يمكن تتبع العديد
من الممارسات الحرفية والصناعات التقليدية في السودان التي تحمل طابعا تشكيليا في
طرق أدائها وإخراجها وتمظهرها. وهي فنون متوارثة منذ قرون طويلة كالمنسوجات التي
تقوم على توظيف أوراق شجر النخيل والدوم كالبروش، أو صناعة الطواقي (أغطية الرأس)
التي تأتي بأشكال وألوان متنوعة وتقوم عليها النساء بشكل خاص بجهد جهيد ومثابرة
وتوظف في ذلك الإبرة، أو فنيات صناعة الأزيار من الطين والتي تستخدم لتبريد ماء
الشرب وتنقيته من العكر، وغيرها.. وهذه في جملتها فنون تقليدية ذات طابع تشكيلي
تمارس بشكل فطري من قبل السودانيين.
وهذه الفنون حتى
لو أنها أعطت ملامحا جمالية أو اقترابا من التعريف الجمالي للحياة، إلا أنها لا
يمكن أن يتم تعريفها بناء على معطيات الفنون التشكيلية بمعناها الحديث، فهي أنساق
جمالية مجتمعية أو ممارسات حرفية أغلبها نبع من الاحتياج المباشر وحتى لو تطور في
جزئيات منه إلى المعاني الفنية إلا أنه يظل عملا صناعيا في المقام الأول له دور
محدد، فالغالب في المجتمعات ما قبل الحديثة أن الفنون والحرف تكون ذات منطق جمالي
متعلق بالوظيفة التي تؤديها وهي بالتالي تصمم على هذا الاعتبار، كما في الأباريق
مثلا التي كانت تصنع من الطين ثم تحولت إلى الصفيح بالاستفادة من الأدوات اليومية
التي يتم التخلص منها كـ "علب الحليب" وغيرها، وهذا توظيف رائع لو أنه تم اليوم بناء على صور أكثر علمية ودقة
بتدوير المنتجات والاستهلاكيات.
غير أن الملمح
الأوضح في الثقافة الكلاسيكية الجمالية في ارتباطها بالفن التشكيلي الحديث يمكن
استنطاقه عبر بعدين، الأول: هو الرسومات الشعبية المتداولة في البيوت والتي تصور
مشاهد من الحياة السودانية، وقبلها بدرجة أوضح تعلق الإبداع التشكيلي بعملية توظيف
الألوان والزخارف في الكتاتيب التقليدية التي تدرس القران الكريم والتي تعرف
بالخلاوي.
ففي النظام
التعليمي السوداني التقليدي، لعبت مؤسسة الخلوة دورا كبيرا قبل استبدالها برياض
الأطفال الحديثة أو التعليم النظامي الأولي، بل أن الخلاوي ولا تزال في بعض
المناطق في الشرق ودارفور على سبيل المثال، هي مؤسسات العلم قبل التعليم العصري
والمدارس الحديثة، ويمكن القول بدرجة من المعقولية أن مؤسسة الخلوة لعبت دورا في
إنتاج نوع من التشكيل الفطري الأهلي والتقليدي الذي كان له بعدا مباشرا في إثراء
المخلية بالحروفية العربية والفن الإسلامي ممثلا في جانب الخط العربي وعلاقته
باللون بشكل خاص.
هذه العملية كانت
تتم عبر ما يقوم به الطلبة من كتابة لآيات القران على ألوان خشبية بغرض الحفظ، حيث
ينشأ التعود على الخط العربي والمران عليه بشكل يومي، وتسبقها الكتابة بالأصبع على
التراب. ويقوم الطالب في مرحلة استخدام الألواح بصناعة قلمه من البوص أو القصب،
وكذلك حبر الكتابة الذي يصنع من مواد عضوية كالسناج الذي يتشكل عن طريق حرق الحطب
ومن الفحم، أو بقايا الرماد والذي تضاف إليه مواد مذيبة كالماء وقليل من الصمغ
وألياف وخيوط رقيقة بهدف التماسك. هذا يعكس أن مسألة تعلم كتابة الحرف وتشكيله
ترادفها صناعة تقليدية متعلقة بإنتاج أدوات هذا العمل دون الحاجة إلى المواد
الحديثة التي لم تكن قد عرفت بعد في المجتمع، لفقره وانعزاله عن المركز الأوروبي
في فترة كانت المنطقة عموما تعيش في مرحلة ما قبل النهضة الحديثة.
