الحديث عن أزمة في التعليم، أو
تطويره، أو النهوض به، هي قضية مستمرة لا ترتبط بسياق زمني، لاسيما في عصر يتسم
بالتسارع في كل شيء، وحيث لا سبيل للاستثمار في المستقبل إلا عبر إعادة النظر في
منظومات التربية والتعليم المتداخلتين.
ومن ناحية مبدئية يجب أن نعيد
تعريف التعليم في ظل علاقته بالمستقبل، على أنه استثمار في الإنسان، لأن هدف
التعليم وغايته هو الإنسان وعبره بالإمكان تذليل مشكلات الحياة والمضي نحو تحقيق
الأحلام والطموحات.
ما بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر
2001 دار جدل طويل حول ضرورة النظر في مناهج التعليم وفق طموح غربي، أمريكي تحديدا
يسعى إلى إعادة تشكيل منطقة الشرق الأوسط وفق المناظيم الحضارية
"الأورأمريكية " التي نسجت أهدافها المركزية في عهد إدارة الرئيس
الأمريكي السابق جورج دبليو بوش، في كبح التطرف والإرهاب وتهيئة المنطقة
للديمقراطية وفق ذلك النموذج.
بدا الأمر دعائيا ولم يمض إلى
خطوات عملية في أغلب الدول، وارتبط الفشل في هذا المشروع بعدم الثقة في الأطروحات
السياسية، ما يدلل على أن جوهر تطوير التعليم حتى لو في جزئية منه لا يتعلق
بالمحور السياسي فحسب، الذي غالبا ما يتبدى نفعيا وبأهداف ذات صبغة وقتية سرعان ما
تتلاشى.
اتخذ الغرب أزمة سبتمبر كمفتاح
يشير إلى أن أزمة الشرق الأوسط وشعوب العالم الإسلامي والعربي بشكل عام تتعلق
بالعلاقة السليمة مع الدين، وأن إمكانية إحداث تعديل في هذه العلاقة عبر ترميم
جديد للمناهج التعليمية والتربوية في المدارس يمكن أن يقود إلى إنتاج جيل جديد
قادر على أن يتخلص من التشدد والتطرف.
وقبل ذلك بأكثر من مائة عام وعندما
كان الشروع في النهضة الإصلاحية العربية على يد مفكرين أمثال محمد عبده والطهطاوي
والأفغاني وقاسم أمين وغيرهم، كانت النظرة العامة للإصلاح تتعلق بالإجابة على سؤال
الحداثة، كيف تتأتى الموازنة بين التراث والجديد، بين الأصيل والمعاصر، أو بين
الدين والعصر كما اختصر الأمر لدى البعض.
وكان السؤال في حد ذاته يعبر عن
أزمة كبيرة نتجت عن الإحساس بالفارق الكبير بين ما يشهده الغرب من تحديث وما تعيشه
بلداننا من تخلف على كافة الأصعدة.
وتكاد المشروعات الإصلاحيات جميعها
قد فشلت، لأن إشارات النجاح لو وجدت كانت ستنعكس على الواقع المعاش اليوم، وهو ما
لا نراه في الراهن.
فالبلدان العربية تعيش أزمة مخيفة
إلى اللحظة في أن توجد توازنا بين متطلبات العصر الحديث وشرطياته وقيم متوارثة
نعجز عن إعادة التفكير فيها، دعنا أن نستبدلها أو نعيد غسل جزءا منها بحيث يصير
صالحا للاستخدام الآدمي.
بل كان مصير كل من يرفع راية
التجديد وهي مقترنة بإعادة تفكير في مناظيم "الدين" بسلاسة عصرية، يوصف
بالملحد أو المرتد أو المستغرب وغيرها من الصفات، في حين أن الأمر لا يتعدى مجرد
نوع من التفكير المسموع في ظل إشكاليات حاضرة استشعرها البعض وعبروا عنها بوجه ما،
ليس بالضرورة أن هذا التعبير كان دقيقا أم كافيا، لكنه ببساطة يعكس جزءا من
الأزمة.
والمشكلة المركزية في أسئلة
التحديث في البلدان العربية أنها لدى النخبة المثقفة – إن وجدت- أو المتنورين؛
اختصرت على شاكلة الصراع الأوروبي في القرون الوسطى، حيث وقفت الكنسية ضد العلم،
وفي النهاية كان التسامح بين الطرفين بعد أن أريق الدم لتنسج أوروبا الحديثة
طريقها في الحضارة الإنسانية وتبني قيمها الجديدة في الفلسفة والعلم والفنون
والتصنيع إلى ارتياد الفضاء والتفكير في الأجرام البعيدة.
وقد أدى اختصار الأزمة بمقاربتها
مع النموذج الأوروبي – الغربي إلى ترقيع الثوب العربي كما لو أنه نموذج محاك ومقلد
للنموذج الغربي.
في حين أن الدول التي أخذت المسألة
على محمل الجد كما في التجربتين اليابانية والصينية استطاعت أن تتحرر تماما من
فكرة "النمذجة" وسعت إلى سياقات خاصة، استفادت فيها من الغرب بالقدر
المعقول، دون أن تهمل تراثها وقيمها، وطبقت هذا الجانب في التعليم ونظمه فأنعكس في
حضارة إنسانية مختلفة الملامح عن الشكل الغربي.
