وإذ به الرجل الذي أنفق عمره في الترهات يقف
اليوم مع نفسه ليدربها على الالتزام، وإذ به يقول إنه لن يكون إلا هو ولن يستجيب
إلا لصوت ندائه الداخلي العميق. ولكن أحيانا تتداخل الأصوات، بحيث لا يمكن فرز
المعنى عن اللامعنى، الشكوك والظنون عن اليقين، بحيث تصير أنت ذات منشطرة على
ذاتها، ليس لها من طريق واضح ولا عنوان في سابلة الحياة وعلاتها المتصلة.
هذه
المساحة التي تقف فيها الذات حائرة، يمر بها الكثيرون، ففي مرات كثيرة يصعب اتخاذ
القرار السديد، هل أسير ذات اليمين أم ذات اليسار، هل أنا أمشي باتجاه الحق أم
باتجاه الباطل، وأي دليل يمكن أن يرشدني لما يجعلني صائبا؟!
ينتج
ذلك عن عوامل عديدة، ليس أولها النفس البشرية التي هي أصل متنازع لا يقف عند لون
محدد، فالنفس تتراوح في أغلب الأحيان والظروف بين اليقين والشك وبين الضلال
والإيمان وبين الرأي الجيد والخطل والغياب الأكيد عن رؤية المعاني السامية. والنفس هي كذلك مشوبة بالحذر والخوف والإصرار
وهي ذاتها التي تتسلح بعض المرات بالشجاعة الفائقة بحيث يصعب على المرء أن يصدق أن
هذا هو، أن ذلك الشخص الذي يسكنه في داخله ينتمي له وليس كائنا آخر غريب الملامح
والخطى.
مرات
تقف لتقول، ومن يكون ذلك الذي يسكنني؟
هل هو
الذات التي أعرفها، أم أنها ذات أخرى مستلفة؟ وكما قال الشاعر محمود درويش "أأنا أنا؟" ومرة ثانية قال:
في بيت
أُمِّي صورتي ترنو إليّ
ولا تكفُّ
عن السؤالِ:
أأنت، يا
ضيفي، أنا؟
هل كنتَ
في العشرين من عُمري،
بلا نظَّارةٍ
طبيةٍ،
وبلا حقائب؟
كان ثُقبٌ
في جدار السور يكفي
كي تعلِّمك
النجومُ هواية التحديق
في الأبديِّ...
[ما الأبديُّ؟ قُلتُ مخاطباً نفسي]
ويا ضيفي...
أأنتَ أنا كما كنا؟
فمَن منا
تنصَّل من ملامحِهِ؟
إنها
الذات البشرية التي لا تهدأ عن المراجعات باتجاه معرفة حقيقتها، من تكون وكيف حدثت
التحولات وتبدلت الملامح؟ وهل هي أزمة الإنسان أم غبار الزمن لا يهدأ والذي يغسل
كل ملمح من الكائن ليجعله يواجه مرارته وغرابته وعواصف روحه الأخرى التي كانت
تسكنه، فمع المراجعات وفي فترات محددة من عمر الإنسان يجد أنه قد عاش عبطا أو
مرارة معينة، أو أنه كان يقفز من وراء حاجز أبله بظن أنه سحري أو ساحر، ثم ينتهي
به المطاف إلى أن يجد حياته هي في المواجهة، وعليه أن يسلم أو يتسلم شيء ما، مثل
جندي فقد كل أسلحته وباتت جراحه مثقلة وعليه أن يقول للأعداء، تعالوا لي، هذا جسدي
هدية أما الروح فسوف أهبها للبارئ.
فنحن
البشر، الكائنات، نعيش أسرى غرابتنا دائما في محيط تفكيرنا ومعرفتنا وقدراتنا
وظنوننا بأننا في حيز الحق والكائن والحقيقة، لكننا للأسف نعيش جهالاتنا وسخفنا
وهبلنا، لا نقدر على المواجهة الصادقة لنعلن ثورتنا على القبح الذي يسكننا، ولا
نكون قادرين على الوقوف باتجاه نعمة الوجود التي أصبغنا علينا قصاد دنسنا وكوننا
لا نملك أي شيء له قيمة إلا في حيز المؤقت.
