أحيانا يكون ممكنا القفز على الزمن والبداية بالنهايات، رغم أن هذه
المسألة قد تكون محفوفة بالمخاطر إذا لم تأت بالدراسة الكافية والوجه السليم. وهنا
سأعرض لنموذج جرى تداوله في الأيام الماضية عن قرار الإدارة التعليمية في فنلندا
حول إدخال تعديل جذري في نظام تعليمها الأساسي يقوم على مفهوم التدريس اعتمادا على
"موضوعات" بدلا عن "مواد دراسية".
يعني ذلك ببساطة إلغاء التقسيم الكلاسيكي للمواد الدراسية، كحساب ولغة
وعلوم وجغرافيا وتاريخ وغيرها. والانتقال إلى تعاطي موضوعي يجعل التلميذ يتعامل مع
موضوع أو قضية معينة ومن خلالها يتم التعرف على الكليات والأنساق المختلفة للمعرفة
الإنسانية، ويذكرني ذلك بمنهج الجغرافية القديم الذي كان يقوم على زيارات افتراضية
لأماكن مختلفة من السودان ومن خلال زيارة كل منطقة، يتم تعريف الطلبة على الحياة
والعادات والثقافة والتقاليد والجغرافية وغيرها، وإن لم يكن ذلك المثال أو النموذج
مكتملا بالمعنى الوافي. لكنه يقدم صورة أولية. حيث أن المقصود هو أعمق من ذلك.
والنظرة الموضوعية إلى المعرفة أو التعليم بأخذ الشمول والرؤية الكلية
للأشياء، باتت سمة من سمات العالم المعاصر الذي نعيشه، فمن الصعب أن نتكلم عن
معرفة مجزأة في الإطار العام للتعامل مع الحياة، وليس على مستويات التخصصات
الدقيقة داخل كل مجال والتي تتم في مراحل لاحقة ما بعد المرحلة التأسيسية للطفل في
الابتدائية، أي في المستوى الثانوي أو الجامعي.
من جانب آخر فإن التعليم الموضوعي يهيئ لما بعده من تخصصية في التلقي
وهي ثقافة جديدة يفرضها سوق العمل الحديث الذي يتطلب أناسا أكثر قدرة على التماهي
مع أدوارهم والقيام بها بالشكل السديد، وهذا يعني التخلص من الحشو والزوائد
والانتقال إلى المفيد والانتقائي والمباشر، وأن تقدم جملة العلوم الأخرى داخل
دائرة المعرفة المحددة التي يتطلبها العلم المعين، فإذا أردت تأهيل محاسب مثلا في
محل تجاري، فالقضية ليست معرفة الحساب أو أصول المحاسبة كما تدل القراءة الأولية،
بل هناك ما هو أهم في "الموضوع" من كيفية إدارة العلاقة مع الزبائن
والتعامل بأدب وذوق، بنزاهة وشفافية، والتعرف على أنواع البضائع والسلع وغيرها من
أمور تتعلق بإنتاج سياق معرفي كلي وليس تحديد زاوية النظر بشكل ضيق يجعل هذا
الإنسان في نهاية الأمر يقع في الخطأ أو الإخفاق حتى لو أنه كان يجيد المحاسبة
بالمعنى الحرفى.
وهذا ينطبق على مهن كثيرة جدا، بل أغلب الوظائف والمهن، فالطب مثلا هو
مهنة إنسانية تتطلب ذوقا رفيعا في التعامل وذكاء معينا وليس مجرد رغبة أو قدرة
مالية لأن يدرس ابني ذلك لأنني أقدر على دفع المصروفات كما بات الأمر عندنا. أو
الهندسة في فنونها المختلفة والعلوم الإنسانية، فقد بات الأمر اليوم لا يقوم على
نسق معرفي حقيقي بل مجرد كم من الخريجين الذي يفتقدون للتأهيل السليم أو الوعي
بالموضوع أو التخصص من خلال كيفية إدارة الذات بشكل جيد باتجاه الأداء الأفضل
للعمل المعين، وهذا موضوع يصب في سوء المخرجات الذي هو نتاج طبيعي للتأهيل الضعيف
منذ البداية والمراحل الأولى. ما يتطلب مراجعات كبيرة على مستويات أنسقة التعليم
منذ فترة الروضة التي تحولت لحفلات مباهاة فارغة، إلى مرحلة الجامعة.
