بحثا عن قيمة، وبحثا عن حياة لها معنى، وبحثا عن جدار يكون منه الهروب
من سجن الواقع وسجن الذات؟ ولكن إلى أين.
كان ذلك الرجل الذي يسمي نفسه مفكرا. كان قلقا في ذلك اليوم لأنه في
أشد لحظاته ضيقا من نفسه. كان بإمكانه أن يفكر في فعل أشياء قبيحة ولا ترضي
الخالق. لكنه مفكر مؤمن. وهو أيضا مفكر ملحد. وهو إشكال يصعب تفكيكه من الوهلة
الأولى.
في ساعة صفاء معينة مع ذاته بإمكانه أن يرى الله ويتلمس الحكمة من
الوجود الخفي وراء أسرار النمل وهو يتمشى في الليالي الظلماء.
وفي ساعة أخرى يكون ذلك الذي عليه أن يكفر بكل الأشياء.. يرى نفسه في
عالم مظلم ليس فيه من منفذ للحقيقة. لا بداية ولا نهاية ولا أمل.
يتذكر أنه في ذلك الصباح البهي. لنقل بهي إلى حين. أنه قرأ بعض من
آيات الذكر الحكيم ومن ثم أعقب ذلك ببعض من الأشعار لريلكه.
هل هي قراءة ريلكه التي جعلته ينزع للتأمل والوحدة؟
وهل هي سبب كآبته في هذا اليوم؟
هو لا يحب الألمان عموما. يرى فيهم براغماتيين، يراهم كائنات متخشبة
لا دم فيها ولا روح. بعكس الفرنسيين لهم أرواح لكن دماؤهم من شيء آخر غير الدم
ربما هي عصائر فاسدة تسير في مجرى الدم. والإنجليزي.. يتوقف عن التفكير متذكرا
رواية "مقبرة براغ" لامبرتو إيكو وكيف أن الراوي كرّه كل الأجناس
الأوروبية، لم يبق من جنس إلا وأرهقه بالشتائم.
المهم إن قراءة ريلكه شيء غير موفق في هذا الصباح. لن يفعل ذلك بعد
اليوم أبدا. لن ينزع للتجريب مع أناس ماتوا قبل سنوات طويلة وهم يحاولون السيطرة
على فكره بأفكارهم. سيقرر أن يكون ابن اللحظة، ابن المعاش. ابن الراهن.
قرر ذلك. وأن ذلك هو السبيل الوحيد أمامه لينهض عن العالم المتثاقل،
ويخرج من سجنه الذي هو فيه. أن يهرب إلى عالم آخر ليس فيه من شيء سوى الناس
والأشياء من حوله، هذه هي أفضل الهزائم التي يمكن أن يعلنها الإنسان ضد العالم وضد
الواقع وضد نفسه طبعا.
كتب على جبينه بالوهم الجميل. فحم الوهم الجميل.
"أنا الآن ابن الواقع.. ابن اللحظة.. وداعا أيها الماضي.. أيها الشعراء
والكتّاب والأفاكين.. وداعا أيتها الصحف التي تمنحنا أخبار الأمس.. ونحن ننتظر
اليوم.. وداعا يا أجهزة التلفزة التي تقدم لنا كان وكان وحدث.. ولا تقول لنا ما
سيكون.. وداعا.."
كان يكلم نفسه وهو يمشي عجولا لا يلتفت للمارة من حوله ولا أبواق
السيارات.. يحاول أن يغوص في ذاته البعيدة.. في ريلكه الذي يسكنه، وهو يهاجس ذاته
لماذا ليس هو قادر على أن يُخلِّص للفكرة التي آمن بها قبل قليل.. هل الإنسان أسير
عقله أم أشياء أخرى خارجه هي التي تملي عليه. ليس بإمكانه أن يقرر أو أن يرى
الحقيقة. ليس أمامه من حقيقة أبدا. إنه العالم مظلم.
يتحسس جيبه عليه أن يقتل جوعه. ولكن كيف؟
ليس معه من جنيهات. يقف أمام مطعم الشواء.. كذلك الشحاذ الذي يحكون
عنه في قصص الأطفال. عليه أن يأكل الرائحة مع خبز قديم في الشارع. ولكن صاحبنا سوف
يأتي ليطالب بالثمن. أعرف ذلك.
