في معرض مسقط الدولي للكتاب الذي اختتم السبت الماضي، شاركت ثلاث جهات
سودانية، وهو رقم قياسي يحدث لأول مرة أن يكون هناك ثلاثة ممثلين للسودان في حدث
كهذا، فالعادة أن دار نشر واحدة هي التي تأتي من القاهرة، وهي الشركة العالمية
للطباعة والنشر لصاحبها الشيخ عووضة، والذي داوم على الحضور في المعارض العربية، والخليجية
بوجه خاص منذ أكثر من عشر سنوات دون انقطاع، فشكّل سفارة للثقافة والأدب السوداني.
هذه المرة كان هناك حضور لدار المصورات للنشر لصاحبها أسامة عوض الريح،
ومركز عبد الكريم ميرغني، بالإضافة للشيخ عووضة، وكان ذلك بمثابة سابقة أفرحت
الكثير من أهل السودان المقيمين بسلطنة عمان، لاسيما أن الكثيرين ينتظرون موسم
"عرس الكتاب" لكي يطلعوا على آخر ما صدر من كتب في المجالات المختلفة.
وهنا سوف أتوقف عند عدد من الملاحظات فيما يختص بمسألة النشر في السودان وتسويق
الكتاب السوداني وأزمة الكتابة والإنتاج، وصورة الكتاب السوداني عند العرب، في شكل
نقاط موجزة في هذه اليوم وبعده، عسى أن يساعد ذلك المهتمين في تلمس جزء من الجرح
والعمل على العلاج.
أولا: الكتاب السوداني يعاني كثيرا بسبب غياب الدعم الحكومي وليس هذا
الموضوع الأساسي، بل أن الوضع الاقتصادي انعكس على كل شيء، فأبرز مدخلات الطباعة
متمثلة في الورق بات مكلفا جدا، لهذا تجد أن الكتب السودانية تطبع في الغالب خارج
البلاد في القاهرة، وفي السابق في سوريا وأيضا لبنان. فالورق رديء جدا وهو من
النوع الرخيص بهدف تقليل التكاليف، لأن أي كتاب مرتفع الثمن لا يفكر أي كائن
بشرائه في ظل التفكير في أولويات العيش.
ثانيا: الطباعة نفسها وطريقة إنتاج الكتاب من الإخراج إلى الشكل
النهائي متواضعة رغم أن السودان بلد زاخر بالمختصين والموهوبين في هذا المجال
والذين وجدوا فرصتهم لإظهار ما عندهم خارج البلاد في حين عجزت بلادهم عن
استيعابهم، فالكتاب السوداني في أغلب الأحيان يأتي غير منضد بالشكل السديد كما أنه
يفتقد لمهارات وفنون الإخراج والقياسات المريحة للقراءة، فقد تجد كتابا على شكل
مجلة والعكس صحيح سواء في الإخراج والشكل أو المقاس.
ثالثا: يسبق ذلك مسألة ضعف الإنتاج السوداني عموما، فما يصدر من كتب
سنويا لا يكاد يتجاوز عدد أصابع جسم الإنسان، وفي شتى المعارف، وهي كتب في الأغلب
تفتقد للجهد الكبير والبذل العلمي والمعرفي، لأن أغلبها مقالات تم تجميعها لتنشر
على أساس انها كتاب وهي أفة ابتلينا بها منذ الستينات كما في "حوار مع
الصفوة" لمنصور خالد وغيره، قد يكون لهذه الكتب دور توثيقي نعم أو معرفي. لكن
الحديث عن كتابة جديدة وناضجة قليل جدا. كذلك فإن تنوع حقول المعرفة لم يوفر
خيارات في الكتب والقراءة، وهذا يعود طبعا لاسباب كثيرة ليس اولها الاقتصاد وظروفه
السيئة، بل أيضا جوانب تتعلق بسمات في الشخصية السودانية من حيث عدم الجنوح
للتأليف والنقد العاصف باتجاه الذات والآخر، الذي يمارسه الأفراد الذين لهم القدرة
على التأليف بشكل يجعلهم في النهاية يغادرون مشاريعهم إلى مسار آخر مع انشغالات
الحياة اليومية وضغوطها المتزايدة.
