التخطي إلى المحتوى الرئيسي

ترويض الفيلة

تُعلمنا الفلسفة أن التفاصيل المهملة قد تكون لها قوة وقدرة جارفة بل أنها قد تكون أهم بكثير من الكتل الكبيرة التي يظن الإنسان أنها هي الحقيقة والنهايات والبدايات.. وبالأحرى تعلمت من المفكر والفيلسوف الفرنسي "جيل دولوز" وأنا أتأمل تجارب "الثورات الجديدة" أعني خلاصات ما مر بالعالم العربي وفي اليونان وبعض دول شرق آسيا وأوكرانيا وفي نيويورك من حركات التغيير، التي جرت سريعا في السنوات الماضية وتتحرك إلى الآن بعض النظر عن النتائج.. تعلمت من ذلك قيما كثيرة لخصها دولوز في قوله: "إذا كانت القدرة تعني السيادة فإن الدولة هي التي ستكسب دائما.. أما إذا كانت القدرة تعني الابتكار وقلب الشفرات وإجراء عمليات الترحيل والتي تتم جميعها على المستوى الذري فإن الدولة هنا ستخسر لا محالة لأنه ليس بمقدورها مراقبة كل شيء.. كما أن قدرتها على الاحتواء محدودة".
ويرى دولوز أن هناك مجالين في الفيزياء المعاصرة هما: المجال الكتلي والذري.. ويقابلهما بالمجتمع.. أو السياق الاجتماعي أيضا ذات المجالين، حيث الكتل هي التي تسعى لصياغات شاملة مشفوعة بالهيمنة وآلة الحرب الضخمة، بينما الذراري هي مجموعات صغيرة... قد تبدو ليست ذات أهمية أو تأثير ملموس على مستوىى التغيير السريع، فهي: "مجازات تبدو تافهة ولا قيمة لها لكن لها القدرة على نسف المجازات الكبرى ومحوها.. أي نفي المجاز المقدس في حد ذاته".
وهذا يلخص في فكرة مفاداها أن التفاصيل المهمة هي التي تصنع التغيير وأن المهم يكمن في الصغير واللامرئي والمغيّب، وليس بالضرورة في المرئي والمحسوس والماثل والكتلي الكبير..
وهذه التفاصيل الصغيرة قد لا يمتلكها من يسمي نفسه سواء السلطوي أو حتى المثقف الرائد والتنويري والعميق.. لأن هذه الصور سقطت اليوم في عالم جديد، اصبح يصوغ فيزيائه الحيوية في السياقات الاجتماعية بنحو جديد غير معاش من قبل، فالتفاصيل المغيبة أو الصغيرة تتكلم وتشير إلى الجديد والتحوير وتصنع الشيفرات الذكية دون أن يراها أو يسمعها "السياسي المحنك/التقليدي" أو "المثقف الواهم" الذي يمسك بالصولجان في كف ويضغط على "الكي بورد" بالكف الأخرى. يضغط بكف وليس بأنامل تيسّر الحال وتجعل العالم ناعما.. لان رغباته هي القتل والضغائن وهدم المجازات الكبيرة دون أن يمتلك القدرة السليمة على التفكيك والقراءة والاستيعاب لما يمكن أن يصنع عالما مبتكرا ووليدا، فهو ينطلق من الراسخ والجامد وحيز الظنون تماما كما السلطوي والمتسلط الذي يظن ذات المثقف أنه يقف ضده في حين أنه دون أن ينتبه، هو يقف في صفه ويعاضده بل يسانده وبقوة نحو أن يمدد أهدافه وسلطته ومشروعه القائم على استعباد البشر وتسخيرهم لصالح ما يسمى بالمجموع الذي هو وهمي وشكلاني وليس له من وجود سوى في حدود مصلحة المتسلط ورغباته التي تعمل آلة ضخمة من البشر عليها دون أن تدري في معظم الأحيان، فمرات تكون أمة كاملة في خدمة حفنة من البشر دون أن تعلم ذلك أو قد تدرك لكنها مغلفة بالخوف والانكسارات وتعرضت لاغتيال الوعي والعقل وباتت تفتقد للشجاعة والحركة الإيجابية والفاعلة التي تجعلها تسير نحو الشمس المشرقة.
لكن السؤال الذي يظل قائما ومهما، هل يصلح كل مجاز صغير "ذري" .. "تافه" في إبدال أو إحلال "المجازات المقدسة"؟
