ما طرحته عن الشخصية السودانية وتنميطها الذي جعلها تُرى بصورة محددة لدى الشعوب الأخرى، بل وإلصاق بعض الصفات السالبة بها كالكسل مثلا أو اللامبالاة وغيره. وضرورة أن يهتم السوداني بإبراز قيمته الإيجابية وأولها من خلال الاهتمام بالمظهر باعتباره مدخلا للشخصية في حضارة المظهر والرأسمال، كل ذلك كسب تفاعلا في مواقع التواصل الاجتماعية، ما بين المؤيد والرافض. وإن كانت أغلب الآراء قد وافقت على الطرح من خلال ضرورة إعادة النظر في مرئي السوداني وتفاعله في محيط العمل وإبراز ذاته بالشكل اللائق في ظل التماشي مع ثقافة عصر لا فكاك منه، دون أن يعني ذلك تنازلا عن الأصالة أو اقتلاع الجذور، حيث يقال دائما أن الشجرة تبدل أوراقها لكن جذورها تبقى في باطن الأرض راسخة.
إذن يمكن الاعتماد على الجوهر والمكنون الذاتي الثري والانطلاق منه نحو تأسيس الذات ليس بهدف إقناع الآخر وإنما بهدف التصالح النفسي أولا مع هذه الذات، هذا الأمر الذي يقود دون شك إلى أن يكون الكائن متصالحا مع العالم الخارجي ومستعدا لأن يصبح إيجابيا بإقصاء السلبيات أو الإشكاليات المتراكمة بحيث شكلت حجابا عن الشخصية في محورها الأكثر بهاء وإشراقا. فالحجاب الساتر الذي يقف عن معرفة الآخر لك ولقدراتك يجب إزاحته بواسطة العلم والمعرفة والإيمان بالذات والقدرات والمزيد من التأهيل والمهارات، وليس مجرد العنجهية الفارغة مثلما نبه أحد الأخوة، بأن السوداني قد يُبدي من الخارج مظهر التواضع لكنه.. داخله يسكن إنسان مكابر ومغرور وهذا في تقديره السبب الذي يجعله يستنكف عن بعض الأعمال أو الوظائف أو يريد من الكل أن يعامله كملك.
ولنكن موضوعين في هذا الأمر بدرجة أكثر تفصيلا، ونتحدث على سبيل المثال عن ثقافة العمل والاستعداد النفسي له والتأهيل التدريبي اللائق وقبل ذلك الإيمان الراسخ بأن العمل ضرورة إنسانية وحياتية ومعاشية. هنا سنقف أمام نماذج غير حسنة بعض الأحيان حيث يفضل البعض أن يعمل عنصر في الأسرة ويظل البقية في انتظاره، أو أن يكمل الطالب الجامعة ليجلس في البيت في انتظار وظيفة "محترمة".. إن الوظيفة بغض النظر عن نوعها لا تأتي من فراغ وإنما بتكريس الذات بحثا لها وداخل سياق الوظيفة نفسها لا يمكن للشخص أن يحقق مكاسب كبيرة ويصعد في السلم ليصل إلى الأفضل ما لم يكن قد دخل في مرحلة الإجادة التي ليست هي مجرد هبة إلهية، بل عمل دائب وصقل للمهارات وتطوير مستمر. ولكن يمكن البداية أحيانا بالأفكار الصغيرة إلى أن تتحقق الآمال الكبيرة دون سياسة حرق المراحل أو الطموح بأن أصل من الخطوة الأولى إلى المراد والهدف. لأن سنة الحياة كما خبرها البشر، أنها لا تقوم على القفز بالزانة إنما هي سلسلة من المسار المتتابع الذي يقود من مرحلة لأخرى إلى أن يكون الإنسان قد وصل لهدفه وأصبح راضيا عن نفسه، وهنا يكون السؤال وفي سبيل أن أوفر لقمة عيشي على الأقل أن أوفر حاجياتي الشخصية والأساسية ما المانع أن أعمل في أي وظيفة شريفة بحيث أكون على الأقل مهارة في التعامل مع الحياة والناس وهذا ضروري جدا.
