التخطي إلى المحتوى الرئيسي

رؤى حول فيلم " آلام المسيح " – نيتوشية جيبسون تقول لنا نهاية الإله ...

أثار فيلم آلام المسيح الذي تبلغ مدة عرضه ساعتين وست دقائق، زوبعة كبيرة، بين مؤيد ومعارض، وعلى مستويات عدة من مضمون الفيلم إلى مغزاه، فالرؤية الجمالية التي يحملها، إلى الأهداف التي يسعى لها، كذلك توقيت عرضه، الذي جاء مع بداية فترة الصوم لدى المسيحيين، مصوّرا بكل دقة تفاصيل آلام المسيح في آخر اثني عشر ساعة من حياته, تضمنّت كافة أنواع العذابات، انتهت بصلبه وموته، لكن معظم التساؤلات دارت حول مضمون الفيلم، بعيدا عن المغزى الجمالي.

خلال الخمسة أيام الأولى للعرض حقق الفيلم إيرادا يقدر بـ 117.5 مليون دولار، وتشير المصادر إلى أن الأوساط البـروتستانتية الأميركية هي التي دعمت فيلم جيبسون، بينما أبدت الكنيسة الكاثوليكية تحفظاً حياله، باستثناء التيار المحافظ، وقد استند نص الفيلم على عدة مصادر، بما فيها مذكرات القديسة آن كاثرين ايميريك (1774ـ1824).
على مستوى المضمون جاء الجدل المهم حول تجريم اليهود بتحميلهم ذنب صلب المسيح، رغم أن الأسقف الأميركي جون فولي رئيس المجلس البابوي للعلاقات الاجتماعية ومستشار البابا يوحنا بولس الثاني لشؤون الاعلام قال : " لا توجد أي معاداة للسامية في الفيلم ولم أخرج بأي انطباع بأن الفيلم قد يثير مشاعر ضد اليهود,, لقد شاهدته من منطلق مسؤوليتي ومسؤولياتنا في آلام المسيح, أما بالنسبة لليهود فعلينا ألا ننسى أن المسيح والعذراء والرسل كانوا يهوداً. حسب قناعتي فإن الفيلم قد يثير مشاعر ضد الرومان, وعليه فإنه اذا كان لأحد أن يحتج فهم الرومان".
الحاخام اليهودي شلومو بنزري من شاس قال بشكل مفاجىء : " اليهود بالذات قتلوا يسوع حقاً "، ليواجه بحملة شعواء ضده، وذهب من هاجموا الحاخام على تصريحه هذا إلى القول أن الحاخام يلعب لصالح كارهي اسرائيل.
واستغربت كتابات في الغرب عدم تعليق الرئيس بوش - بإفتراض أنه مسيحي- مع أنه شاهد الفيلم، وتمنى البعض أن يدحض بوش ما أثير من معاداة الفيلم لليهود، لكن بوش ظل صامتا، وعزى البعض سبب الصمت إلى أن بوش يفضل حملته الانتخابية ووقوف اليهود معه، لهذا أثر ألا يقول كما قال البابا يوحنا بولس الثاني "هذا ما حصل للمسيح فعلاً "، الذي شاهد الفيلم في عرض خاص، وأعجب به، إلا أن الناطق الرسمي باسم الفاتيكان نفى ما جاء على لسان البابا، وقال بأنه اثارة صحفية.
الممثل الفرنسي ديو دونييه كان قد قال منذ أيام عندما تعرض لانتقادات من اليهود بسبب مسرحيته الأخيرة التي يشير فيها إلى الممارسات الإسرائيلية ضد الفلسطينيين: " مهما يكن من أمر، فإن الاعتراضات التي أثارتها المنظمات اليهودية في أميركا وفي العالم تكشف إلى أي مدى أصبحت مجموعة متطرفة صغيرة قادرة على مصادرة حرية التعبير وفرض آرائها بالقوة ".
ميل جيبسون مخرج الفيلم - الأسترالي الأصل - أثناء زيارة لإيطاليا مؤخرا دافع عن الفليم، ونفى أن يكون هو أو فيلمه معاديا لليهودية، وأنكر الاتهامات التي وجهها اليهود إليه بمعاداته للسامية، وقال : " إن معاداة السامية منافية تمامًا لمعتقداتي الشخصية كما أنها تنافي رسالة الفيلم ". وأكد جيبسون أن الفيلم يعبر عن اعتقاداته الكاثوليكية، وأنه تحرى فيه ما جاء في " الأناجيل الموثوقة ". وأشار إلى أن عددًا من القساوسة الكاثوليك ساعدوه أثناء تصويره للفيلم في إيطاليا.
بعيدا عن مضمون الفيلم، هل هو معاد لليهودية أم لا، وفي إطار المنظور الجمالي – لا غير – فإن الفيلم يفيض بطاقة هائلة من الألم والعذاب، وقد توفيت سيدة أميركية أثناء العروض الأولى في أحد دور العرض بالولايات المتحدة، واستغرق الألاف في نوبات البكاء، وصاح أحد المسيحيين : " أوقفوا الضرب أيها القتلة ".
