التخطي إلى المحتوى الرئيسي

عن المسرح في الحياة السودانية


إشارة:

لست اختصاصيا في مجال المسرح، وهذه الدراسة كان من الممكن أن يقوم بها بشكل أفضل مني الأستاذ السر السيد، الذي كان قد قدم مقالة مقتصبة على موقع الشروق بعنوان "المسرح في حياة السوداني" نشرت بتاريخ 31 يناير 2013، أو كذلك الدكتور شمس الدين يونس. غير أن رؤية منامية هي التي أملت علي أن انهض في منتصف الليل لابدأ في تجميع المراجع واستنهاض همتي بعد غياب عن الكتابة الممنهجة لفترة، فقد رأيت أحد أقاربي – رحمه الله – ولم يكن له علاقة بالمسرح، يؤلف في الحلم كتابا عن المسرح في السودان ويشير فيه لأمور مدهشة وهو يكتب بطريقة تمزج بين الفلسفة والنقد والتاريخ بما يجعله أقرب إلى مفكر غربي، وليكن الأمر كذلك فالأحلام تقبل كل شيء. وقريبي هذا تزوج من خالتي "سعاد" التي ألف جدي (والدها) باسمها مسرحية مثلت في مسارح بربر أواخر الستينات، وقد ضاعت نسختها الأصلية وسواها، بسبب الإهمال من الأسرة، وأتذكر في طفولتي أنها كانت منسوخة في كراسة ولم أعرف عنها شيئا فيما بعد، ويبدو أنها تتحدث عن التعليم وخروج الفتاة إلى المجتمع وغيرها من هذه الأمور، فجدي كان من "الأخوان المسلمين" وربما كان وقتها يمانع في خروج المرأة إلى المجتمع بالدرجة الكبيرة، لأن خالتي وكما علمت أنها لم تكمل تعليمها رغم تفوقها المثالي، إنما أو ربما لاعتبارات هي أشبه لذلك. ويشير السر السيد إلى مسرحية باسم سعاد للهادي آدم عرضت ألفت في 1955 وطبعت في كتاب من قبل مؤسسة أروقة في سنة 1990 (طبعة 2). ولا علاقة لمسرحية جدي بمسرحية الهادي.



 تمهيد:

