التخطي إلى المحتوى الرئيسي

نوستالجيا المثقف!

كثيرا ما نردد كلمة نوستالجيا وفي مواقف عديدة، وهنا أتحدث عنها في إطار الثقافة والمثقف، وقبل ذلك أتوقف عند معنى الكلمة أو دلالتها التأسيسية حيث أن النوستالجيا في اليونانية القديمة تعني الشوق والألم، فهو نوع من الاشتياق والتذكر والوله المشوب بالحنين وإن كان مؤلما في الوقت نفسه، وهو "ألم الجهل" لأن الذات ما زالت غارقة في الماضي والأمس لم تصل بعد إلى مساحة جديدة حقيقية، حتى لو أنها في تمظهراتها تقول غير ذلك، لأن الأساس والجوهر القديم ما زال باقيا ومتجذرا.

وغالبا ما يستخدم اصطلاح النوستالجيا في معناه العملي والمباشر لوصف الحنين إلى الماضي، عند من يعاني ذلك "المرض" بحيث يكون لديه هوسا أو نوع من المعاناة النفسية وحيث يظن أنه لن يستطيع أن يعود إلى بيته ودياره التي غادرها أو أنه سيظل يعيش اكتئابا كبيرا جدا لا يقدر على الانفكاك منه أبدا. كما توصف النوستالجيا على أنها حالة مرضية أو شكل من أشكال الاكتئاب خاصة إذا أصبحت ملحة ومتكررة بحيث تشكل عمى للذات عن رؤية المستقبل والتبصر الأفضل للحياة بحيث تعيق الإنسان عن الفعل الفاعل والإرادة السوية التي تصنع الجديد وتنشد المبتكر وتتجاوز أنظمة التخييل الكلاسيكية.
وفي فترة من تاريخها التوصيفي والعملياتي ارتبطت النوستالجيا بدرجة عميقة بمدارس فكرية وفنية تحديدا مثل الرومانتيكية في أوروبا وإلى نهاية القرن التاسع عشر ومنها انتقلت للعالم العربي في مطلع القرن العشرين، فوجدناها في أشعار أبوالقاسم الشابي والتيجاني يوسف بشير وكتابات المنفلوطي ومدارس المهجر كما عند إيليا أبوالماضي، هؤلاء الذين مارسوا نوعا من الحنين ليس للماضي بل للذات المتحررة عن الطريق برغبة الالتحام مع مطلقات الطبيعة والكون والوجود والجماليات المجردة، بظن أن خلاص الإنسان وتحرره يكون بالتماهي مع العالم الخارجي، وهو الفكر الرومانتيكي الذي سرعان ما أثبت فشله كقيمة جمالية، وكان قد استورد في سياق الخيال العربي بعد أن استنفد غرضه أو وظيفته في المجال الأوروبي. تماما كما فعل الحداثة التي بدأنا في الكلام عنها بعد أن انتهى دورها وفعاليتها في الغرب ومنذ 1974م حيث يصعب تحديد مؤشر زمني مباشر لذلك الشيء.
وهكذا فإن النوستالجيا لها أكثر من صورة وتجلٍ، فهي حنين مطلق إلى الماضي أو الجوامد والقوالب وتكلس الذات وانغلاقها سواء على الخارج أو الداخل، وهي رغبة في تلمس الحل في البعد الآخر سواء كان زمنا حديثا أم قديما جدا، هي رغبات العقائد التي ترى نفسها هي الإطلاق دون سواها وتمارس الإكراه لتكون هي الحقيقة المطلقة على الدوام، وما أبشع الصورة ساعة تكون تلك العقيدة يتبناها المثقف أو من يسمى نفسه داع للتحديث والتجديد وتغيير أنساق الحياة الإنسانية والوجود.
إن هذا الحب الإكراهي والجزافي للماضي أو الأمس تحديدا فترة عقدي الستنيات والسبعينات في السودان، ما زال يمارس وبشغف كبير من قبل مجموعة أو جماعة من "المثقفين" الذين أنتجتهم تلك الفترات والذين يعتقدون بإذنهم ان التاريخ قد توقف هناك ولم يتحرك قيد أنملة، وهم بذا يعمقون من الحب السلبي والإرادة التي يمكنها أن تصنع المستقبل بسجنهم المعرفة والعلم والثقافة في تلك الفترة، وبظن أنهم حماة التغيير والباحثين عن الجديد، وأن ما سواهم باطل وغير ذي قيمة، فهم من يوزعون صكوك الانتماء والهوية التي يريدون تكييفها على شاكلة ما أفرزوه من أدبيات تكرس لقيم لم يكن لها أي أثر في إحداث فاعلية في الحياة السودانية، وإلا لما كنا في ما نحن عليه من انكسار وتأخر.