نمارس
الإذلال على الذات وعلى الآخرين ولا ندرك أننا ساعة نذل الآخر نذل ذواتنا، ونعلن
ببجاحة عن تعاستنا بظن أننا سعداء والكل يفهم ذلك، فشقوق الجدران تضحك وتغسل
دموعها في خسائرنا ولعناتنا المتواصلة، تعلم تمام العلم أننا هباء منثور، وليس لنا
من مقصد سوى الأكاذيب والبطلان المبين الذي نريده مثل حزامات واقية من رصاص الوقت
ومن التاريخ وغلافه الرديء ورغباتنا المنكسرة التي نتخيل بعض الأحيان أنها جميلة
ورائعة، في حين أن المراجعات الصادقة مع الذات – إن وجدت – ترينا العكس تماما، كم
نحن أرباب الرداءة والتيه والضلالات المتصلة بلا انقطاع.
ثم يقف الرجل الذي عشق الترهات فأذلته، على أمل
أنه سوف يتطهر اليوم ويغسل درن السنوات الطويلة، أنه سوف يصبح ذات أخرى غير ذلك
المرئي والمعلن. وما درى أن المعلن والملموس نفسه ما هو إلا زيف وقلق كاسد، ليس ما
تراه أنت ولا تتخيله هو الآخر. وليس الأنت إلا ابتكار معوج والذات هي الأخرى حجاب
حاجز لصيرورة الأنا وقدرتها على الانتباه لما فيها وما يعتمل ويتحرك بداخلها، هذا
بافتراض أن لديها حيز أو مساحة تحتويها لتكون هي متحرك في ظل حيز ثابت. وهكذا يضيع
العمر في رحلة البحث عن الامتلاء مقابل الحيزات المحددة، أو الإفراغ مقابل جعل
المساحات تنقص رويدا، فرويدا، وفي كل الأحوال ما هي إلا مظنات الكائن وغرابته
باتجاه ما يسعى وما يأمل وما يجب عليه في مقابل ما استجاب له.
وتارة
أخرى يتردد صدى درويش:
قلت: يا
هذا، أنا هوَ أنت
لكني قفزتُ
عن الجدار لكي أرى
ماذا سيحدث
لو رآني الغيبُ أقطِفُ
من حدائقِهِ
المُعلَّقة البنفسجَ باحترامٍ...
ربّما ألقى
السلام، وقال لي:
عُدْ سالماً...
وقفزت عن
هذا الجدار لكي أرى
ما لا يُرى
وأقيسَ
عمقَ الهاويةْ
فمن
يقيس ذلك العمق، لا أحد.. إما إنها ذلك المسار العميق الأرضي والحياتي أو الذي
يكون بعد أن يُغلق المسار المحسوس بغياهب الموت والأزل وبرزخ النهايات، ليكون على
الذات أن تدخل عوالمها الخاصة أو المفقودة التي لن يكون لها من شكل ولا تحديد إلا
لها فقط، فالعالم الخارجي والآخر لن يكون قادرا على الاستجابة والرؤية أو الإفادة
أبدا. وهنا يكون السر الغامض واللغز الأبدي الكبير.
فرؤية
ما لا يُرى سيظل هو الغياب، هو اللهفة والأشواق والحنين، والمحاولة تلو المحاولات،
والهمزة التي تحاول أن تقف على ألف معوجة بظن أنها متصلة لا منقطعة. هذا هو السؤال
الأزلي الذي يتعثر أمامه الكائن في كل هنيهة يقف ليساءل الذات ويقلقها، إن رؤية
ذلك الغائب هي المعنى المفقود الذي تبحث عنه الأنا، الشريرة كانت أم العارفة،
المكتنزة بأضغاث الماضي والأمس البعيد وتلك التي تعيش حاضرها كذلك، وفي كل
الأحوال.. وفي معظم الظروف فإن الإنسان سوف يجد نفسه منطلقا في القوس إلى أين؟ لا
يعلم؟ يسافر في الغيب، ذلك السفر العجيب وسيظن على شاكلة درويش "أن الغيب يرى
ويتكلم، وربما هو كذلك، ومرات يشير إليك بأن تعال، فهل ستسمعه يا بني".. ربما
هي كلمات تسمعها الروح من منطقة ما في عقل يسمونه باطن أو خفي أو برزخي، له قدرة
على التفسيرات المرهقة والاستجابات الغامضة والساحرة.. ليكون لسيد الترهات أن يمضي
وحيدا كما ولد ولكن ربما كان هذه المرة سعيدا جدا.
تعليقات