 المهم فالسياق الذي أتكلم عنه يتعلق بالمسرح في الحياة السودانية، ليس بوصفه فعلا ممنهجا ومدروسا أو فنا يؤدي على المسرح بتعريفه المعهود، والذي أرخ له السر السيد بسنة 1903 ساعة قدم بابكر بدري مسرحية باسم "نكتوت" من تأليف عبد القادر مختار مأمور القطينة وقد عرضت بمدينة القطينة. إنما أعني المسرح كطقس حياتي أو فعل يومي في حياة السودانيين، ينعكس في تصرفاتهم ومزاجهم والتفاصيل اليومية التي نعبر منها منذ اليقظة إلى النوم، وفي طقوس الميلاد إلى طقوس الموت.
    من المدرك للباحثين أنه في لحظة ما من التاريخ القديم كان فعل الدراما أو المسرح جزءا من فعل الحياة، بحيث أنه يصعب فصل المسرح كفن – عن طقس الحياة ككل. وقد طرح شمس الدين يونس هذا السؤال في كتابه "الطقوس السودانية عبر التاريخ "(أروقة – 2003)، وبشكل مباشر.. "متى أنبثق الوعي بالدراما /المسرح من حيث أنها جزء منفصل عن الحياة، أو بعبارة أدق، متى انتقلت الطقوس من حيث أنها نسق محكم من الأفعال يمارس من أجل رفاه الجماع؟!" (ص93). كذلك يشار إلى العلاقة الجدلية والقديمة بين الطقوس الدينية وعبادة الآلهة وفنون المسرح والدراما، حيث أن أغلب الديانات تنحو إلى ابتكار أنظمة تمثيلية مؤدية تعمل عبرها على تعميق العلاقة بين الذات والإله، كما في طقس الصلاة أو الحج عند المسلمين.
    ويرى يونس أن التحول أو الوصول إلى نقطة الفصل بين المسرح كحياة والمسرح كفن، "لم تكن بالعملية البسيطة، فهي تحمل بين طياتها تطور بنيات المجتمع والتحولات الثقافية التي تكتنفه وتؤدي بدورها إلى تغيرات في المفاهيم التي تقود بالضرورة إلى تغيرات في الأشكال والأنشطة التي يمارسها المجتمع" (يونس/ص95). ولكن رغم أن هذا الفصل قد تم فعليا بحيث صار عندنا فيما بعد فن محدد باسم "المسرح" إلا أنه إلى اليوم كثيرا ما تتداخل المحاكاة وآليات التمسرح في ثنايا اليومي في حياة الكائن البشري، وإذا ما جرّد الرائي الكثير من المشاهد اليومية من حوله بحيث ينظر إليها محايدا ومركزا على الفحوى والدلالة، لوجد أن كثيرا من هذه المشاهد ماهي إلا طقوس تمثيلية ممسرحة تنتج بإحكام ويتم فيها توظيف القدرات الحكائية والمحاكاة والأداء الحركي والمشاعر الإنسانية المختلفة. فالمسرح موجود في كل فعل تقريبا.. والتدريب عليه يتم من خلال محركات وآليات غير مرئية بالشكل الواعي وإن هي كانت موجود فعليا. في ثنايا ما يحمله المجتمع من تقاليد وقيم مفاهيمية وتجسيدية. وفي بعض الأحيان تكون هناك حالة من الوعي بالفعل الممسرح ساعة يتم توظفيه لانتفاعات لحظية أو مؤقتة كما في طقوس الحيلة أو الشراء أوالبيع أو استدرار التعاطف الإنساني أو التلاعب السياسي، حيث يصل التمسرح إلى تشكيل وعي جمعي مزيف باسم "التمثيل" ليصل إلى أهداف سياسية معينة. وهذا الفعل أو تلك الأفعال جميعها، وإن كانت مطروحة في كل المجتمعات وعبر العصور، إلا أن الآلية أو الطريقة التي تعمل بها تختلف نوعا ما من مجتمع لآخر وفق لاعتبارات تتعلق بالمجتمع المحدد.. وهذا ما يحدد لماذا يمكن الحديث عن "المسرح في الحياة السودانية".. أو "طقوس سودانية".. لأنه على سبيل المثال فإن ممارسة "الغش" في أي موضوع كان تختلف آليته من المجتمع السوداني إلى المصري المجاور لنا، كذلك فإن طقوس مسرح الحياة السودانية هي الأخرى لها انعكاسات مختلفة في رؤية وتشكيل الفضاءات السياسية بماهو مختلف تماما عن المتشكل في الفضاء المصري.
    ولعله من البديهي القول إن أية أفعال ممسرحة تتم بشكل منتظم ويعاد إنتاجها من قبل المجتمع بالطريقة ذاتها، مع إضافات بسيطة تستدعيها الحاجة أوالضرورات الوقتية، ما هي إلا "طقوس". فالطقوس هي مجموع الأفعال الممسرحة التي يقوم عليها المجتمع المعين. سواء كانت طقوس دينية أم متعلقة بالأفراح أم الأتراح، كطقس ميلاد الطفل وما يرتبط به من عادات وتمثيليات من قبله وبعده، أو طقس الموت والجنازة والدفن أو الأداء الممسرح في جلسات ست الشاي حديثا، أو مصطبات العصاري أمام البيوت والدكاكين وغيرها من هذه الطقوس التي تتنوع وتختلف في أبعادها وعمق العملية المسرحية داخلها. فالطقوس هي أفعال درامية ومسرح يومي معاد، الحاجة إليه نابعة من "حاجة الإنسان إلى التفكير في وجوده" (يونس/ص59). ويرى يونس أن هذه الطقوس الدرامية اليومية والمكررة في الحياة تعمل على إيجاد الشعور بالراحة بين أفراد المجتمع والإطمئنان والتوازن، وهو الأمر الذي أدي في تقديرنا إلى احتفاء الدين بالطقوس، والتركيز عليها كأركان يكون هدمها هدما للدين. وهذه الخبرة التي انعكست في العبادة، ماهي إلا نتاج خبرات وتجارب تراكمت في الحياة الإنسانية عبر عصور متعاقبة.