ويكلل النشاط
التشكيلي في الخلوة المرتبط بالأثر الإسلامي في يوم تخرج الطالب أو احتفاله سواء
بحفظ أجزاء من القران أو كله، وهي مناسبة يسبقها استعداد ذهني وممارسة تتداخل فيها
الفرحة بالمنجز الروحاني بالنزعة النفسية الفنية وإن لم يتم تعريفها بهذا السياق.
هذا الحدث المسمى بـ "الشرافة" يقوم فيه الطالب بإنتاج زخارف ورسومات
على لوح القراءة، مثلا رسم قبة ومنارة مسجد وتلوينهما بألوان زاهية مصنوعة من
المواد المحلية في البيئة، حيث يكتب الطالب بخط جميل وبعناية آيات من القران
الكريم هي في الغالب الآيات الأولى من السورة التي أدركها في الحفظ.
يتبع ذلك الطقس
الاحتفالي أن يحمل الطالب لوحه الذي هو بمثابة لوحة تشكيلية تقوم على الحروفية
والتعاطي مع اللون ومفردات من العمارة الإسلامية كالقبة والمئذنة؛ ويقوم بعرض هذه
"اللوحة" على الناس في سوق البلدة وهو يتنقل بينهم بما يعطي مفهوم
"المعرض المتجول" وإن كان للوحة واحدة.. أو مجموعة لوحات يعرضها الطلبة
في سوق البلدة وهم فرحون بالمنجز الروحاني الذي ينعكس في هذه الطقس الاحتفالي الذي
يكلل نتاجه بمرئي تشكيلي وبصري يستوحي الحرف العربي والآية القرانية في إبداع
منظور جمالي يثير الانتباه.
إن هذا الطقس الذي
جوهره قائم على التعلق بالثقافة الإسلامية وتعلم القران الكريم والخلوة، يحمل في
ثناياه ممارسة تشكيلية لم يتم الانتباه لها بالدراسة الجلية، بما يعمل على تطوير
هذه المؤسسة "الخلوة" أو يعيد إنتاج هذه الطقوس في شكل أكثر حداثة
يستفاد منه في مؤسسة التعليم الحديث وتعليم الطلبة الحروفية العربية بدقة وكذلك
خلق نوع من الربط بين العلم الديني والفنون التشكيلية الحديثة، حيث أن ربط الفن
بالبعد الروحي في حياة الناس ومنذ فترات مبكرة من عمر الإنسان قد يؤدي ذلك لنتائج
إيجابية في نشر الثقافة الفنية بطريقة مختلفة، ما يساهم في كسر الحواجز القائمة بين
الفنون التشكيلية والمجتمعات.
ويمكن الإشارة إلى
أن المدارس الفنية الحديثة وعلى رأسها مدرسة الخرطوم التشكيلية كانت ذات طابع في
الاستلهام المباشر لمجتمع الخلوة باعتباره بعدا مركزيا في الوعي الجمالي للإنسان
السوداني في تلك الفترات، ولم يفعل التعليم الغربي غير أنه أمده هؤلاء الفنانين
بالآليات والمناهج الحديثة، حيث أن جوهر أو مكنون أعمالهم لدرجة واضحة كان متعلقا
بتلك التأسيسات، ولاحقا رأينا مدارس أكثر تخصصية والتصاقا بهذه الفكرة مثل ما عمل
عليه المرحوم أحمد عبد العال في مدرسة الواحد التي هي أيضا لها جذور في مجتمع الخلوة حتى لو أن بعض من
ممارساتها جاءت حديثة وبتقنيات أكثر عصرية، وعموما فإن الأثر الجمالي المتعلق
بالحرف العربي لم ينأى كثيرا بل ظل موجودا في عمق الإبداع الجمالي في اللوحة
التشكيلية لكنه للأسف غاب عن العمارة والفنون المسجدية أي فن العمارة المتعلقة
ببيوت العبادة للمسلمين إلا في محيط قباب الأولياء والمتصوفة حيث يلمح ذلك بشكل
أوضح ويتسحق التوقف عنده. وعموما هذا الغياب، يعود إلى أنه ربما لأننا لم ننشيء
جيلا يقوم على هذا الفن أو الحرفية المتوارثة، كما أن الفن التشكيلي السوداني لم
يقم بأي دور في رفد الحياة المعمارية ليطورها بأبعاد جمالية في هذا المنظور. وهذا
موضوع معقد وطويل، لكن من ملاحظة أولية فالمباني ذات الطابع الحداثوي في السودان
لم تستفد بملموس من واقع التراث الجمالي السوداني.
تعليقات