رابعا: يهيمن على المشهد الفكري والثقافي والتأليف عموما اسماء بعينها
منذ ربع قرن وأكثر، دون أن يكون لها جديد إلا على صعيد التدوير وإعادة إنتاج
الذكريات وحكايات المخيلة، في حين أن الأجيال الجديدة تفتقد لفرص النشر والوصول
إلى جمهور القراء.
خامسا: ثمة أزمة واضحة تتجلى في الرقابة والرقيب والمصنفات الأدبية
التي تقف حجر عثرة أمام العديد من المؤلفات ولأسباب غير واضحة في أغلب الأحيان،
ودون قانون يحكم هذه المسألة سوى المزاج الشخصي الذي هو جزء لا يتجزأ من نسيج
الحديث عن مصلحة عليا أو عامة ليست محددة تتكلم باسم الدين أو التقاليد أو القيم
وغيرها، وهذا شأن يستطيل الكتابة حوله وإشكال مستعص.
سادسا: غياب دور النشر السودانية.. مسألة جلية أيضا، لأن رأس المال
السوداني إلى اليوم يدور في الأفلكة الكلاسكية للاقتصاد القائم على التجارة
التقليدية، فلا أحد صاحب مال يفكر في المعرفة والقراءة لأنه يضع حساب الربح
والخسارة قبل كل شيء. هذا جانب من الصورة ولكن للصورة جانب آخر يتمثل في أن هذا
الشخص نفسه لا يعمل على توليد أفكار جديدة في الإنتاج والتسويق بحيث يصل إلى
مساحات أوسع في السوق ويشكل جاذبية للمستهلكين. وهذا الإشكال ليس سودانيا فحسب بل
يمتد لدول كثيرة في إقليمنا من ضعف فكر النشر الحديث، والنظر إلى الكتاب بوصفه
سلعة حيوية ما زال بدائيا، رغم أن الكلام بدأ يدور حول نهاية عصر الكتب المطبوعة،
ويبدو أنها سوف تنتهي قبل أن نفعل شيئا.
سابعا: أسلوب التسويق نفسه لا يزال روتينيا وبدائيا، ومرة قلت لأحد
الأصدقاء لماذا لا تصل الصحف السودانية إلى أي من بقاع السودان والدكاكين الصغيرة
في الأحياء حتى في العاصمة نفسها؟!، وهذا لا يحدث للأسف، رغم أنه ليس مكلفا، فصاحب
سيارة بوكسي صغيرة يمكن أن يوزع داخل مجموعة من القرى أو الأحياء في حزام مدينة
معينة، ويأخذ حصته من المبيعات. فلو توفرت الصحيفة أو الكتاب في كل بقالة بجوار
البيت فإن ذلك سوف يجعلك تفكر في الشراء حتى لو كان مكلفا بعض الشيء، بدلا من رحلة
بحث مستعصية. كما أن ذلك قد يشجع نشوء تعاونيات في هذا الباب، بإدخال الفكر
التعاوني في القراءة وليس اقتصاره على السلع الاستهلاكية كما يحدث في الغالب.