    بدايات:

    "افتح الشنطة"، هكذا نهرني ذلك الأفندي في مطار الخرطوم... نصف قميصه خارج بنطاله.. وبين أسنانه وشفته السفلى "سفة".
    فتحت الشنطة جاس بأصابعه الخبيرة في قعرها. أخرج جلد الأفعى الاستوائية الكسول الذي كنت أحمله هدية لأحد الأصدقاء بالأحرى بناء على طلب زوجته التي نفسها في حذاء وشنطة من ذلك الجلد.
    "ده شنو؟" سألني مستنكرا.
    "جلد أصلة.. ماله؟" أجبت متسائلا.
    "يا سلام.. الحركات دي أحسن تبطلوها".. ثم ألقى عليّ درسا في الوطنية والبيئة والقانون.. واختتم محاضرته بشتم كل المغتربين..
    (ص6- عبق الأرض – عبد المنعم علي الأمين – 2003 – مطابع دار الشرق – الدوحة)
    هذا المشهد التمثيلي الواقعي الذي حدث في مطار الخرطوم ذات يوم كما يرويه لنا عبد المنعم علي الأمين في كتابه "عبق الأرض"، يجسد حالة من حالات التمسرح اليومي في الحياة السودانية.. والفضاء هنا المطار.. والشخص الذي يقوم بمهمة الممثل هو "موظف الجمارك" الذي كان من الممكن أن يؤدي دوره بـ "لياقة وأدب".. دون أية حاجة إلى كل هذه "التمثيلية" كما يسميها السودانيون.. أو "المسرحية".. والتي حاول عبد المنعم أن يرد سببها إلى "المزاج الشخصي" أو أمور أخرى كمشاجرة مع الزوجة أو عدم الإفطار أو "ليس في صندوقه فكه" وغيرها من الأسباب.
    فالموظف هنا يخرج عن الدور الذي يجب أن تحتله طبيعة العمل المناطة به. كان من الممكن أن يسأل بطريقة بسيطة ومهذبة ويوضح.. ولكن تماديه في إلقاء الدروس بقدر ما يعني انعكاسا لحالة أو مزاج نفسي أو شخصي إلا أنه يعكس في الوقت نفسه، صورة للمزاج السوداني في وظيفة عامة.. ويعني بدرجة ثانية وفق مفهوم "الطقوس".. كيف يتحول طقس العمل اليومي في الجمارك إلى "حالة تمثيلية" يتم توارثها عبر أجيال من الذين يمارسون المهنة، مع الاستثناءات طبعا.. وهذه "الطقوس" المرتبطة بالمهن نجد لها صور ذهنية تمثيلية لدى الشرطي السوداني وسلوكه مع الجمهور، وكذلك سائق الحافلة والكمساري، والسمسار الذي يراوغ ويمارس شتى الصور التمثيلية والممسرحة لكي يصل إلى مبتغاه أو هدفه، وهو الذي دخل المهنة في البداية بالموهبة فقط.. إن جاز التعبير.. ورأى كيف تمارس الأمور وتمثل الأحوال ودأب على الحال يتقلد ويتعلم حتى انتهج طريقته الخاصة.
    ولكي ندرك مضاد الصورة التي أوردها عبد المنعم الأمين فإنه في كتابه نفسه يأتي على المضاد ساعة يورد كيف أن موظف الجمارك نفسه ولكن في مطار آخر يفتح الشنطة ويغلقها ويتأكد من وجود "جلد الأصلة" ورغم تأكيد المسافر أنه يحمل هذا الجلد، إلا أن الموظف ينظر إليه كأنه يقول له أنت "عوير ولا شنو!" (ص7).. وكأن الأمين يريد أن يرينا اختلاف المزاج أو حالة الفعل التمثيلي والممسرح بين الموظف السوداني وقرينه في بلد آخر. فالموظف السوداني أوجد حالة درامية "هائلة"، وهي استقطاع لجزء من الحياة وفعل بقدر ما يجلب التضايق للنفس، إلا أنه يعبر عن الترويح الذاتي والتزجية للروح في المقابل للشخص الممارس الذي أدمن هذا الفعل اليومي.
    وهنا يكون السؤال عن سبب هذه الحالة المزاجية أو إنتاج مثل هذا النوع من المسرح الدرامي الواقعي المعاش، بحيث أن الجميع في الصالة بالمطار يتحولون إلى جمهور، ويحدث ذلك في مواقف كثيرة، وباسترجاع الذاكرة يمكننا الحصول على مواقف كثيرة تتحول إلى "فرجة" وما أكثرها في الواقع اليومي، في الشوارع والأسواق وبوابات المستشفيات وداخل المواصلات العامة وغيرها مع التأكيد على النقطة التي سبق إيرادها وهي خصوصية الطقس والأداء التمثيلي الذي يتفاوت من مجتمع لآخر.
    إن الحالة التمثيلية أو المسرحية الواقعية التجسيدية سواء كان بطلها بوابا في مستشفى يمارس عنته على الذين يريدون الدخول في غير وقت الزيارة الرسمية أو ربما شحاذ "حقيقي" في شارع وسط السوق يطلب العون، أو سمسار يريد أن يصل لنسبته من بيع عقار بعد كساد طويل. هذه الحالة تكاد تتسم بالصدق والتقاطع الحقيقي بين ما تظهره الذات وما تبطنه، بمعنى حدوث تطابق بين الداخل والخارج، وهو ما يجعل الأداء التمثيلي مباشرا وبحيث لا يفكر الشخص بأنه "ممثل" بخلاف من يقف على المسرح الذي سيكون مطالب بالإجادة أو "الإحسان" بأن يصل بنا إلى هذه الحالة من التطابق بين "البراني والجواني" وهذا ما يفرق ممثل عن آخر. ولهذا فإن المسرح ساعة يتحول إلى أداء على الخشبة يكون الوضع قد اختلف لأن الجمهور سوف يتعامل مع "فن"، بخلاف الحالة الواقعية الممسرحة التي لن توصف بـ "فن". وبالانتقال إلى الفن يكون مطلوبا "إتقاء الله في الجمهور" بتعبير عرفات محمد عبد الله ساعة كتب سنة 1932 معلقا على مسرحية "فران البندقية" التي عرضت بأعياد الفطر بملعب نادي الخريجين بأمدرمان والتي كان الدخول إليها بالبطاقات.
