يظهر الفرنسي نيكولاس شوفان أو شوفين،
المولود سنة 1790م كصورة للجندي المغالي في وطنيته وبإفراط دون أن يكون له عقل
يميز به بين حقائق الأمور، لأن غاية حبه مركبة على حب السيد نابليون بونابرت
والعمل على خدمته وخدمة جيش الجمهورية الفرنسية، وإذا كان مصطلح
"شوفيني" قد جاء من هذا الرجل الذي بات فيما بعد مثارا للسخرية اللاذعة
بعد أن كان في البداية مضربا للمثل في التغني بحب الأوطان، فإن الشوفينية التي تقترن
به، باتت اليوم عالما غائما يسيطر على مكامن الأزمات في العديد من الدول
والمجتمعات حيث عمل على ميلاد أنماط من التفكير ذات المسار الأحادي التي تظن أنها
دون غيرها التي تعرف حقيقة الوطنية وما سواها باطل ولا يفقه في ذلك شيئا.
وإذا كان نيكولاس مضحيا، حيث يقال إنه
جرح 17 مرة في معارك مختلفة أدت لتشويه جسده، إلا أن الشوفينيين الجدد ليس لديهم
أدنى مغامرة أو تضحية مقابل إيمانهم المشوه بمعنى الوطنية وإصرارهم على الخط
الأحادي في فرض الرأي ومصادرة الحريات، وتحويل الجميع إلى أعداء لأنهم يخالفونهم
الرأي. وتضحية هؤلاء تقتصر على الزج بآخرين في الجحيم والبقاء في موقف المتفرج
الذي ينتظر أن تقوم لظى بإحراق المساكين حتى يتم تبديل الجلود بغيرها، أي بأناس
آخرين يُرمى بهم في الأتون المشتعل.
إن الحماسة المفرطة والمشوبة بالجهالة
وغياب التأسيس الواعي بالأشياء يؤدي في النهاية إلى حالة من الغياب التام للفكرة
المركزية التي من المفترض أنها جاذبة وايجابية، فالحديث عن الوطن والوطنية أمر
جميل ورائع ولكنه بمجرد أن يدخل في الهذيان الشوفيني يتحول إلى أمر بغيض وكريه،
لأن من يساوم ويصبح تاجرا باسم هذا الوطن يكون هو قد افتقد للكرامة الوطنية والحس
الذي يجعله مؤهل للحديث عن هذا الشيء. فالوطن ليس إدعاءات جوفاء ولا كلام فارغ
يطلق على عواهنه، ولا إنسان يدعي أنه يحب الأرض وحريص عليها أكثر من الآخرين، وحقيقته
أن حبه لما يقوم به من أعمال وأفعال تخدم مصالحه الشخصية مستغلا خيرا الأرض والوطن.
لقد بات الفكر الشوفيني في التعامل مع
القضايا الوطنية والإنسانية في بلداننا أمر بديهي، حيث يكاد يكون اليوم هو عصر
الشوفينيين من كافة الصور والأشكال الذين قد تمرسوا على التبجح والعنجهية الفارغة
والإدعاءات الكبيرة بأنهم من يمتلكون القدرة على تخليص العالم من العذابات
والانتقال به إلى مرحلة أخرى من الرقي والنعمة، وهم أفاكون وكذابون ومنافقون،
يعلمون ذلك حق العلم.
وإذا كانت مفردة وطن.. ووطنية مثلا
تشير إلى معان محددة في يوم ما، فإن هذا المعنى نفسه صار اليوم مثارا للسخرية،
ماذا يعني أن تكون وطنيا؟ أو متحمسا لفكرة ليس لها من توضيح ولا بيان محدد، أو
أبعاد يمكن الاستناد عليها.. فكرة باتت متموهة لا توصيف لها بسوى ما يفرضه أناس
بعينهم هم الذين يتحكمون في مسارات الوعي والأدلجة العامة للمجتمع وتسييره وفق
هواهم لأنهم سيطروا على مفاصل القوت والمعاش، وجعلوا الحقيقة رديفهم ليشكلوا بها
الأزمنة وفق هواهم.
