التخطي إلى المحتوى الرئيسي

"البونابرتية المعصرنة".. وظلال "الاستشراق" .. هل قرأ أوباما أدوارد سعيد ؟

"قصتي الشخصية ليست فريدة إلى هذا الحد"
باراك أوباما في خطابه بالقاهرة


نقطة مبدئية:

هذا المقال مجتزأ من عدة أفكار، يمكن تطويرها لمشروع مفتوح... وبالتالي فإن كثيراً من مقولاته تبدو "جاهزة" وثمة فراغات لابد من ملئها بمزيد من البحث.. أتمنى أن أنجز ذلك..

(1)

في مايو 1998 وفي مناسبة للجالية العربية في شيكاجو التقى السيناتور باراك أوباما مع أدوارد سعيد، حيث جمعتهما طاولة العشاء (مرفق صورة).. هذا اللقاء أعيد اجتراره على أنه علامة صداقة طويلة بين أوباما والمفكر الفلسطيني – الأمريكي. في حين أن الأمر لا يتعدى مجرد تلك الساعة. والتي لا نعرف ما الذي دار فيها بالضبط!. وفي تلك الليلة تحدث سعيد عن حقوق الفلسطينيين، ولابد أن باراك شاركه بحديثه الجانبي بحضور ميشال زوجة الثاني ومريم زوجة الأول. ومن الصورة يبدو أوباما مستمعاً، في حين يتكلم صاحب "الاستشراق".
لم يتح لإدوارد سعيد أن يحضر اليوم الذي أصبح فيه أوباما رئيساً للولايات المتحدة، فقد توفي كما نعلم سنة 2003، وقطعا لم يحضر خطاب الرئيس الأخير في القاهرة. ولو حدث أن القدر غيّر جزءاً من تصاريفه وسمح لسعيد بالعيش إلى الآن، فماذا كان سعيد سيكتب عن أوباما؟ تحديدا عن خطابه للعالم الإسلامي من مصر؟
بالنسبة لي شخصيا فإن سعيد مهم جدا.. أعني أن قراءته مهمة جدا لرئيس مثل أوباما، وربما فعل هذا الشيء فعلياً.
لكن ما اعتقده من جانب آخر، أن أوباما ليس مشغولاً إلى حد كبير بالسياقات الفلسفية والنظرية للعالم، بقدر اقترابه من المثال السياسي. فن الحياة وفق قواعد أفرزتها ثقافة الولايات المتحدة عبر قرون من السعي الحثيث نحو إدراك معنى الإنسان. دوره في العالم. وجوده بالمعنى الوجودي البحت. خصوصا تلك القواعد المتعلقة بفن إدارة العلاقة مع الآخر والتعايش معه، بغض النظر عن النتائج أو الممارسات التي تمت خلال أكثر من عقد، من هيمنة الولايات المتحدة كقطب أحادي على العالم.
توفي سعيد، وثمة شائعة الآن تقول أن المثقف الفلسطيني رشيد خالدي صديق مقرب لأوباما. ورشيدي في عرف البعض وريث شرعي لمشوار سعيد الفكري، ومدافع مقبول عن القضية الفلسطينية، وقد ورث الرجل موقع سعيد في تدريس التاريخ العربي المعاصر في جامعة كولومبيا الأمريكية، أيضا ورث "الصداقة المتوهمة" بين أوباما وسعيد، وينسب له أنه قال عن أوباما: "كان زميلي في جامعة شيكاغو وجارًا لي وكذلك صديقًا لأسرتي". ولعل فعل "كان" هنا يخفف من وقع الأشياء، لاسيما أننا نعيش في عالم ينسى سريعاً!..



               لقاء سعيد وأوباما – مايو 1988 – شيكاجو. 
  
(2)