    كتب عرفات: "فيا رجال التمثيل اتقوا الله في هذا الجمهور الذي عليه تعتمدون ولا تستغلوا طيبة قلبه بغير حق وقدموا له ما يرتاح إليه وما يفيده، تجدوا من تعضيده ما يسركم وينهض بالفن والبلاد إلى الإمام". (مجلة النهضة- العدد 21- فبراير 1932 ص15-17)، ولئن اختتم عرفات بهذا الكلام فالواقع أنه قدم لنقل دراسة في عدة صفحات ناقدة للمسرحية الإيطالية المسودنة، من حيث الديكور والموسيقى وأداء الممثلين. وهذه الحالة من الوعي بالمسرح، كفن في الحياة.. ربطت المسرح كفن بالفائدة والتقوى، بأن يكون له هدف وغاية ورسالة. وعلى النقيض هل يكون الأداء التمثيلي الواقعي في مسرح الحياة خاليا من الهدف أو الرسالة. صحيح انه مرتبط بهدف، لكنه قد لا يكون مرئيا أومدركا. وهذا هو الفارق بين الواقع والفن. رغم أن المتعة قد تتحق في كليهما.
الطقوس والخيال والتحولات الحديثة:
    لابد من الإشارة إلى أن الحالة المسرحية الواقعية أو التمسرح الواقعي في الفضاء السوداني وسواه، مرتبطة إلى حد كبير بأمرين: الأول هو الطقوس المتوارثة والثاني هو الخيال أو القدرة على إنتاج وقائع جديدة في اليومي والمعاش. هذا بغض النظر عن الهدف إن كان موجودا في الرسالة المسرحية أم لا.
    في حالة الطقوس نكون أمام ممارسة مجترة ومعادة ولسنا متأكدين عن مدى تقاطع الذات الفاعلة مع الفعل، هل هي مقتنعة به أم لا، ولكن عليها أن تؤديه باعتباره على الأقل عادة كما يحدث مع الكثير من الأفعال، مثلا عادات الزواج والختان ولباس العروس وغيرها.
    أما الخيال فيأتي ليلعب الدور المركزي في نقل الطقوس إلى الوضع الدرامي الذين يجعلها محتفيا بها بشكل أكبر، ولهذا فإن بيوت البكاء أو الأعراس على سبيل المثال تلعب دورا في التسلية والتزجية عن النفوس وتمثل فضاءات مسرحية حقيقية بما يتحرك فيها من حكايات وقصص ومرويات وأداء تمثيلي، كما في فعل البكاء عند النساء وما يصاحبه من حركات وتجسيدات أو فعل الفاتحة عند الرجال ومن ثم طريقة الجلوس وتقديم الشاي ورواية حكاية الموت "كيف مات المتوفى؟"، وسيكون الأمر مؤثرا ومحمولا بالمشاعر والأداء الحركي إن كانت للحكاية توابع سردية ملغزة كما في الوفيات بالحوادث أو الغرق حيث لابد من سبر أغوار القصة للتعرف على التفاصيل من قبل المتلقي.
    هذه الطقوس تمارس ويلعب الخيال دورا فيها دون أن يكون ثمة أدنى شعور بالحالة المسرحية أو التمثيلية، حيث يتعامل الجميع مع الأمر على أنه واقع معاش. لكن تجريد المشهد يكشف عن مسرحة كاملة مستوفية الشروط من حيث القصة والفراغ أو الفضاء المسرحي والجمهور المتفرج من الحضور والراوية الممثل، ولايحتاج المشهد لسوى قليل من الإضافات ليصبح مسرحية بمواصفات الفنون المسرحية الحديثة.
    وهذا يفتح الباب إلى تأمل هذه الطقوس والتفكير في إعادة إنتاجها بحيث تصبح فنونا على المسرح بالمعنى المألوف.
    والطقوس بشكل عام بقدر ما تبدو ثابتة في مبادئها، إلا أنها متغيرة مع الزمن نتيجة للمتحركات في الحياة، وهذا واضح وجلي في ما شهدته طقوس الزواج مثلا من تحولات كبيرة في عدة عقود وهي مترادفة مع المتغيرات ماديا وتاريخيا أي سياسيا، وكذلك في نطاق ما يحدث في العالم بشكل عام باعتبارنا جزءا منه لاسيما مع وسائط الانفتاح الجديدة.
    فقبل فترة تحدثت وسائل إعلام عن عروس يتم استقبالها من قبل "الجمهور" وهم الأهل والمدعوين، في تابوت. وهو طقس في الأساس جنائزي ومحزن ولا يليق بالمناسبة التي سمتها الفرح والطرب، ما يشير إلى دلالات تحتاج التوقف عندها، في ليس ما يوصف بمجرد الاختلال في الرؤية وإنما انعكاس في الأداء الممسرح على الواقع نتاج تقاطعات لأمور أخرى استجدت في الحياة الاجتماعية والسياسية، حيث أن الدراسة المتعمقة لمثل هذه الطقوس كـ "طقس تابوت العروس"، يشير إلى تحولات في المزاج وأيضا دلالات غير مرئية لما يتحرك في المجتمع السوداني. كذلك أشير إلى فيديو متداول على الإنترنت لمجموعة من الشباب يرقصون وهم متماسكين على الطريقة الغربية على أنغام مكبر الصوت بجوار النيل في منطقة قريبة من الخرطوم كما قيل، وبغض النظر عن الموقع فالرقص مستوحى من الموسيقى نفسها التي هي أغنية مايكل جاكسون الشهيرة " you are not alone" حيث أن فتاة تصعد إلى المسرح بعد أن تشق طريقها وسط الجمهور بقوة وترقص مع مايكل جاكسون بطريقة "خاصة"، بمراجعة الفيديو سوف نكتشف أنها الطريقة نفسها التي يرقص بها الشباب السودانيون بجوار النهر.
    هذا الاختلاف في الأداء الراقص ما بين طقوس الرقص السوداني التقليدي والحديث.. بل والمخصص في الفيديو هو ثيمة لعصر الميديا وتأثيرها الواسع الانتشار، وهو يعني أن الخيال نفسه يعاد إنتاجه وفق مؤثرات أكثر حداثة، بحيث من الصعب الحديث عن خيال سوداني بحت أو حالة ممسرحة ذات طقوس سودانية خالصة.
    غير أن المفارقة أنه في الوقت الذي "يتطور" فيه الأداء المسرحي على المستوى الواقعي بغض النظر عن رؤيتنا له من حيث التقييم بطريقة عرفات مع عبد الله وبحثه "عما يرضي الله" أو "الإتقاء"، فإن المسرح كـ "فن" في السودان يظل متخلفا.

