التخطي إلى المحتوى الرئيسي

ابن عربي "الهندي" !

"...إن الغرور الذي ينتاب أحيانا عقول الناس يمكن إزالته تدريجيا.. أما غرور القديسين بقداستهم فازالته أمر في منتهى الصعوبة..."
راما كريشنا عن شر العزة بالنفس
***
كثير هم العظماء الذين يأسرون المرء بتجاربهم الثرة، راما كريشنا، واحد من هؤلاء، رجل هجر طبقة "البراهمة" – علية القوم – وآثر أن يعيش مع العامة، فأعاد تشكيل حياة الملايين من الهنود.
يقول عنه "هيسوا رانندا" مقدم كتاب "الحقائق الروحية – مختارات من راما كريشنا": إن تجربته فريدة في نوعها، فعلى عكس الكثيرين الذين يبدأون الرحلة بالسؤال ومن ثم السير في مسار طويل، فإن كريشنا كان على العكس تماما.. إذ أنه بدأ تجربته الروحية أولا وبعد ذلك عكف على الممارسة.
مثال راما كريشنا في هذه التجربة، كما يقول رانندا، مثل ثمرة الأناناس، التي تعطي الثمرة قبل أن تهب الزهرة. هكذا هي الطبيعة نتعلم منها. كما تعلم كريشنا، الذي ينتمي لتلك الأرض العبقرية، الهند، الزاخرة بالتنوع والثقافات الحرة، والمقيدة أيضا، لكنها وهبت البشرية روحا خاصة على مدى قرون طويلة.


