يذهب مفكر الثورة الفرنسية «روسو» إلى أن السعادة تعني إشباع مختلف الحاجات،
محددا إياها في حساب جيد في البنك وطعام مطهي جيدا وهضم جيد. قد تكون هذه الصورة
الأبسط للسعادة وهي تتعلق بالمعاش اليومي والاحتياجات الضرورية ومعنى الإنسان
المادي البحت، لاسيما في ظل الحياة التي بات طابعها الاستهلاك وتكاد قد تلاشت فيها
أنظمة المجتمع القديم الذي أبرز سماته التوازن الذي تخلقه طبقة وسطى هي الغالب الأعم
لهذا البناء الاجتماعي.
لكن من العبط أن نفهم السعادة في هذا المعنى المباشر والمادي البحت، إذ أن
هناك ما هو أعمق كما يقول الخبير العالمي «داينز» المهتم بفكر السعادة، الذي يذهب
إلى أن السعادة تعني مواجهة التحديات بأقصى حدود القدرة، ليكون ذلك مصدرا للشعور
بالبهجة.
في الفلسفة القديمة نجد أن «أرسطو» يقول لنا إن كل هدف لا يعد هدفا إلا
بالغاية النهائية التي يسلم بها، بمعنى أن السعادة إذا كانت هدفا للإنسان، فإنها
وعلى طريقة «داينز» ناقصة لأن الإنسان لم يصل للغاية النهائية، فهو طريق المواجهة،
لم يحقق بعد نتائج هذه المواجهة، التي هي الانتصار، ولكن كيف ينتصر الإنسان وضد
من؟ هذا هو مربط الفرس، الذي يقود لسؤال أبجدي حول صراعنا في الحياة، إلى ماذا
يقودنا، وهل نديره ضد ذواتنا، أم ضد الآخر؟
غالبا تظل الأسئلة الفلسفية، والمتعلق منها بالوجود الإنساني بلا إجابات،
حيث تتحول محاولة الجواب عنها الى نوع من الحوار والجدل الذي يعمل فقط على تحريك
الذهن نحو أن يفهم، لكنه لن يفهم، وهذه واحدة من حكم الحياة في أن الإنسان يفكر
ويقلق، ويحاول، وتظل دائما هناك مساحات واسعة لإنتاج الجديد والابتكار.
وفي سبيل أن نوجد الحكمة النهائية، تسقط أفكار، وتنمو أفكار جديدة، تقوم
أيدلوجيات وتهبط أخرى، وبين عمليتي الصعود والهبوط يكون التحدي أمام الإنسان قائما
بأن يتعايش مع واقعه، مهما كانت الظروف التي تحيط به، ومهما كان حجم القلق الذي
يعانيه.
يذهب بعض الفلاسفة إلى أن الأشخاص الأقل معنى للحياة هم الأقل سعادة، أي أنه
كلما زاد ارتباط الإنسان بهذا القلق المثير، كان سعيدا، وقد يبدو هذا الكلام
مغلوطا لدى البعض، عندما يفسرون جوهر الراحة النفسية والسعادة في التزام البساطة
والبعد عن التفكير في الوجود والفلسفة.
وثمة من يرى أن أزمة المفكرين والفلاسفة أنهم يحاولون أن يجعلوا من أنفسهم
محورا للوجود، وأن كل ما يعتقدونه صحيح، وما سواه خاطىء، وهذا يحول من العمل
الفكري والفلسفي حتى لو كان عميقا لموقف وجودي مضخم بالأنا، مما يخلق نوعا من
الرفض ضده.