يهرول سريعا. يجد جسرا أماما يهرول أيضا إلى نهاية الجسر. يرى نهرا
عظيما يتحدر من جهة لأخرى. أبراج ترتفع إلى السماء. مأذن وعمال يتصارخون من مسافة
بعيدة كأنهم يصرخون في أذنه. يصيح باتجاههم: كفى.. كفى أيها الجبناء. أيها
الخاضعون لأسيادكم.
يعرف كيف يتكلم عن الحرية والجمال والمطلق والله والشيطان وريلكه
طبعا. لكنه لا يعرف أن يكون سيدا.. هههه.. يضحك مع كائن يشبهه يظهر على الماء
أمامه.. يتذكر نصيحة قديمة سمعها من أبيه.. لا تركن للأيام إلا بقدر الحاجة.
لكنه الآن لا يعرف أن يفسر تلك الحكمة. ما هي الحاجة التي يجب أن
يعتقد فيها. وأي قدر سوف يقيس به.
"العالم مهزلة" خطّ بأصبعه على الماء.. لكن لا أثر بقي على
الماء.. الماء يأكل الكلمات ويذهب بها إلى الأقاصي حيث لا شيء.
تذكر أن الفكرة التي سيطرت عليه قبل النوم أمس، هي:
"الفلاسفة الجدد يا أنت.. هم تطبيقون لا منظرون!"
وقد نام على هذه الفكرة.. سيكون ابن الواقع.. وإلى الآن لم يستطع أن
يقترب من الثمرة المتوقعة. لم يعرف كيف سيكون له أن يكون تطبيقيا..
قرر أن يتراجع عن فكرته.. أن... لن يكون جبانا مثل يوكيو مشيما ويقرر
الانتحار، فالحياة رائعة بالأفكار.. لن يمضي هكذا فلديه الكثير مما يجب أن يفعل..
لديه آمال عظيمة وجنون مستمر.. عشرات الأشياء التي يجب أن يفكر فيها ويعيد
ابتكارها في مخيلته.. لديه حلم أن يصبح ريلكه جديد.. حتى لو أنه يكره ريلكه في هذا
الصباح.
الوقت الآن يقترب من الظهيرة.. يرتفع صوت المؤذن في المسجد القائم
بجوار النهر، يهرول من جديد، يتوضأ على عجل من الماء البارد.. ويدخل سريعا منحشرا
وسط الصفوف.. صوت رجل جهور يرتفع وهو يقرأ الآيات.. كأنه يعرض لصورة إبراهيم
الخليل.. كانت هناك زقزقة عصافير تتحرك في النافذة.. يزيح رأسه يمينا غير حافل
بقواعد الصلاة يبتسم لها.. تزقزق من جديد وتطير واحدة تلو الأخرى في فراغ المسجد
الداخلي.. يتخيل أن نفسه في الجنة. ولكن أليس هو الذي رمى بنفسه من أعلى الجسر؟!!
ولكن كيف حدث ذلك.. هل الجنة للشهداء أم لأمثاله من...؟
يسلم الجميع:"السلام عليكم. السلام عليكم"
يسلم هو.. سرا.
كان هناك ضجيج في الخارج.. وليمة عظيمة.. ودراويش يضربون على الطبل.
يندس بينهم.. يهز جسده بقوة ويذوب في المجموع.. يمد يده بعد فتر كبير.. يتناول
لقمة دون أن ينظر لطبيعة الطعام، يكون قد بدأ في رؤية الأشياء من حوله.. يستطيع
الآن أن يميز مجموعة من الناس الجالسين في صفوف على كراس وثيرة ومن ثم كراس خشبية
وأخرى من حديد.. ووراءهم آخرون واقفون ومن ثم زمرة من المنحشرين فوق بعضهم البعض
وهم يتدافرون.. كأنهم على ظهر لوري..
هناك رجل يجلس منعزلا وسط الجميع. رجل في الصف الثاني الخشبي.. يعاين
إلى السماء بقوة غير حافل بالجمع.. يشبهه لحد كبير.. يقترب منه.. لا يعرف كيف وصله
فالحشد كبير والمهمة صعبة.
أخيرا يسلم عليه.. بقوة يتصافحان ثم يتحاضنان.. والدموع تكسو كل
منهما.. تغسل عنه أوجاع سنوات طويلة.. يدعوه بالتفضل أن يجلس..
يجلس يبدأ في سماع الخطبة التي يلقيها الرجل الواقف في المنصة.
تعليقات