هذا الألم الفائض، يطرح تساؤلا حول الهدف الذي أراد المخرج أن يعكسه، من وراء المشاهد المؤثرة، هل يمكن أن تكون فكرة الألم هدف في حد ذاتها، في زمن يغرق بالدماء والرعب، والإرهاب ؟ وهل إراد جيبسون أن يخاطبنا نحن الشرقيين أم أنه استهدف المشاهد الغربي فقط ؟
يبدو لي أن الفيلم في مشروعه الأساسي عمل جمالي فني أراد فيه جيبسون استعراض مهاراته الفنية عبر التنقلات الدقيقة في التصوير وحركة الشخوص والخلفيات الجميلة للطبيعة والمكان، والتي تعمل على قتل حدة العنف، بما يقول للمشاهد، أن الألم والعنف في الوجود قيمة في حد ذاتها، نستطيع من خلالها أن نخلق تآلفنا مع منظومة العالم، خاصة إذا ما كان هذا العالم يختزن جمالا مدهشا، تمنعنا المشاهدة المباشرة للأشياء، دون النظر لما وراءنا من استيعابه.
الجانب الثاني يكمن في تحدي التكنيك الروائي، فالعمل يشتغل على قصة مدركة للمشاهد، بتوقعات مألوفة، وهنا تكمن البراعة في كيفية جذب المشاهد وإلى آخر لحظة من الفيلم، فقد تعودنا على رؤية أفلام وقراءة روايات لا ندرك نهاياتها، ولا نعرف ما هي الخطوة التالية التي سيصعد إليها النص. في " آلام المسيح " يختلف الأمر كلية، بأن يكون التحدي قائما على استقطاب المستقبل لما هو مدرك كائن، وهو تقليد ينقل الرؤية الجمالية والإبداعية إلى محطة جديدة من القراءة تنفي مفهوم السائد بشأن اجتذاب المتلقي.
ويبدو الأمر كما في رواية " الشيخ والبحر" لأرنست همنغواي، التي تشتغل على فكرة مقاومة الإنسان للطبيعة، بنفس طويل جدا، لا يمنع المتلقي من الانسجام مع النص، مع إدراكه التام لفكرة النص، وما سينتهي له. بيد أن الاختلاف الجوهري بين العملين، في أن مغامرة همنغواي تقوم على السرد، فيما تقوم مغامرة جيبسون على الصورة. مقاومة همنغواي اتخذت من مفهوم بسيط هو نزوح الإنسان نحو تحقيق الهدف، بالجلد وتحمل المعاناة ضد الآلام التي تخلقها الطبيعة، ليحقق اسطورته الخاصة. أما مقاومة جيبسون فاتخذت من مفهوم نزوح الانسان نحو مقاومة الإنسان، أو بمعنى أكثر دقة مقاومة الإنسان للرب – الإله – وانتصاره عليه، وهذا يقود لنتيجة يمكن أن تفضح مفادات مغايرة لما قيل عن الفيلم، وما أثير حوله، لنكتشف أن فكرة الفيلم " نيتشوية " تقوم على معنى مباشر هو " موت الرب"، أو " نهاية الإله"، ليصور لنا المخرج مغزى يفيد بأن الفيلم لا يقول التاريخ، ولا يهدف لرواية تاريخية، تعودنا عليها، بل يعيد كتابة التاريخ استنادا على الحاضر، بالفكرة السائدة والمعروفة في الفن، أن يأخذ المؤلف التاريخ ويعيده انتاجه فنيا ليقول به ما يتقاطع مع الحاضر، اي أن نفهم الحاضر من خلال التاريخ.
وهنا تكون " آلام المسيح " معبرة عن المسيح في صورته الجديدة، في حاضرنا، وهو الإنسان الشرقي / العربي، والروماني / المفاوض في الفيلم هو يعطي دلالة الأميركي، الذي لا يريد للمسيح أن يصلب، لكن يريد تأديبه فقط بالجلد، وقد بدا ذلك واضحا في أحد المشاهد بالفليم، وضُرِب المسيح إلى درجة الاقتراب من الموت.
لكن الرسالة الثانية التي يبثها الفيلم، أن عهد الألهة قد انتهى، فقد صلب المسيح مجددا على شاشة السينما بعد قرون طويلة من الصلب الأول، ولن يكون الصلب الثاني، الذي ليس هو الأخير، مجرد صورة مكررة لما حدث، أنه يعني في هذه المرة، بداية لزمن جديد، يكون فيه الإنسان هو السائد والمسيطر على الأشياء في العالم، بديلا لمعتقدات الماضي - ولا ننسى أن الرب يتجسد في الإنسان في المسيحية - بمعنى أن الأرض سيرثها الإنسان بالدم والرعب، بعد أن قضى على الإله القديم مجددا، وهذا ما يحدث اليوم في واقعنا من سيادة عبر الحروب والدماء والمجاذر التي نشاهدها عبر شاشات التلفاز والسينما. هي بإختصار صورة الزمن الجديد، أن يكون المعادل الموضوعي للألم هو الانتصار، وللدم هو السيادة، وأن تكون الأرض للإنسان.....