نعود للخبير «داينز» الذي بقدر ما ربط مفهوم السعادة بموضوع التحديات، إلا
أنه رجع مرة أخرى ليضع للسعادة أبعادا مادية مثل «القدرة على النمو المريح»
و«ممارسة الرياضة العادية»، بين المادي والمعنوي، تتراوح الأفكار تجاه أن نكون
سعداء، أو بؤساء، لكن الجوهر النهائي أن كلا يكتشف الحياة بقدر تجربته، وعلى
طريقته الخاصة
***
ونحن اطفال لم نتمالك بعد جرأة تحدي الحياة، حكموا علينا بأن نقرأ لإيليا
أبي ماضي وهو يحاول ان يكوِّن مفهوما للسعادة تلك الكلمة المجهولة والتي ينشد كل
منا ان يفوز بها، حيث يعتقد ابو ماضي ان السعادة قد تستوطن كوخا صغيرا يخلو من
الخبز في الوقت الذي تخلو فيه القصور الشامخات منها، وانها اذا مست حصاة صقلت هذه
الحصاة وحولتها لدرة ثمينة، وذات الفلسفة يعكسها في قولته المعروفة:
والذي نفسه بغير جمال
لا يرى في الوجود شيئا جميلا
كذلك ونحن اطفال ايضا شحنونا بأن نتغلف بكلمة الحرية عندما حكموا علينا بأن
نقرأ لأبي القاسم الشابي وهو يغني للحياة او الحرية ويحدثنا رغم ذلك بأن المنتصر
هو القوي في خلاصة حكمته، حين يقول:
لا رأي للحق الضعيف ولا صدى
والرأي رأي القاهر الغلاب
ونحن اطفال، ايضا.. وايضا حكموا علينا بأن نقترب من الكثير من المعاني التي
كنا نعيشها اطفالا وصبيانا، وعندما عرفنا الحياة بعد ان بلغنا الحلم فقدنا كل هذه
المعاني، فقد تحولت السعادة في قواميس حياتنا ورغم أنوفنا، إلى قصر شامخ معبأ
بالحلوى وصار الذي نفسه قبيحة يرى الوجود أجمل من الذين نفوسهم رائعة بالفعل، وتبخرت كلمة الحرية من مفرداتنا بل صارت
الحرية والحياة كلمتين متباعدتين لا يقتربان من بعضهما البعض ابدا.
نعم قرأنا عن السعادة والحرية وعزة النفس ونحن ما نزال صغارا لم نعبأ بفكرة
الحلم، لكن قراءتنا جاءت في ساعة لم نعرف فيها بعد ان ذلك المدرس الذي يقف امامنا
في الفصل يحاول ان يشرح لنا معنى السعادة وهو يعيش الفقر والتعاسة والشقاء، وانه
يحاول ان يقرب إلينا معنى الحرية وهو مقيد بلا إرادة ذاتية يحلم بالانطلاق
كالعصافير.
واذا ما طبقنا قاعدة ابوماضي في معنى الجمال فقد كان مدرسنا يرانا محاطين
بالقبح والشؤم والتعاسة لأنه لن يرانا على غير ما هو عليه، ولهذا مهما حاول لن يستطيع
ان يغرس في ذواتنا معنى ان نكون سعداء واحرارا.
كيف نكون كذلك وقد دخلنا الحياة بغير ابوابها، كنا لصوصا ضد فكرة المعتاد
قفزنا فوق اسوار الظلمات والظلم لنكون لكننا عجزنا وكان عجزنا امتدادا لما حولنا
من اسى وظنون، ورغبة مقتولة لا تعرف الحياة، ففاقد الشيء لا يعطيه قاعدة ابجدية
تعلمناها منذ الصغر ومدرسنا لايمكن ان يمنحنا ما عجز عنه.
ان المعلمين جسور تعبر فوقها الاجيال فاذا كانت جسورا هشة سقطت ووقع الجيل
في النهر غريقا لأن اجيالنا للأسف لا تعرف ان تسبح ضد التيار او معه!
***
وهذا يشير إلى أنه سواء تعلق الموضوع بفكر السعادة أو الحرية أو إدراك
الجمال أو أي معنى إيجابي كان في الحياة، فثمة معلم أو قدوة أو رافد خارجي نستهلم
منه وهو أشبه بالماء الصافي الذي تشربه فيجعل جسمك صحيا ومعافى، وإذا حدث العكس أن
شربت ماء ملوثا فسوف تصل إلى النهاية إن لم تعش متخثرا. وهكذا هي المجتمعات في
صناعة فنون الوعي بهذه الأمور الحيوية، فالسعادة لم تعد مجرد انتظار بل كفاح حقيقي
وقصة إلهام يقود إلى العمل والإصرار ويشحذ بالعزائم، وليس مجرد انتظار وتوكل كما
يقال لأن المتوكل الصحيح يكون إنسانا قد فلح الأرض وبذر البذر في انتظار المطر، بل
أن العلوم الأكثر حداثة تقوم على التحكم حتى في كيمياء المطر نفسها. فالفرص هي
صناعة البشر أنفسهم وليس هبات من المجهول. لهذا فتحرير الذات لكي تعرف المعاني
السامية هو أول الطريق نحو اكتشاف المعنى.
تعليقات