في كتاب "الاستشراق" الذي نشره سعيد قبل ثلاثين سنة – تقريبا – ثمة نقطة مفصلية ينطلق منها الكاتب للنظر إلى الموضوع برمته، وهي الحملة الفرنسية على مصر، عندما جاء نابليون بونابرت مبشراً بالثقافة والعلم.
ويشرح لنا سعيد بإسهاب الجذور الفكرية لعقل بونابرت، وكيف أن الرجل نتاج ثقافة متعمقة وقراءات شكّلها تراث من كتابات المستشرقين. فقد كوّن بونابرت صورة ذهنية عن الشرق، قائمة على المعرفة قبل أن ينطلق إلى مهمة "الهيمنة". فهل ينطبق الحال نفسه على أوباما؟
هل أوباما "بونابرت جديد" يؤمن بالمعرفة قبل الهيمنة؟!
أم أن مفردة "هيمنة" فيها شيء من التقليل من شأن الرجل ومهمته التصالحية في إبداع سلام في المنطقة؟!
بسياقات متشابكة في المقارنة، سنجد ثمة فرق واضح بين الرجلين، فبونابرت نتاج عقلية عالم ما زال مغلقاً رغم انفتاحه. نعم، كان العالم ما يزال غامضاً. وهذا الغموض مستمر. لكن العولمة والمساحات الافتراضية المفتوحة عبر شبكات الويب جعلت الدنيا الآن أقل سحراً من الأمس.
أيضا وبمقارنة بين زمن بونابرت والراهن فقد تحولت العلاقة بين الشرق والغرب إلى منفعية عالية البراغماتية، مغلفة بحرص على الآخر وطابع تسامحي في إطار شكلي.
ربما كان الجزء الأخير بالتحديد هو مفتتح خطاب أوباما في مصر، عندما أكد: " إن الفترة الزمنية التي نعيش فيها جميعا مع بعضنا البعض في هذا العالم هي فترة قصيرة والسؤال المطروح علينا هو هل سنركز اهتمامنا خلال هذه الفترة الزمنية على الأمور التي تفرق بيننا أم سنلتزم بجهود مستديمة للوصول إلى موقف مشترك وتركيز اهتمامنا على المستقبل الذي نسعى إليه من أجل أبنائنا واحترام كرامة جميع البشر". والمحور الثاني: " توجيه اللوم للآخرين أسهل من أن ننظر إلى ما يدور في أعماقنا".
سياقان من فكر التداخل بين فكرة المنفعة مرهونة لفلسفة سياسية، كذلك قيم من وعي العالم تتأسس على سياق عاطفي، روحاني مشبع بالمعاني الإيمانية التي تدعو لها الديانات السماوية التي كان مولدها في المنطقة. وهي جزء من سياقات تخالف ما كان عليه عالم "بونابرت" حيث كان فكر التشارك غير قائم، وكانت النظرة إلى العالم أحادية كما يوضحها سعيد نظرة الأكبر إلى الأصغر، الأعلى إلى الدوني.
لكن ما يتشابه فيه العالمان "القديم والجديد"، هو: أن أفهم الآخر لكي أهيمن عليه، مع اختلاف الوسيلة أو الطريقة، حيث يلخص عصر بونابرت في "المعرفة كيد للهيمنة" ويلخص عصر أوباما في الهيمنة عبر"النظر إلى الأعماق بدلا عن إدامة النظر في الآخر". وبهذا يمكن فهم خطاب أوباما على أنه محاولة لفهم أمريكا أكثر من خلال تفكير بصوت مرتفع.

(3)

قد ولّدت العولمة والثقافة المفتوحة عبر نوافذ الويب وإلغاء مقولة كصراع الحضارات، أضف إلى ذلك ظلال سبتمبر 2001، كل ذلك أدى لمولد "إنسان جديد" كان تجسده في نموذج "أوباما".. ليس حتميا هو الصورة الأفضل والمثال للإنسان.. لكنه على الأقل يعكس أبرز تجليات ومفاتيح فهم ما الذي ينبغي عليه أن تكون صورة العالم الآن؟
ندرك أن العالم لا يخضع لتصورات أوباما الشخصية، لأن العالم نسيج معقد وبنى مركبة. لكنه حتما – أي العالم – يخضع لتصورات مفكرين أمثال سعيد!.. فسعيد مؤثر وحاضر في خطاب أوباما وحاضر في لحظات مفصلية ما يجري في العالم اليوم وفي مسار القضية الفلسطينية، سواء ورثه خالدي أم لا.
لا يمتلكني شك أن أوباما قرأ سعيد، وهو أمر لو حدث وزال شكي يكشف عن حالة راقية من الـ "بونابرتية المعصرنة" التي تقودنا إلى وميض من الأمل بسلام قادم... لكن قبل ذلك ينبغي على أطراف أخرى أن تقرأ سعيد وأوباما معاً..