ثامنا: هناك جانب يتعلق بثقافة النشر وما الذي يريد أن يصل إليه "الناشر"
من خلال هذا العمل أو هذه المهنة أو التجارة؟ هل لدينا ناشرون حقيقيون أم أنهم
أناس يجربون ويتعلمون مع الوقت؟ وهذه هي الحقيقة المرة، فالناشر ليس إنسانا عاديا
وليس بائع كتب أو من يقبض ثمن الكتب ليطبعها ولا يدري إن كانت في المخزن أم تم
بيعها أم ماذا حدث بالضبط!!.. إن الناشر الحصيف والملهم هو الذي يفكر في القارئ
كأولوية ويحترم الكاتب ويحفظ الحقوق.. وكل ذلك غائب فعليا فدور النشر سواء
السودانية على قلتها والعربية ينطبق عليها هذا القول، فهي أشبه بمتاجر للكتب وتربح
في البدء من قبض ثمن الطباعة مبكرا من المؤلف قبل أي ربح آخر، على حساب شقائه
ولقمة عيشه فهو يستقطع من حق عائلته ليطبع كتابه. وبعدها ليس مهما ما سيجري مع
الكتاب، فالمعرفة ليست أولوية بالنسبة لهم. ولا يهمهم إن كان الكتاب أحيانا جيدا
أم رديئا ما دام الثمن مدفوعا.
تاسعا: المؤسسات الرسمية لا تخدم الكتاب ولا تساهم فيه بالدور الفاعل،
فليس هناك مشروعات رائدة للقراءة على مستوى جماهيري، بحيث تشجع التأليف والكتاب
المجاني أو في متناول اليد، كذلك فإن القطاع الخاص من المفترض أن يتبنى أدوارا في
هذا الحيز، هي ليست موجودة أصلا.
ويطول الكلام..
تعليقات
الصراحة تشريح دقيق لازمة النشر في السودان لكن ماذا عن متلقي هذه الكتب فثقافة القراءة نفسها وللاسف في السوادن متردية من جبل اهتمام المواطن ونطحية بالوضع الاقتصادي والمادي. هذا اضافة كما ذكرت انها منخنقة من السلطات دون مبرر واضح مع العلم ان الرد علي الافكار ذات الضلال المبين يتم الرد عليها بافكار اخري تقيم عليها الحجة وتطرحها ارضا دون استخدام سلطات الحجز والمنع.
ما هو متوسط قراءة الفرد السوداني في العام للكتب !. هذا السوال او الاجابة عليه علي ما اعتقد هي اكبر مشجع للمؤلفين والكتاب والناشيرين لمواصلة العمل والعطاء ليس فقط من جانب الربح والخسارة لكن عندما تشعر ان ما تنتجه لايجد حظه من التقدير والامتنان (حتي النقد) ينتابك شعور بالاحباط ويبنعكس هذا علي مواصلة النشاط المستقبلي ايا كان نشرا او تاليفا فهذا في المقام الاول تجاهل وعدم رغبة من الشارع في الاستفادة او الافادة من ما تم طرحه.
والواقع انه علي علي مستوي المجتمعات الصغيرة كالاحياء في السودان (حتي العاصمة) لاتوجد اي نشاطات ادبية فلا توجد ندوات عن كتب معينة او مناقشات فكرية حول كتاب ما او رواية ما. لاوجود لمثل لهذه النشاطات ( الا نادرا جدا) ولعل غياب المكتبات العامة سبب لكنه ليس مبررا كافيا
صحيح ان الاوضاع الاقتصادية لها دورها لكن لماذا لا يكون الكتاب هو المتنفس والانيس والملهم في مثل هذه الحالات بدلا من الهرب منه وتجاهله
نحتاج لنشر مفهوم اخر عن القراءة يجعلها نشاطا روحانيا لا علاقة له بالوضع المادي او الاقتصادي بل يرتبط ارتباط وثيق بالاشباع العقلي والثقافي (وهذه حقيقة القراءة).
تناولت وبوضوح المشكل من قمة الهرم اي اسفله (المتلقي) لكن ايضا نحتاج الي النظر ايضا من اسفل الي الاعلي لمزيد من الفهم والحقيقة ان هذه العملية حلقة تبدا بما تنتهي به فمزيد من الوعي والاهتمام من المواطن يدفع مزيدا من الناشرين والكتاب والمؤلفين الي مزيد من الانتاج ليس من ناحية الكمية بل ايضا من ناحية جودة المحتوي ايضا وهذه قضية اخري.
شكرا جزيلا