هل سيكون قادرا على قمع الصور المترسبة في الأذهان عبر سنوات طويلة؟
هل بإمكانه محو الخبرات المعاشة كحقائق في ظل سيادة "ثقافة التوهيم"؟
هل سيكون قادرا على تغيير جذري أم يؤدي لنتائج مؤقتة وشكلية وسرعان ما تعود المياه إلى مجاريها كما يقال ليجد الشعب أو الأمة أو المؤسسة المعينة أنها تدور في فراغ مغلق، وأن ما حسبته أملا كان ظلمة وظلاما، لا غير.
وعموما فإن التعبير عن هذه المسائل في حد ذاته قد يحال إلى سياق فلسفي بحت بحيث يضيق المعنى والتوصيل، فالكتابة في حد ذاتها إرباكا وليست ذات توصيل حقيقي.. فهي بقدر ما تفضح وتكشف وتقول فهي أيضا مجاز يقف دون إيصال المعاني، بحيث يعمل الكشف على صنع المزيد من الحجب باتجاه الرؤية بما يمكن الذات من الإبانة الجلية، ما يساعدها في المضي نحو إنتاج الجديد وإبداع فكر التغيير.. كذلك فإن الذهن البشري قوقعه شريرة مهما بدت خيرة وعارفة، وهذا يعني أن البدايات الحسنة قد تقود لنتائج قبيحة والعكس صحيح.. لاسيما إذا كانت محاولة التغيير والانتباه تتم في مجتمعات أو فضاءات غير واضحة من حيث البنى الفكرية والتأسيس النسقي القيمي والمفاهيمي.. وهنا تنعكس الإرادة بأن يمضي الذهن حتى العارف والخيّر في بعض الأحيان، ليقوم على توليد العنف والظلمات خاصة إذا ما ترادف فكر الرغبة التجديدية والتغيرية بما يسمى بسياق زمني كلي هو "مجاز مقدس" استطاع عبر سنوات طويلة أن يرسم جغرافيا العنف كحقيقة بعد أن خلصها من المجاز، أو أعاد إنتاجها مرة أخرى في الأذهان بعد الظن بأن هذه الجينة قد ماتت أو انتهت تماما.
إذا كان "جيل دولوز" قد كتب ما كتب قبل أن يكون مبدأ الإنترنت قائما أو "فضاء الاختراق المجهول".. واقعا.. فهو كان يتحدث عن كيمياء ودور "المقدس" في مقابل "المجاز الذري".. لأن الانترنت أعاد صياغة كثير من معطيات العقل وطبقات إدراكه وحوله إلى العمل بآليات جديدة غير مسبوقة حتى لو أنها اعتمدت على عناصر كلاسيكية في التشكيل المبدئي للأفكار وصيرورتها.
ويكون الاستفهام الراهن، ولكن كيف سنفهم الصورة الآن بعد أن أصبح حجم "الذري" قادرا للتشبع والخروج عن قوقعته؟
ما هي آلياته التي يتخارج بها إلى هدم "الفيلة" أو ترويضها على الأقل"؟
والفيل هنا هو مجاز مأخوذ من سورة الفيل في القرآن الكريم، حيث أن الفيل بكامل ضخامته وقدرته الكذابة انفجر وتلاشى بمقابل "الأبابيل" تلك الكائنات الصغيرة أو الطيور التي يمكن استحقارها.
إن التغيير سنة أرضية.. لكنه يتم بآليات لا يمكن الإحاطة بها دون معرفة دقيقة بنواميس الأشياء. وهذا صعب إذا لم تتوفر لدى الفرد المعلومات الكافية أو الإدراك الذي يمكنه من فهم الشيء بحيث يكون مؤثرا فعليا وقادرا على التحوير والإبدال. والمسألة في النهاية ليست ثقافات شكلية ولا فرضيات وإنما انتباه لا يكون إلا بوعي مواكب وقوي، وهو عمل يقوم على الانتباه الذكي والتوظيف والإيمان بأن ثمة حقيقة أو طاقة قوية وجارفة داخل الأسوار المغلقة والسجون التي يظن من بداخلها أن أبوابها لا تفتح، في حين أنها هشة وسهلة. وهو ما يعرف في فكر العلوم الإنسانية المتعلقة بالتنمية البشرية بنظرية التفكير خارج الصندوق.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