    فنظرة بسيطة تكشف كيف أن المجتمع باتت له أنظمة جديدة ورؤى أكثر حداثة ومخيال معقد ومعولم، يتجاوز المكان والسلطة في محاولتها لتأطير كل شيء. في الوقت الذي يحتفظ فيه المسرح كفن على الخشبة بحكايات تقليدية وأسلوب "بدائي" في المحاكاة قياسا إلى المتغير على مستوى الحياة السودانية، بحيث يمكن القول إن الأسلوب التمثيلي والأدائئ لرئيس الدولة في الخطابات الجماهيرية والذي بات يعرف به على مستوى العالم، من حيث الكلام ومن ثم الرقص بالعصا على الأنغام المحلية لاسيما "الجهادية" وطريقة تحريك الجسد وغيرها.. هذا الطقس يكاد يكون رفيعا في قراءته من حيث بعده الممسرح، أكثر مما تقدمه مسارح البقعة وقاعة الصداقة. ما يؤكد خاصية المسرح في الواقع السوداني على مستوى المواطن العادي والقيادات السياسية، وتعقيدات ذلك المشهد بدرجة تفوق الأداء الفني، وهو ما يشابه الحالة الشفاهية في المعرفة والثقافة السودانية التي يتحول جزء يسير منها إلى كتب ومسطورات.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