لقد لفت أحد المعلقين النظر إلى مسألة ما اسماه "بناء الشخصية السودانية/ وهو في الأساس والمبتدأ عمل وطني متكامل لا يقوم به الفرد بنفسه، فالطفل هو وليد سياق مجتمعي من الأسرة إلى المدرسة فالشارع فالسوق فالبيئات المتنوعة التي يتحرك فيها، ولا يمكننا بأية حال أن نجعله مسئولا عن التشكيل المبدئي له إلا بالعمل على تحسين هذه البيئات وشحذها بالضروي من القيم والمفاهيم التي تمكن الطفل أو الصبي من امتلاك البدايات السليمة التي تجعله يكسب الأسس والمفاتيح وليس الحلول الجاهزة والمقولبة كما درجت ثقافتنا على أن يجد الطفل أمامه كل شيء سهلا وهينا، فأحيانا يتطلب الأمر أن ندرب الأبناء على مهارات محددة ومنذ عمر مبكر. واللافت هنا أن هذا الموضوع بات اليوم، في عالم معاصر ومعقد، مدرسة بحد ذاتها، فالسياق الأسرى والاجتماعي والمدرسي، علم معقد من حيث الرؤى والقراءات وبالتالي كيفية تطويره ونقله. وقد تكون لدينا وزارة أو وزارات مختصة في شأن التنمية الاجتماعية لكنها تقتصر أدوارها على مجال نمطي ومعاد دون النفاذ إلى قضايا حديثة ومركزية في ظل العصر المتشابك من حيث القضايا والبحث عن الحلول.
وقد أشار صاحب الاقتراح إلى دور التربية والتعليم، كمؤسسة يجب أن ترعى القيمة البنائية للشخصية، عبر المناهج الدراسية، حيث لا يوجد لدينا منهج واضح في بناء الذات والمهارات وفهم الكائن من خلال الموقع الوطني، أي أن يدرك الطالب السياق الذي هو ابنه، ليس التاريخ بمعناه الشكلي والخاضع للتصوير اليوتوبي في أغلب الأحيان ولا الجغرافية كمحددات كلاسيكية في تعريف الأمكنة، بل بالنفاذ إلى الثقافات الوطنية وأنماط الحياة في تقاطعها مع المكتسبات الإنسانية الجديدة وحاجة الفرد لكي يفهم كيف يدير موارده الذاتية كإنسان في ظل وجوده في مجتمع كلي يتفاعل فيه، يأخذ منه ويعطيه، ولابد أن يتم هذا التسلسل والتشابك بشكل إيجابي بحيث يتخلق مجتمع حقيقي قائم على بناء الشخصية السوية والحرة التي لا تخاف والتي تؤسس الوعي على مكتسب بنائي وعقل ناقد وليس مجرد تراكم شكلاني لا يقود لسوى الفراغ والنتائج المعادة.
فمناهج بناء الشخصية أو التنمية المجتمعية وتداخل ذلك مع سياقات منظمات المجتمع المدني وأهمية فكر التطوع في المجتمع وأن تغرس شجرة في الشارع أفضل من أن تبقى جالسا في الظل بلا عمل، والإيمان بالصالح العام وأن التغيير يبدأ مني وليس من الآخرين، ويجب أن أكون قدوة لا انتظر أن يكون الآخر قدوة لي، هي مفاهيم مستمرة يحتاج الجيل الصاعد أن يتسلح بها ليس من قبيل الإملاء ولكن بواسطة منهج تفاعلي وعملي يضع للذات معناها السوي في مسار الوعي المفترض أن يقود الإنسان للفاعلية في الوجود، وألا يصبح الفرد مجرد ببغاء لا يفقه ما يقول ولا ينفذ سوى ما هو تقليد فحسب.
إن التغيير بالاتجاه إلى بناء المجتمعات المستقبلية ليس بالأمر الذي يأتي اليوم بمجرد الأمنيات، وقد انتهى الزمن الذي تعيش فيه أمة معينة أو مجتمع ولقرون على ذات القيم والتقاليد فاليوم باتت الحياة سريعة التأثير ولابد أن يواكب الإنسان ويستفيد من جذوره التي توصل إليه ماء التربة وأملاحها في سبيل أن ينهض بذاته ومجتمعه.. إنه أمر يتطلب فقط الالتزام والإيمان بذلك والتخلص من ثقافة الإحباط و"التحبيط" والاستهتار بالقدرات وتشجيع الموهبة ونفي الظنون وغسل غبار النظرة المتشائمة للأمور.
تعليقات