فصول من رواية "دماء في الخرطوم" الصادرة عن دار الفارابي

واحد   داخل المكتب المؤثث على طريقة عصرية، بديكور داخلي راقٍ، رنّ الهاتف النقال على الطاولة الخشبية لأكثر من مرة قبل أن يضغط عبد الحفيظ على الزِر ليردّ على المتحدث من الطرف الآخر.. لقد جرت العادة ألا يستقبل أي مكالمة من رقم مجهول بالنسبة له، لكن إصرار المتصل على تكرار المحاولة للدرجة التي استفزّت المجموعة الجالسة حول طاولة الاجتماع، جعلت عبد الحفيظ يردُّ أخيراً: - عفواً.. من يتحدث معي؟ قالها هكذا، دون أن يردَّ تحية المتصل. - معك اللواء طه عبد الرحمن مدير عام الشرطة. قبل أن يكمل، كان عبد الحفيظ قد نهض من على الكرسي الدوّار، وبحركة لا شعورية جرّ الكارفته تدريجياً إلى أسفل، قائلاً: - نعم سيدي.. تفضل، ما الأمر؟ ليس من عادة عبد الحفيظ أن يطيل المكالمات، لقد تعلم هذه العادة من سنوات عمله بالولايات المتحدة أثناء تدرّبه في إحدى الشركات هناك، بعد أن أكمل دراسته في الهندسة المدنية، قبل أن يعود إلى الخرطوم قبل شهر من الآن، لينشِئ شركة للمقاولات بإمكانيات مادية كبيرة. بدا له أن الضابط مرتبك وغير قادر على الإفصاح، ولثوانٍ ظلّ صامتاً، فيما كانت المجموعة الأجنبية الجالسة ح...

هل نضب الخيال؟

إشكاليات الذائقة الفنية والتلقي الجمالي عند العرب عماد البليك: منذ أن قدم الشاعر التونسي أبو القاسم الشابي أطروحته الجمالية حول "الخيال الشعري عند العرب" وخلص إلى أن الأدب العربي لا ينظر إلى المستقبل ولا ينفذ إلى صميم الأشياء وأنه "كلمة ساذجة" فإن الموقف لا يغادر موقعه، فالإشكاليات لاتزال قائمة إلى اليوم، والبحث عن تحرير الخيال لا يزال معطلا، كما أن الذائقة الفنية والجمالية تقاوم معوقات متجذرة يبدو الفكاك منها صعبا رغم الانفتاح الذي أتاحته الوسائط الحديثة للتلقي والمعرفة.  وإذا كانت مائة سنة تكاد تفصلنا، عن أطروحة الشابي، أي ما يقارب القرن، فالسؤال القائم ما السبب الذي عطّل مشروع الإنتاج والتلقي الجمالي عند العرب، ولماذا هم إلى اليوم يتعاملون مع العالم على أنه أقرب إلى المسطحات والثنائيات منه إلى شيء عميق له أبعاد متعددة وأوجه متنوعة، وهذا ينطبق على الممارسة الفنية كما ينجر بدرجة أوضح على استقبال الرسائل الجمالية أو الفنية، سواء أنتجت في محيط عربي أو عالمي. كانت فكرة أبوالقاسم الشابي تقوم على الخلاصة التالية: "قد انتهي بي البحث في الأدب...

راما رواية البليك تغوص في أسرار الخلود وتتجاوز قواعد السرد

  في طفولتها البعيدة وهي تلعب بين مزارع الفول والفاصوليا وتسبح أحياناً مع البنات في النهر ساعة الفيضان، لم تكن خالدة تتخيل شكل مستقبلها، توفى معظم من تعرفهم ويعرفونها، كانت تحب فصل الشتاء لأنه يسمح لها بالاختباء تحت غطاء اللحاف، لتحلم، كانت طفولتها وشبابها مليئة بالفوضى فهي بنت الجزار الذي في لمحة بصر ومحض الصدفة تحول ضمن الحرس لشخصي لوزير مهم، هي بنت المرأة الطيبة القادمة من رحم الرق والبؤس، جد كان شحاذاً وتفاصيل مربكة استمرت إلى أن وجدت راجا الهندي الطيب تاجر المجوهرات، تكتمل الفرحة بميلاد الطفلة راما، الاسم المقتبس من الخلود بقداسته وأسراره. حياتها الجديدة لم تنسها ماضيها حكايات الخالة الصحفية المناضلة عوضية، والعم الذي مات بمرض لم يمهله كثيراً وسفيان، الأخ المولع بالفن والغناء، كثيراً ما يسير الماضي كشريط سينمائي بمونتاج محكم متداخل الأزمنة. كثيراً ما كانت تشعر بوخزة في صدرها وأن هنالك ما هو مؤلم في مقتبل الأيام، يموت الأب في حادثة مفجعة وهي طالبة جامعية، بكته رغم أنه لم يعد ذلك الأب الطيب الذي كسر الأعراف والتقاليد وانتصر للحب منذ أصبح من الحاشية ومرافقاً للوزير في كل أسفاره....