إن التفكير في التعليم باعتباره
استثمارا وبوصلة للمستقبل الأفضل للأجيال، وبناء الأوطان وتحريرها من التقوقع بما
يجعل فكرة الوطن في حد ذاتها ميدانا للإخلاص والعمل الجاد، مجمل هذا النوع من
التفكير لا تزرعه الأوهام بأن يتوهم الإنسان حلا ما للمشكلة معتمدا على أهداف غير
واضحة وغير محددة وقبل ذلك يفتقد لجوهر الأزمة التي يعانيها.
فالحديث عن أزمة في التعليم يعني
ببساطة أزمة في استيعاب الإنسان لذاته ودوره في هذا العالم. فإذا ما طرحنا سؤالا
مبدئيا لماذا نتعلم؟ ولماذا ننفق على التعليم؟
هذا السؤال البسيط ستجد أن له
عشرات الإجابات والتي قد لا تكون مقنعة للخبراء الجادين الذين يؤمنون بالمستقبل
وفق شروط صحيحة وصدق مع الذات وإدراك لمعنى ودور الكائن البشري في هذا الكون في
رحلة محدودة السنوات ومحاطة بالظروف.
فبعض الآباء قد يقتصر قضية التعليم
في ابنه كمثال على أن خاتمة المطاف هي أن يصبح ابني طبيبا أو مهندسا، وهي المهن
الأكثر تفضيلا إلى الآن في البلدان العربية، والهدف هو موضوع المال!!
وهنا يكون السؤال هل دور التعليم
أن ينقلنا من الفقر إلى الثراء؟ وإن كان ذلك يأتي فهو تجليات الإطار الكلي. قد
يكون هذا الدور وارد لكنه ليس الهدف المركزي من كوننا نتعلم. فنحن نتعلم ومن
المفترض لكي نكون كائنات إيجابية قادرة على التصالح مع العالم وعلى العطاء، أن
نكون صالحين لأنفسنا قبل أن نكون مساهمين في البناء، لأن فاقد الشيء كما يقال لا
يعطيه.
ومن هنا تتداخل أسئلة عديدة ومربكة
في إطار الحديث عن تطوير مناظيم التعليم، أسئلة منها ما يتعلق بالسياق الاجتماعي
ككل من حيث الطريقة التي يعمل بها والقيم التي يعتقدها وكيف يمكن تشذيبها بحيث
تكون "مثالية" وتؤدي إلى نتائج إيجابية على صعيد التصالح الكوني،
والفائدة العامة.
كذلك كيف يمكن للدين أن يكون
إيجابيا في حياة الإنسان وهو هدف واحد من الأهداف التي اقتصرها مشروع ما بعد
سبتمبر؟ وكيف يمكن لنا أن نفهم من خلال موروثنا الفكري أن العلم هو قيمة في حد
ذاته؟ وكيف لنا أن نؤهل أجيالا قادرة على توليد وإنتاج المعرفة وليست مجرد كائنات
مستهلكة لها؟
ومن خلال أنظمة التعليم في البلدان
العربية بشكل عام تبدو الأزمة الواضحة أن الإشكاليات هي تراكم حادث جراء عقود من
الأزمات والخيبات التي يعيشها الإنسان العربي، دون أن تلعب النخب دورا في
المبادرات الذكية في تعديل صور الواقع. حيث كان التركيز دائما على الأعمدة
الهامشية دون العمود الفقري، بظن أن مركز الأزمة هو سؤال يتعلق بكيف نحكم؟ ومن
يحكمنا؟ أو كيف نصبح قوة اقتصادية أعظم؟
فالنظر الصائب يتطلب قلب الأمر بأن
نستبعد العوامل السياسية وننظر على أنها ظرف وليس سببا في الأزمة.
فالحل السياسي لا يقدم شيئا إذا ما
كانت القواعد باهتة ومتكلسة، ومن هنا فالإطار النظري للحل يتعلق برد الاعتبار
لتأسيسات جديدة للتعليم والعلم وزرع قيمه في المجتمعات من بواكير الطفولة، فإذا
ذهب الطفل إلى المدرسة يكون قد عرف أنه ذهب هناك لأن المدرسة هي جزء من الحياة
والمستقبل وعلاقته مع العالم ومع نفسه، وليست مكانا منفصلا عن المناخ الخارجي
للعالم.
هذا يستدعي إدارة حوارات عميقة
وجادة في كيفية رؤية المستقبل، في معاني التربية، في العلاقة ما بين الأمس واليوم،
القيم التي يجب أن تبقى والتي يجب أن تزول، والأسئلة المهمة جدا التي تشعرنا
بدورنا الحضاري إن وجد.
فالمسألة ليست مجرد طموحات وأحلام
وتفكير مستمر، ينعكس في رغبات ذاتية، أننا نريد ونريد.. ليس هذا هو الحل..
فالإرادة التي لا تقترن بالمعرفة والهدف الصحيح.. وقبل ذلك فهم الذات ودورها، لن
تؤتي ثمرة.
تعليقات