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

راما رواية البليك تغوص في أسرار الخلود وتتجاوز قواعد السرد

  في طفولتها البعيدة وهي تلعب بين مزارع الفول والفاصوليا وتسبح أحياناً مع البنات في النهر ساعة الفيضان، لم تكن خالدة تتخيل شكل مستقبلها، توفى معظم من تعرفهم ويعرفونها، كانت تحب فصل الشتاء لأنه يسمح لها بالاختباء تحت غطاء اللحاف، لتحلم، كانت طفولتها وشبابها مليئة بالفوضى فهي بنت الجزار الذي في لمحة بصر ومحض الصدفة تحول ضمن الحرس لشخصي لوزير مهم، هي بنت المرأة الطيبة القادمة من رحم الرق والبؤس، جد كان شحاذاً وتفاصيل مربكة استمرت إلى أن وجدت راجا الهندي الطيب تاجر المجوهرات، تكتمل الفرحة بميلاد الطفلة راما، الاسم المقتبس من الخلود بقداسته وأسراره. حياتها الجديدة لم تنسها ماضيها حكايات الخالة الصحفية المناضلة عوضية، والعم الذي مات بمرض لم يمهله كثيراً وسفيان، الأخ المولع بالفن والغناء، كثيراً ما يسير الماضي كشريط سينمائي بمونتاج محكم متداخل الأزمنة. كثيراً ما كانت تشعر بوخزة في صدرها وأن هنالك ما هو مؤلم في مقتبل الأيام، يموت الأب في حادثة مفجعة وهي طالبة جامعية، بكته رغم أنه لم يعد ذلك الأب الطيب الذي كسر الأعراف والتقاليد وانتصر للحب منذ أصبح من الحاشية ومرافقاً للوزير في كل أسفاره. تش

المناورة والطريق الأفضل.. إلى حمدوك مرة أخرى

لقد أهتم العلماء في فترة التنوير الأوروبي بالطبيعة، والأحياء، كيف تشكلت في الماضي. في سبيل السيطرة على المستقبل، لأن أدراك نسق التشكيل في التاريخ، يقود إلى التحكم في القادم.   قبل أن يأتي داروين الذي كسب شهرة كبيرة بنظرية التطور، جرب آخرون أغفلهم التاريخ هذا النمط من التفكير، ومنهم جان باتيست لامارك، الذي يعتبر أول من استخدم مصطلح البيولوجيا بالمعنى الحديث. وكان تقريبا أول من صاغ نظرية شبه متكاملة في التطور الإحيائي. استهل بذكر لاما رك، للاستشهاد بمقولته: "هل نتحرك أفضل حين تتقطع بنا السبل ولا نجد مخرجا.. عندما يتغير كل شيء؟" الفكرة تقوم على أن الكائنات في محيطها الطبيعي، دائما ما تلجأ إلى الحل في ساعات الاستعصاء القصوى، عندما يتبدل كل شيء تماما. تصل ما يمكن الاصطلاح عليه بلحظة "التلاشي". هنا تناور بطريقة جديدة. تستخدم كافة السبل الممكنة التي لم تخطر من قبل، وتستطيع أن تحدث انقلابا في الطبيعة نفسها لصالحها. هذا الأمر ينطبق ليس على الحيوانات والأحياء في فطرتها. بل على المجتمعات، ففن المناورة في "المساحات الصغيرة" أو "الفرص المعتمة" يقود إل

عن رواية الامام الغجري للكاتب عماد البليك، بقلم: فخر الدين حسب الله

في روايته "الإمام الغجري" التى يمكن وصفها بالرواية الواقعية، حيث تتحرك في جغرافيا وتاريخ محددين (السودان، 1821_الى الان)، يسرد البليك في متعة متناهيه تفاصيل الكثير من الأحداث التاريخية في السودان الحديث في رحلة البحث عن سر الغموض الذي يلف غياب أحد الرموز الدينية، الطائفية، السياسية.. واسمه الإمام سفيان النصري (الغجري). تبدأ أحداث الرواية عن صحفي سودانى، يحاول أن يكشف القناع والأسرار حول غياب الامام الغجري قبل عدة عقود، ليجد نفسه أم ام ملف شائك، شديد التعقيد . الصحفي بعد أن أمسك ببعض الخيوط وقبل أن تكتمل، اغتيل قبل أن ينشر ما لديه، اصابع الاتهام تتجه الى السلطة الحاكمة، فالنظام يقبض علي حرية النشر، ويضيق على الحريات، ويمنع الحديث حول غياب الإمام. وللنظام سوابق في الاغتيالات والتعذيب، فقد اغتيل صحفيون من قبل. يلجأ آخرون ينتمون إلى مؤسسات الدولة الحديثه الي عملية تحضير الأرواح لمعرفة ماذا كان يريد أن يقول الصحفي.. تسير الرواية بأقوال روح الصحفي.. لتحكى الروح حقيقة ما جري مضافا إليها خواطره وآرائه . تكشف الرواية عن الحبل السري بين السياسي ورجل الدين وانع