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

راما رواية البليك تغوص في أسرار الخلود وتتجاوز قواعد السرد

  في طفولتها البعيدة وهي تلعب بين مزارع الفول والفاصوليا وتسبح أحياناً مع البنات في النهر ساعة الفيضان، لم تكن خالدة تتخيل شكل مستقبلها، توفى معظم من تعرفهم ويعرفونها، كانت تحب فصل الشتاء لأنه يسمح لها بالاختباء تحت غطاء اللحاف، لتحلم، كانت طفولتها وشبابها مليئة بالفوضى فهي بنت الجزار الذي في لمحة بصر ومحض الصدفة تحول ضمن الحرس لشخصي لوزير مهم، هي بنت المرأة الطيبة القادمة من رحم الرق والبؤس، جد كان شحاذاً وتفاصيل مربكة استمرت إلى أن وجدت راجا الهندي الطيب تاجر المجوهرات، تكتمل الفرحة بميلاد الطفلة راما، الاسم المقتبس من الخلود بقداسته وأسراره. حياتها الجديدة لم تنسها ماضيها حكايات الخالة الصحفية المناضلة عوضية، والعم الذي مات بمرض لم يمهله كثيراً وسفيان، الأخ المولع بالفن والغناء، كثيراً ما يسير الماضي كشريط سينمائي بمونتاج محكم متداخل الأزمنة. كثيراً ما كانت تشعر بوخزة في صدرها وأن هنالك ما هو مؤلم في مقتبل الأيام، يموت الأب في حادثة مفجعة وهي طالبة جامعية، بكته رغم أنه لم يعد ذلك الأب الطيب الذي كسر الأعراف والتقاليد وانتصر للحب منذ أصبح من الحاشية ومرافقاً للوزير في كل أسفاره. تش

المناورة والطريق الأفضل.. إلى حمدوك مرة أخرى

لقد أهتم العلماء في فترة التنوير الأوروبي بالطبيعة، والأحياء، كيف تشكلت في الماضي. في سبيل السيطرة على المستقبل، لأن أدراك نسق التشكيل في التاريخ، يقود إلى التحكم في القادم.   قبل أن يأتي داروين الذي كسب شهرة كبيرة بنظرية التطور، جرب آخرون أغفلهم التاريخ هذا النمط من التفكير، ومنهم جان باتيست لامارك، الذي يعتبر أول من استخدم مصطلح البيولوجيا بالمعنى الحديث. وكان تقريبا أول من صاغ نظرية شبه متكاملة في التطور الإحيائي. استهل بذكر لاما رك، للاستشهاد بمقولته: "هل نتحرك أفضل حين تتقطع بنا السبل ولا نجد مخرجا.. عندما يتغير كل شيء؟" الفكرة تقوم على أن الكائنات في محيطها الطبيعي، دائما ما تلجأ إلى الحل في ساعات الاستعصاء القصوى، عندما يتبدل كل شيء تماما. تصل ما يمكن الاصطلاح عليه بلحظة "التلاشي". هنا تناور بطريقة جديدة. تستخدم كافة السبل الممكنة التي لم تخطر من قبل، وتستطيع أن تحدث انقلابا في الطبيعة نفسها لصالحها. هذا الأمر ينطبق ليس على الحيوانات والأحياء في فطرتها. بل على المجتمعات، ففن المناورة في "المساحات الصغيرة" أو "الفرص المعتمة" يقود إل

عن رواية الامام الغجري للكاتب عماد البليك، بقلم: فخر الدين حسب الله

في روايته "الإمام الغجري" التى يمكن وصفها بالرواية الواقعية، حيث تتحرك في جغرافيا وتاريخ محددين (السودان، 1821_الى الان)، يسرد البليك في متعة متناهيه تفاصيل الكثير من الأحداث التاريخية في السودان الحديث في رحلة البحث عن سر الغموض الذي يلف غياب أحد الرموز الدينية، الطائفية، السياسية.. واسمه الإمام سفيان النصري (الغجري). تبدأ أحداث الرواية عن صحفي سودانى، يحاول أن يكشف القناع والأسرار حول غياب الامام الغجري قبل عدة عقود، ليجد نفسه أم ام ملف شائك، شديد التعقيد . الصحفي بعد أن أمسك ببعض الخيوط وقبل أن تكتمل، اغتيل قبل أن ينشر ما لديه، اصابع الاتهام تتجه الى السلطة الحاكمة، فالنظام يقبض علي حرية النشر، ويضيق على الحريات، ويمنع الحديث حول غياب الإمام. وللنظام سوابق في الاغتيالات والتعذيب، فقد اغتيل صحفيون من قبل. يلجأ آخرون ينتمون إلى مؤسسات الدولة الحديثه الي عملية تحضير الأرواح لمعرفة ماذا كان يريد أن يقول الصحفي.. تسير الرواية بأقوال روح الصحفي.. لتحكى الروح حقيقة ما جري مضافا إليها خواطره وآرائه . تكشف الرواية عن الحبل السري بين السياسي ورجل الدين وانع