إن كريشنا بحسب من درسوا فكره أشبه بمن عرف "حقيقة الكون الشاملة"، حيث أدرك أن كل الأديان وكل الأفكار البشرية باختلافها تقود إلى الله، في النهاية ليس ثمة طريق واحد بعد أن يمشي كل في طرق متعرجة.. لكن الباحثين عن الحقيقة يصلون بعد شظف إلى الطريق الأوحد.. الذي لا رجعة فيه..
راما كريشنا.. راما تعني باللغة السنسكريتية الاتحاد أو الحلول، أما كريشنا فهو أحد آلهة الهندوك، وبذا يكون معنى الاسم "المتحد بالله"، إنه نموذج لحلاج، بنغالي هندي، أو ابن عربي، أو ما شئت.  وقد ولد في مايو 1836 في إحدى قرى البنغال، وكان اسمه الحقيقي "غاداهار" أي "حامل الصولجان"، وهو اسم لا يطلق إلا على الذين ينتمون للطبقات الهندوكية الراقية وعلى رأسها البراهمة التي خرج منها غاندي ونهرو والشاعر طاغور. وهي الطبقة التي اختصت على مدى العصور بخدمة المعابد حيث لا يجوز لغيرهم أن يقوم بذلك. ويشبه مصطفى الزين مقدم الكتاب الوارد أعلاه في النسخة العربية، تلك الطبقة في وضعها التاريخي ببني هاشم في علاقتهم بالكعبة كسندة لها، قبل الإسلام.  لكن كريشنا آثر البحث عن عالمه الخاص، لم يفتنه المال ولا الحياة، وبذل في سبيله رحلته مسارا جعله أكبر معلم عرفته الهند الحديثة، وتجربته في الحقائق الروحية هي تجربة معاش لا تنظير، وقد توفي سنة 1886 في الخمسين من عمره.
بعض المفكرين في الغرب وصفوا تجربة كريشنا بأنها "لاعقلانية"، لكن هناك من رد عليهم بالقول: إن العقل عندما لا يؤمن بسوى الحساب والأرقام لن يرى سوى مقولا واحدا في نظره. فالتجارب الروحية كالتي يخوضها المتصوفة الكبار أو رجل مثل كريشنا، في نظر البعض غير واقعية. أنظر ماذا يقول كريشنا نفسه عن الطريق إلى الله، لنفهم إلى أي حد كم بعض الناس مزيفون، ويدعون امتلاك الحقيقة.
***
مرة قال نيتشه: "إن الكنائس قد تحولت إلى مقابر تتلى فيها الصلوات".. لكن نيشته نسي أن الطاقة الروحية للإنسان قادرة على تفجير المقابر، كما يقول "لويس باول" وهو يكتب "راما كريشنا والعصر الحاضر".. ويشير باول إلى أنه في سنة 1969 عقد مؤتمر في نيويورك لكبار الكتاب وأساتذة الجامعات تحت شعار "نهاية التراث العقلاني"، ذهبوا فيه إلى أن تفوق العقل بدأ ينهار، كان ذلك لمجرد الإحساس بمدى الخطر المحدق بالبشرية جراء ما يعرف بـ "التطور" الذي جنب الروح وعزز من مكانة المادة.
لكن دائما كان هناك من يؤمنون بأن الروح هي الأبقى والأسمى، وبدخول عقد السبعينات والثمانينات كانت الفنون الأمريكية قد بعثت فيها حركات تدثر وراءها ثوب الروح الشفاف، ومغنيين كأمثال بوب مارلي ومايكل جاكسون وغيرهما.. هؤلاء وفي نظر قراءات "معقدة" بعض الشيء، هم أناس روحانيون لدرجة كبيرة، فبوب مارلي كان يؤمن بالعقيدة الراستالوجية التي تؤمن بالمسيح الأسود، والتي وجدت صدى في جامايكا، وتنسب إلى الإمبراطور السابق لأثيوبيا هيلاسلاسي. ليس من المهم صحة تلك العقيدة أم عدمها، لكن المهم هو الإطار الروحاني الذي تتحرك فيه، الطريق إلى الله، الرحلة، كما يسميها كريشنا.
أما مايكل جاكسون فإلى حد ما كان باحثا عن الحقيقة، وهذا ما جعل كل ينسبه، له، حتى أنه بعد موته انتشرت أغنية له يغني فيها للإسلام وشوقه لزيارة الكعبة، فزعم البعض أنه أسلم. أيضا قال زعيم الطائفة الرائيلية في كندا أن مايكل من الخالدين مع الإلوهيم وهم المخلوقات التي يؤمن الرائيليون بأنهم صنعوا الحياة على الأرض وأوجدوا الإنسان وفق تطور علمي هائل وصلوا إليه. وقال كلود – الرائيلي – أنهم استنسخوا جاكسون وأنه سيعود إلى الأرض مع الإلوهيم قريبا ساعة يقررون العودة إلى الأرض وكان قد حدد من قبل أن هذا الموعد هو سنة 2025.
وبمثلما فتحت أفكار بوذا مجالا للدارسات الرحبة في الغرب، فقد فعلت أفكار كريشنا ذلك الشيء. فثمة العديد من الباحثين والحركات التي نشأت في الغرب التي تحاول أن تجد معنى لحياة الإنسان من خلال رد الاعتبار للروح.  وكما يرى لويس باول فإن كريشنا "أطلق صرخة روحية لإيقاظنا على الحقائق الروحية من جديد.. بعد ما طال سباتنا العميق في أحضان الفلسفة المادية الصرفة.. كي يعود بنا إلى الفلسفة الأزلية الخالدة"..