إن العصبية بشتى أشكالها بغيضة وغير
محبذة بل كريهة جدا، لأنها سبب رئيسي في إعاقة التقدم والنماء وجعل الشعوب ترجع
للوراء دائما، حيث يسيطر عقل لامفكر ليس له إلا أن يحكم على الوقتي والآني ويعمل
على تمديد سطوة وسلطة الفاسد والمتخثر من الأفكار والهموم، بحيث تصبح أفسد الأفكار
هي التي تشغل الناس وتجعلهم يسيرون وراءها، بظن أنها هي المعاني السمحة والنهائية في
كتابة سفر الخلاص.
وفي ظل سيادة لاوعي دامغ وجمعي يكون
للفكرة "المتعفنة" أن تسود وتسمو وتصبح هي الحقيقة التي يؤمن بها
الكثيرون ويعتقدون فيها، بل تتحول إلى منهج عمل عام ونظام ودولة، بل الأقبح سلطة
مجتمع بأكمله.
ومهما بلغت التوصيفات فهي عاجزة عن
تغطية هذا الانهيار الأخلاقي أو القيمي، أو لنقل الابتعاد عن جوهر الحياة في
معناها السامي وقيمتها المركزية، ما يعني إفراز المزيد من السلبيات والتمادي في
تعميق فكر الكراهية ومعاداة الآخرين أفرادا كانوا أم دولا أو ثقافات، فالثقافة لا
تعترف بالأخرى سواء داخل النسق الشبكي للمجتمع نفسه أو ثقافات الآخرين، حيث دائما
ما يتم الحديث عن أن ثقافة مهمشة مقابل أخرى سائدة أو ثقافة بدائية مقابل متطورة
أو ابتكار مصطلحات على شاكلة "غزو ثقافي" أو السيطرة على الشعوب باسم
الاستعمار الثقافي، وما هي إلا أوهام تعضد من سلطة الغباء الشوفيني المستمر والذي
وطد أركانه في أعمدة البيت الوطني.
وفي عالم بات معقد من حيث الأفكار
والرؤى والاتجاهات في المعارف وتغير وسائل النظر إلى الفكر نفسه، وابتكار العديد
من العلوم داخل النسق الواحد من المعرفة، كما في إدراك شأن الوطن والوطنية
والسياسة المتعلقة بهذا الباب، فإن الحديث عن شوفينية في إطار الارتباط بالدلالة
القديمة بات مضحكا، فالكلمة باتت اصطلاحا متسعا يغطي كل نوع من التحيز اللاعقلاني
والإفراط في عشق الفرد لأفكاره السمجة بظن أنها الحقائق المطلقة، كذلك كل نوع من
التحزب الأعمى والأحقاد الدفينة التي ليس لها من أي عقل وراءها بالإضافة إلى
اعتماد الكراهية كقانون وطني بدل كل القوانين والدساتير التي تحمي سيادة الإنسان
وتكرس العدالة والحب والانتماء. لدرجة أن معنى أن تكون إنسانيا أو وطنيا أو عادلا
صار مثار التباس حقيقي، وباتت الصورة البديلة هي السيطرة والقمع والتخويف والمضي
في استعمار الإنسان باسم الخوف والكراهية.
إن الحديث عن شوفينية العصر الراهن لا
تنتهي وتقود إلى تمييز يفرض بكافة الأشكال ممن يقتاتون على مظنة أنهم حماة القول
الإلهي والكلمة الربانية، أو رجال يظنون أنهم أفضل من النساء دينا وعقلا، أو كبار
يعتقدون أنهم مخولين للتحكم في الصغار، أو ما شئت من صور إعمال اللاعقل واللامفكر
فيه وإسكات الحق سواء بدافع تحييد الوعي الخلاق أو العكس عن طريق جهل دامغ لا يقبل
الريبة. وللأسف فإن المجتمعات تتردى والظنون تعلو على كل شأن، ويصبح كل تفكير سديد
في محك وأمام المصادرة والإكراه ويكون الإنسان السوى شاذا وقبيحا ليعلو ذو النزاهة
المدهونة بالتسلط والتعالي البيّن، ليصبح الوطن مفردة من الأمس، ليس لها من إعراب
ولا موقع في حيز كتاب الأمل، إذا لم يكن ثمة تغيير.
إن فكر العنجهية البليدة وإرسال
الأحكام المطلقة على عواهنها وتمييز الناس دون نظر مسبق، والتثقيف القائم على
مبادئ فارغة، صار هو المسار الذي يحكم المجتمع اليوم، وبات هذا المسار مدعوما
بسلطة الوسائط الجديدة التي عمقت الجرح وجعلت الأنا غائبة في ظل المجموع الشوفيني.
تعليقات