كذلك فمن المعروف أن التعليم بشكل عام يستوحي البيئة والثقافة المحلية
في تقاطعها مع العالمي ويأخذ كذلك بالظروف والحاجيات التي يتطلبها السوق المعين،
بما يعمل على تطويره وترقية الاقتصاد، بالنظر إلى مصادر القوة في الدولة من ناحية
التنمية المطلوبة، وبهذا يتحرك مسار التأهيل لما يفرضه سوق العمل وبشكل دقيق جدا.
على سبيل المثال إذا افترضنا أن السودان بلد زراعي، فنحن إلى اليوم لدينا عجز في
هذا المجال ولا نستطيع أن نصنع آلة زراعية واحدة، فأين المهندس الزراعي الميكانيكي
الذي يقوم بذلك، وهي ليست مشكلته "هو" بل هي قضية معقدة لتشير لجملة
الإشكاليات المذكورة سلفا. وأين التخصصي في وعي الزراعية وأنماطها في حراك معرفي
وعلمي وعالمي!!
لقد بات التعليم اليوم وفي ظل انتشار التعليم الخاص، في وضع سيء جدا.
بحيث أن التعليم الحكومي أو العام فقد رونقه حتى لو أنه ضعيف من الأساس. والتعليم
الخاص في المقابل يثبت أنه ليس إلا بحثا عن التربح السريع ويفتقد للأهداف
الإنسانية الراقية التي هي جذر أو مصدر الإلهام في صناعة التعليم الذي يعتبر قبل
كل شيء رسالة وقيمة لا تجارة، والواقع الآن يجافي تماما ذلك الفهم الذي ربما كان
قائما في الماضي عندما كانت الخلاوي تدير تعليما بسيطا بشكل سلس مع حاجات أولية للمجتمع
من حساب وعلم ومعارف دينية.
إن التعليم بـ "الموضوع" أو التعليم الموضوعي الذي تخطط له دول
متقدمة، يعني ببساطة الانتقال إلى مرحلة أكثر عملية في وعي البيئة والثقافة والسوق
وحاجة الاقتصاد الإنساني الجديد، والقفز على أسلوب تقليدي في رؤية الإنسان في
تقاطعه مع المعرفة الكونية الهائلة، كذلك الاستفادة من وسائط التلقي الأكثر حداثة
من الكمبيوتر والانترنت وشبكات المعلومات. فما حاجة الطالب لحفظ جدول الضرب إن كان
الكمبيوتر يفعل ذلك، وبدلا من تضييع الوقت مع مسألة كهذه في الحفظ يجب الانتقال
إلى تعليم يقوم على شحذ الذهن بأسلوب الوعي الناقد والذهن التحليلي والإدراكي، فكم
من دروس تم شحنها في الدماغ وفرغت في ورقة الإمتحان ومن ثم تلاشت، وكم من طالب
يحفظ جدول الضرب وهو لا يعرف ماذا يعني بالضبط وكيف يمكن الاستفادة منه بالضبط في
الحياة.
أتذكر هنا قصة طريفة.. مرة ونحن في الثانوية سأل أحد الطلبة الأستاذ..
في حصة الرياضيات:
"يا أستاذ أنت شابكنا كل يوم تفاضل وتكامل.. ديل شنو؟"
الأستاذ أغمض عينيه ووجه تحذيرا واضحا قائلا:
"يا ولد أحفظ وبس.. المهم تعرف تحل الأسئلة لما تجيء في
الامتحان"
هذا هو أسلوب التعليم ونمطه - إلا من رحم ربي - من الأساتذة.. وهذا
باب آخر.. في، من هو المعلم؟ وما هي قدراته؟ وأي دور يضطلع به؟ والذي ليس بالدور
الهين ولا البسيط كما يحاول البعض تهميشه ووضعه في مهنة لا مهنة له اليوم.
إن تنمية المجتمعات في نظرة عامة هي مسألة قد تبدو متشابكة مع معطيات القيم
والأخلاق ومن ثم النوازع الإنسانية السمحة، فما لم يتم بناء نسق أخلاقي ومستقبلي
في هذا الإطار فإن أي نظام تعليمي أو معرفي مهما رقي سوف يكون مصيره الفشل. ودائما
ما قيل:
وإنما الأمم الأخلاق ما بقيت
فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا
والأخلاق لاتعني صورة التأديب المعنف الذي هو سمة مجتمعنا اليوم، بل
هي مشهدية أخرى تختلف كثيرا عن تصوراتنا البدائية في الفروض والولاء والطاعة وفرض
القسر والإيمان بسلطة الكبير بالإضافة إلى معان مشوشة وغير مكتملة عن حقيقة
الإيمان والتدين.
تعليقات