتتجاوز قواعد السرد

  في طفولتها البعيدة وهي تلعب بين مزارع الفول والفاصوليا وتسبح أحياناً مع البنات في النهر ساعة الفيضان، لم تكن خالدة تتخيل شكل مستقبلها، توفى معظم من تعرفهم ويعرفونها، كانت تحب فصل الشتاء لأنه يسمح لها بالاختباء تحت غطاء اللحاف، لتحلم، كانت طفولتها وشبابها مليئة بالفوضى فهي بنت الجزار الذي في لمحة بصر ومحض الصدفة تحول ضمن الحرس لشخصي لوزير مهم، هي بنت المرأة الطيبة القادمة من رحم الرق والبؤس، جد كان شحاذاً وتفاصيل مربكة استمرت إلى أن وجدت راجا الهندي الطيب تاجر المجوهرات، تكتمل الفرحة بميلاد الطفلة راما، الاسم المقتبس من الخلود بقداسته وأسراره. حياتها الجديدة لم تنسها ماضيها حكايات الخالة الصحفية المناضلة عوضية، والعم الذي مات بمرض لم يمهله كثيراً وسفيان، الأخ المولع بالفن والغناء، كثيراً ما يسير الماضي كشريط سينمائي بمونتاج محكم متداخل الأزمنة. كثيراً ما كانت تشعر بوخزة في صدرها وأن هنالك ما هو مؤلم في مقتبل الأيام، يموت الأب في حادثة مفجعة وهي طالبة جامعية، بكته رغم أنه لم يعد ذلك الأب الطيب الذي كسر الأعراف والتقاليد وانتصر للحب منذ أصبح من الحاشية ومرافقاً للوزير في كل أسفاره....