راما رواية البليك تغوص في أسرار الخلود وتتجاوز قواعد السرد

  في طفولتها البعيدة وهي تلعب بين مزارع الفول والفاصوليا وتسبح أحياناً مع البنات في النهر ساعة الفيضان، لم تكن خالدة تتخيل شكل مستقبلها، توفى معظم من تعرفهم ويعرفونها، كانت تحب فصل الشتاء لأنه يسمح لها بالاختباء تحت غطاء اللحاف، لتحلم، كانت طفولتها وشبابها مليئة بالفوضى فهي بنت الجزار الذي في لمحة بصر ومحض الصدفة تحول ضمن الحرس لشخصي لوزير مهم، هي بنت المرأة الطيبة القادمة من رحم الرق والبؤس، جد كان شحاذاً وتفاصيل مربكة استمرت إلى أن وجدت راجا الهندي الطيب تاجر المجوهرات، تكتمل الفرحة بميلاد الطفلة راما، الاسم المقتبس من الخلود بقداسته وأسراره. حياتها الجديدة لم تنسها ماضيها حكايات الخالة الصحفية المناضلة عوضية، والعم الذي مات بمرض لم يمهله كثيراً وسفيان، الأخ المولع بالفن والغناء، كثيراً ما يسير الماضي كشريط سينمائي بمونتاج محكم متداخل الأزمنة. كثيراً ما كانت تشعر بوخزة في صدرها وأن هنالك ما هو مؤلم في مقتبل الأيام، يموت الأب في حادثة مفجعة وهي طالبة جامعية، بكته رغم أنه لم يعد ذلك الأب الطيب الذي كسر الأعراف والتقاليد وانتصر للحب منذ أصبح من الحاشية ومرافقاً للوزير في كل أسفاره. تش