إن مكان النوستالجيا التي يمارسها المثقف هي بيته حيث يهرع إلى كتبه العتيقة أو مجلداته القديمة أو مذكرات أقرانه ممن عاشوا تلك الفترات، أو يشاهد فيلما بالأسود والأبيض أو يستمع لأسطوانة مشروخة يديرها على جهاز مستلف من تلك الأزمنة يضعه في صالة بيته الذي بناه أبهة لم تنعتق عن السياق الرأسمالي والبراجوزي السائد في المجتمع السوداني، فهذا المثقف الذي يظن له قيما هو أسير ما أفرزه المجتمع من كيميائيات الرأسمال والتزعزع الأخلاقي والجنون الذي يسود الناس باسم الصراع الفاضي الذي لم يقد لغير الدوران المفرغ. ولهذا فإن خطابه يجب ألا يغادر ذلك البيت والركن حتى لا يضلل العام.
إن الحديث لدى البعض بأن الحداثة السودانية مركزها هو تلك الفترة، ليس إلا نوع من الخبل الوجداني لأن الفعل الحداثي لم يكن ارتكازيا ذات يوم في سياق الحياة السودانية، فما حدث هو صور مشوهة للفعل وليس هو في حد ذاته، لأن التأسيس كان ضعيفا ولم يأت من قبيل الحراك الإيجابي والممرحل والسهل وإنما نوع من الإكراهات التي هي أساسا تفتقد للوعي بها والإيمان العميق. فـ "الأفندي" الذي عاش تلك الفترة وصورته معروفة من خريجي ما أفرزته غردون التذكارية ومدارسها الكلاسيكية، بات يعتقد أنه المثقف وحسب وعمل بشكل جارف على اقصاء أي نوع من المعرفة خارجه، كما تم مثلا تهميش الراحل محمد أبو القاسم حاج حمد أو الأستاذ الراحل الطيب محمد الطيب وغيرهما من بروفيسورات بحق لم يرسلوا مقالاتهم الدورية إلى المجلات التي تضع "البونص" للترقيات الخرقاء. والعبرة هي بالإنتاج والرؤى والانعكاسات التي ليس لها من أثر ولا وجود ولا ترقي ملموس في الواقع ولا الوقائع.
إنها نوستالجيا مؤلمة تجلب الشفقة والخوف على مصير هذه الشخوص، ولكن في الوقت نفسه تقرر بشكل واضح أن الإنسان هو المستقبل، وان ما سوى ذلك سوف يذهب جفاء وهباء منثورا، فالتاريخ البشري ظل دائما يقدم تصفيات قوية ومدمرة لكل فعل غير خلاق بحيث يبقي على الحقائق الكبرى والعميقة وينسف ما سواها، وبهذا فإن أي أحزمة ليس لها سوى الوله النوستالجي لن تصمد أمام جرف التاريخ وستقف أمام حراك الإبداع والتخييل  والمنجز الثقافي الذي لن يتوقف ولم يتوقف في تلك الفترات، أو كما قال الفنان محمد وردي ذات مرة أن الفن السوداني توقف في الستينات.
إن ترميم الذاكرة بالنوستالجيا الخرقاء والشلل والأقران وبعض من المراجعات الشكلانية لن يخدم بأي شكل كان في سبيل ما اسموه مراجعة حداثوية للهوية أو تأسيس جديد للوعي يقوم على الاستشراف والأمل وأخذ تفكير وإنتاج الجيل الحاضر في الاعتبار، فمن يفعل ذلك يظن أن  التاريخ قد انقطع حبله وتصرمت أوصاله عند ذاك الوقت.
إن التمسك بهذا الشكل أو الموقف من وعي الذات، يعني الحنين إلى "ماض مضى غير مأسوف عليه"، إلا في حدود مساءلة صادقة وقوية وذات انتباهات تستبعد مجرد البكائيات، وما سوى ذلك لن يكون له من أثر فاعل أو حقيقي على الراهن المعاش، من حيث تشكلات الحياة، ما يجعل الكلام أو الحديث عن تلك الفترة "التاريخية" لا يغادر ذلك التوصيف المتعلق بفكرة التعازي والوقوف على الاطلال.
أخيرا فإن الحديث عن التحديث أو الحداثة هو أمر فارغ في حد ذاته، إذ لم ينتبه فعليا وعمليا إلى ما هي الحداثة المعنية بالضبط وكيف تتبلور، وما هي أبعادها وفضاءاتها، وإلا كان الأمر مجرد مضي في تعميق الهوة بين الواقع والتخييل، بين الوجع السوداني المعوج وأخطاء الأمس العميقة وما أفضت إليه من تراكمات ساذجة في السياقات الاجتماعية والثقافية والسياسية والاقتصادية.



تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

فصول من رواية "دماء في الخرطوم" الصادرة عن دار الفارابي

واحد   داخل المكتب المؤثث على طريقة عصرية، بديكور داخلي راقٍ، رنّ الهاتف النقال على الطاولة الخشبية لأكثر من مرة قبل أن يضغط عبد الحفيظ على الزِر ليردّ على المتحدث من الطرف الآخر.. لقد جرت العادة ألا يستقبل أي مكالمة من رقم مجهول بالنسبة له، لكن إصرار المتصل على تكرار المحاولة للدرجة التي استفزّت المجموعة الجالسة حول طاولة الاجتماع، جعلت عبد الحفيظ يردُّ أخيراً: - عفواً.. من يتحدث معي؟ قالها هكذا، دون أن يردَّ تحية المتصل. - معك اللواء طه عبد الرحمن مدير عام الشرطة. قبل أن يكمل، كان عبد الحفيظ قد نهض من على الكرسي الدوّار، وبحركة لا شعورية جرّ الكارفته تدريجياً إلى أسفل، قائلاً: - نعم سيدي.. تفضل، ما الأمر؟ ليس من عادة عبد الحفيظ أن يطيل المكالمات، لقد تعلم هذه العادة من سنوات عمله بالولايات المتحدة أثناء تدرّبه في إحدى الشركات هناك، بعد أن أكمل دراسته في الهندسة المدنية، قبل أن يعود إلى الخرطوم قبل شهر من الآن، لينشِئ شركة للمقاولات بإمكانيات مادية كبيرة. بدا له أن الضابط مرتبك وغير قادر على الإفصاح، ولثوانٍ ظلّ صامتاً، فيما كانت المجموعة الأجنبية الجالسة ح...

هل نضب الخيال؟

إشكاليات الذائقة الفنية والتلقي الجمالي عند العرب عماد البليك: منذ أن قدم الشاعر التونسي أبو القاسم الشابي أطروحته الجمالية حول "الخيال الشعري عند العرب" وخلص إلى أن الأدب العربي لا ينظر إلى المستقبل ولا ينفذ إلى صميم الأشياء وأنه "كلمة ساذجة" فإن الموقف لا يغادر موقعه، فالإشكاليات لاتزال قائمة إلى اليوم، والبحث عن تحرير الخيال لا يزال معطلا، كما أن الذائقة الفنية والجمالية تقاوم معوقات متجذرة يبدو الفكاك منها صعبا رغم الانفتاح الذي أتاحته الوسائط الحديثة للتلقي والمعرفة.  وإذا كانت مائة سنة تكاد تفصلنا، عن أطروحة الشابي، أي ما يقارب القرن، فالسؤال القائم ما السبب الذي عطّل مشروع الإنتاج والتلقي الجمالي عند العرب، ولماذا هم إلى اليوم يتعاملون مع العالم على أنه أقرب إلى المسطحات والثنائيات منه إلى شيء عميق له أبعاد متعددة وأوجه متنوعة، وهذا ينطبق على الممارسة الفنية كما ينجر بدرجة أوضح على استقبال الرسائل الجمالية أو الفنية، سواء أنتجت في محيط عربي أو عالمي. كانت فكرة أبوالقاسم الشابي تقوم على الخلاصة التالية: "قد انتهي بي البحث في الأدب...

راما رواية البليك تغوص في أسرار الخلود وتتجاوز قواعد السرد

  في طفولتها البعيدة وهي تلعب بين مزارع الفول والفاصوليا وتسبح أحياناً مع البنات في النهر ساعة الفيضان، لم تكن خالدة تتخيل شكل مستقبلها، توفى معظم من تعرفهم ويعرفونها، كانت تحب فصل الشتاء لأنه يسمح لها بالاختباء تحت غطاء اللحاف، لتحلم، كانت طفولتها وشبابها مليئة بالفوضى فهي بنت الجزار الذي في لمحة بصر ومحض الصدفة تحول ضمن الحرس لشخصي لوزير مهم، هي بنت المرأة الطيبة القادمة من رحم الرق والبؤس، جد كان شحاذاً وتفاصيل مربكة استمرت إلى أن وجدت راجا الهندي الطيب تاجر المجوهرات، تكتمل الفرحة بميلاد الطفلة راما، الاسم المقتبس من الخلود بقداسته وأسراره. حياتها الجديدة لم تنسها ماضيها حكايات الخالة الصحفية المناضلة عوضية، والعم الذي مات بمرض لم يمهله كثيراً وسفيان، الأخ المولع بالفن والغناء، كثيراً ما يسير الماضي كشريط سينمائي بمونتاج محكم متداخل الأزمنة. كثيراً ما كانت تشعر بوخزة في صدرها وأن هنالك ما هو مؤلم في مقتبل الأيام، يموت الأب في حادثة مفجعة وهي طالبة جامعية، بكته رغم أنه لم يعد ذلك الأب الطيب الذي كسر الأعراف والتقاليد وانتصر للحب منذ أصبح من الحاشية ومرافقاً للوزير في كل أسفاره....