سأعرض هنا بعض من فكرة كريشنا حول الله والإنسان والوجود والحقيقة، والتي تمتاز بشفافية في الطرح، وقدرة على تجريد الأشياء بشكل مكثف.  
يرى كريشنا أن الذي يولد في الحياة وهي "فرصة نادرة لأن تولد على هذه الأرض"، فممكن ألا تكون موجودا.. هذا الذي يولد "إن لم يحقق الله في ذاته وهو على قيد الحياة، فقد ولد عبثا"..
لكن كيف يرى كريشنا الله؟ أو كيف يشرحه بمفهوم بسيط؟.. يضرب مثالا بدمية من الملح قررت أن تقيس أعماق المحيطات، وعندما انطلقت من اليابسة إلى البحر ذابت فيه..  الدمية هي الإنسان.. والبحر هو الله.  يقول: "لقد عاد المحدود" إلى "اللامحدود"، فالله يسكن في كل شيء..
يقول كريشنا: "دمية الملح عندما ذابت في مياه المحيط لم يعد بإمكانها أن تعود إلى وجودها الفردي لتشرح أعماق المحيطات.. وهذه هي أيضا حالة عظماء الروحانيين من البشر الذين غاصوا في أعماق الذات الإلهية واتحدوا معها.. لقد أصبحوا هم أيضا (لامتناهين) و(لامحدودين)، لذلك لم يعد بإمكانهم الخروج من الأعماق كي يشرحوا للعالم طبيعة الله اللامتناهية .. اللامحدودة".
ويرى كريشنا "أن البشر يفكرون بالله غالبا، ولكن ينقصهم الإيمان القوي به" فهم كما يقول "كثيرا ما ينسون ويعودون للتشبث بعالمهم الأرضي.. والتفكير المستمر بأمور الحياة الأرضية.. يشبه وضعهم وضع الفيل الذي ما أن يغسل صاحبه عنه الأدران والأقذار، حتى يعود فيتمرغ في الوحل"....
عنده أيضا "... الحياة والموت أشبه بالفقاقيع فوق سطح المحيط.. فمياه المحيط حقيقة ومستمرة.. بينما الفقاقيع أشياء عرضية ومؤقتة.. فهي لا تكاد تطفو فوق سطح المياه حتى تتلاشى وتختفي..." 
إذا كان كريشنا قد وضع قواعد لمعرفة الله والعيش في كنفه، فقد وضع قواعد أيضا للعيش بسعادة في الدنيا.. والقاعدة ببساطة، يقول: "... كونوا صادقين مع أنفسكم ومنسجمين مع أفكاركم وقناعتكم... أعملوا كما تفكروا، وأنا أؤكد لكم أنكم سوف تحصلون على ما تريدونه، وعندها سوف تستجاب جميع رغباتكم وحاجاتكم.."
وبتلخيص هذه المقولة: سنجد أن محور نجاح الفرد في الحياة، وفي العمل، وفي أي مشروع (دنيا وآخرة) هو ثلاث نقاط: الصدق مع النفس – الانسجام مع الأفكار والقناعات – ما تفكره فيه نفذه مباشرة.
لكن هذه المرحلة التي يتحدث عنها كريشنا ليست بالسهلة، لأن الإنسان بحسب كريشنا يجب "أن يكون عفويا بسيطا كالأطفال" وعليه "أن يطرد الغرور المتراكم في نفسه وقلبه" عليه "أن ينظر إلى تفاهته بالقياس إلى الحقيقة الإلهية الكبرى"..
ويعلمنا كريشنا أن الإنسان يصل إلى التقدم الروحي الذي يحقق له التوازن والاستقرار عبر وضعه الفكري والعقلي وليس من الأعمال الخارجية والطقوس الشكلية.. فالروح ترتقي بـ "القناعة الذاتية الصادقة وليس مجرد الطقوس والصلوات التي يؤديها المرء بشكل آلي وروتيني". 
وأخيرا أترككم مع سياحة تأملية لمقولات من ابن عربي الهند "كريشنا"..
"...المعرفة الحقيقة هي التي تطهر العقل والقلب معا، وما سوى ذلك فزيادة في الجهل..."
"...إن أوراق التقاويم الهندية مليئة بتحديد الأيام التي تهطل فيها الأمطار.. ولكنك إذا عصرت جميع هذه الأوراق، فإنك لن تحصل على نقطة ماء واحدة.. كذلك الكتب المقدسة فهي مليئة بالتعاليم الروحية المثالية.. ولكن مجرد قراءتها لا يكفي لجعل الإنسان مثاليا ومتقدما في روحانيته، فالأمر المهم هو ممارسة هذه التعاليم وبذلك يحصل الإنسان على نعمة الله ومحبته..."
"... كثيرا ما تجد بين علماء الدين رجالا في منتهى الفصاحة. فهم قادرون على إلقاء المحاضرات والخطب والمواعظ الطويلة حول شئون الله والروح والمطلق والفلسفة.. ولكن القليلين منهم استطاعوا أن يحققوا ما يتحدثون عنه..."