المناورة والطريق الأفضل.. إلى حمدوك مرة أخرى

لقد أهتم العلماء في فترة التنوير الأوروبي بالطبيعة، والأحياء، كيف تشكلت في الماضي. في سبيل السيطرة على المستقبل، لأن أدراك نسق التشكيل في التاريخ، يقود إلى التحكم في القادم.   قبل أن يأتي داروين الذي كسب شهرة كبيرة بنظرية التطور، جرب آخرون أغفلهم التاريخ هذا النمط من التفكير، ومنهم جان باتيست لامارك، الذي يعتبر أول من استخدم مصطلح البيولوجيا بالمعنى الحديث. وكان تقريبا أول من صاغ نظرية شبه متكاملة في التطور الإحيائي. استهل بذكر لاما رك، للاستشهاد بمقولته: "هل نتحرك أفضل حين تتقطع بنا السبل ولا نجد مخرجا.. عندما يتغير كل شيء؟" الفكرة تقوم على أن الكائنات في محيطها الطبيعي، دائما ما تلجأ إلى الحل في ساعات الاستعصاء القصوى، عندما يتبدل كل شيء تماما. تصل ما يمكن الاصطلاح عليه بلحظة "التلاشي". هنا تناور بطريقة جديدة. تستخدم كافة السبل الممكنة التي لم تخطر من قبل، وتستطيع أن تحدث انقلابا في الطبيعة نفسها لصالحها. هذا الأمر ينطبق ليس على الحيوانات والأحياء في فطرتها. بل على المجتمعات، ففن المناورة في "المساحات الصغيرة" أو "الفرص المعتمة" يقود إل

عن رواية الامام الغجري للكاتب عماد البليك، بقلم: فخر الدين حسب الله

في روايته "الإمام الغجري" التى يمكن وصفها بالرواية الواقعية، حيث تتحرك في جغرافيا وتاريخ محددين (السودان، 1821_الى الان)، يسرد البليك في متعة متناهيه تفاصيل الكثير من الأحداث التاريخية في السودان الحديث في رحلة البحث عن سر الغموض الذي يلف غياب أحد الرموز الدينية، الطائفية، السياسية.. واسمه الإمام سفيان النصري (الغجري). تبدأ أحداث الرواية عن صحفي سودانى، يحاول أن يكشف القناع والأسرار حول غياب الامام الغجري قبل عدة عقود، ليجد نفسه أم ام ملف شائك، شديد التعقيد . الصحفي بعد أن أمسك ببعض الخيوط وقبل أن تكتمل، اغتيل قبل أن ينشر ما لديه، اصابع الاتهام تتجه الى السلطة الحاكمة، فالنظام يقبض علي حرية النشر، ويضيق على الحريات، ويمنع الحديث حول غياب الإمام. وللنظام سوابق في الاغتيالات والتعذيب، فقد اغتيل صحفيون من قبل. يلجأ آخرون ينتمون إلى مؤسسات الدولة الحديثه الي عملية تحضير الأرواح لمعرفة ماذا كان يريد أن يقول الصحفي.. تسير الرواية بأقوال روح الصحفي.. لتحكى الروح حقيقة ما جري مضافا إليها خواطره وآرائه . تكشف الرواية عن الحبل السري بين السياسي ورجل الدين وانع