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

راما رواية البليك تغوص في أسرار الخلود وتتجاوز قواعد السرد

  في طفولتها البعيدة وهي تلعب بين مزارع الفول والفاصوليا وتسبح أحياناً مع البنات في النهر ساعة الفيضان، لم تكن خالدة تتخيل شكل مستقبلها، توفى معظم من تعرفهم ويعرفونها، كانت تحب فصل الشتاء لأنه يسمح لها بالاختباء تحت غطاء اللحاف، لتحلم، كانت طفولتها وشبابها مليئة بالفوضى فهي بنت الجزار الذي في لمحة بصر ومحض الصدفة تحول ضمن الحرس لشخصي لوزير مهم، هي بنت المرأة الطيبة القادمة من رحم الرق والبؤس، جد كان شحاذاً وتفاصيل مربكة استمرت إلى أن وجدت راجا الهندي الطيب تاجر المجوهرات، تكتمل الفرحة بميلاد الطفلة راما، الاسم المقتبس من الخلود بقداسته وأسراره. حياتها الجديدة لم تنسها ماضيها حكايات الخالة الصحفية المناضلة عوضية، والعم الذي مات بمرض لم يمهله كثيراً وسفيان، الأخ المولع بالفن والغناء، كثيراً ما يسير الماضي كشريط سينمائي بمونتاج محكم متداخل الأزمنة. كثيراً ما كانت تشعر بوخزة في صدرها وأن هنالك ما هو مؤلم في مقتبل الأيام، يموت الأب في حادثة مفجعة وهي طالبة جامعية، بكته رغم أنه لم يعد ذلك الأب الطيب الذي كسر الأعراف والتقاليد وانتصر للحب منذ أصبح من الحاشية ومرافقاً للوزير في كل أسفاره. تش

المناورة والطريق الأفضل.. إلى حمدوك مرة أخرى

لقد أهتم العلماء في فترة التنوير الأوروبي بالطبيعة، والأحياء، كيف تشكلت في الماضي. في سبيل السيطرة على المستقبل، لأن أدراك نسق التشكيل في التاريخ، يقود إلى التحكم في القادم.   قبل أن يأتي داروين الذي كسب شهرة كبيرة بنظرية التطور، جرب آخرون أغفلهم التاريخ هذا النمط من التفكير، ومنهم جان باتيست لامارك، الذي يعتبر أول من استخدم مصطلح البيولوجيا بالمعنى الحديث. وكان تقريبا أول من صاغ نظرية شبه متكاملة في التطور الإحيائي. استهل بذكر لاما رك، للاستشهاد بمقولته: "هل نتحرك أفضل حين تتقطع بنا السبل ولا نجد مخرجا.. عندما يتغير كل شيء؟" الفكرة تقوم على أن الكائنات في محيطها الطبيعي، دائما ما تلجأ إلى الحل في ساعات الاستعصاء القصوى، عندما يتبدل كل شيء تماما. تصل ما يمكن الاصطلاح عليه بلحظة "التلاشي". هنا تناور بطريقة جديدة. تستخدم كافة السبل الممكنة التي لم تخطر من قبل، وتستطيع أن تحدث انقلابا في الطبيعة نفسها لصالحها. هذا الأمر ينطبق ليس على الحيوانات والأحياء في فطرتها. بل على المجتمعات، ففن المناورة في "المساحات الصغيرة" أو "الفرص المعتمة" يقود إل

عن رواية الامام الغجري للكاتب عماد البليك، بقلم: فخر الدين حسب الله

في روايته "الإمام الغجري" التى يمكن وصفها بالرواية الواقعية، حيث تتحرك في جغرافيا وتاريخ محددين (السودان، 1821_الى الان)، يسرد البليك في متعة متناهيه تفاصيل الكثير من الأحداث التاريخية في السودان الحديث في رحلة البحث عن سر الغموض الذي يلف غياب أحد الرموز الدينية، الطائفية، السياسية.. واسمه الإمام سفيان النصري (الغجري). تبدأ أحداث الرواية عن صحفي سودانى، يحاول أن يكشف القناع والأسرار حول غياب الامام الغجري قبل عدة عقود، ليجد نفسه أم ام ملف شائك، شديد التعقيد . الصحفي بعد أن أمسك ببعض الخيوط وقبل أن تكتمل، اغتيل قبل أن ينشر ما لديه، اصابع الاتهام تتجه الى السلطة الحاكمة، فالنظام يقبض علي حرية النشر، ويضيق على الحريات، ويمنع الحديث حول غياب الإمام. وللنظام سوابق في الاغتيالات والتعذيب، فقد اغتيل صحفيون من قبل. يلجأ آخرون ينتمون إلى مؤسسات الدولة الحديثه الي عملية تحضير الأرواح لمعرفة ماذا كان يريد أن يقول الصحفي.. تسير الرواية بأقوال روح الصحفي.. لتحكى الروح حقيقة ما جري مضافا إليها خواطره وآرائه . تكشف الرواية عن الحبل السري بين السياسي ورجل الدين وانع