إن الأنظمة الشمولية
هي رؤية أحادية ذات نفعية عالية ومصالح آنية بحتة، ورغم استنادها على فلسفة إنسانية،
إلا أنها فلسفة أخفقت قراءة الكائن البشري في كافة أبعاده من حيث حقوقه وواجباته كفرد
وكعضو في المجتمع، وبالتالي لا نتوقع من مثل هذه الأنظمة أن تقدم لنا أي تصور أو ممارسة
عقلانية فيما يتعلق بحقوق الإنسان.
فلن نتوقع إذن من
الشمولية سوى تكريس الاستبداد في المجتمعات التي حكمتها من ناحية اصطلاحية وإطار مفهومي
فإن الشمولية تطلق على الأنظمة ذات المركزية العالية في التسلط على كافة أوجه الحياة
الإنسانية، من سياسة لاجتماع، لاقتصاد إلى فكر الخ..
وهو ما يعني أن ثمة
مصدر وحيد للتشريع ومركزية في السلطان وتشديد في الرقابة على المجتمع ككل، الأمر الذي
يحول الإنسان إلى كائن معطل الفكر من ناحية نظرية، بيد أنه من ناحية منطقية وعملية
فإنه من غير الممكن أن تصادر حرية الآخرين، فالإنسان سوف يفكر ويعمل في العلن أو السر
وسوف يواجه كافة الظروف والتحديات حتى يصل إلى هدفه وحتى ينال حقوقه المهضومة. لهذا
تفشل أي سلطة تحاول أن تعمل بناء على منهج المركزة المصادرة للحريات الأساسية والطبيعية.
ويرى الباحثون أن
الشمولية أكثر تعسفاً من الديكتاتورية، لأن الأولى تعمل وفق سياق فلسفي وفكري تحشد
له طاقة المثقفين بشتى السبل لأجل دعمها وانجاز مشروعها، وهو ما فعلته الدولة السوفيتية
في عهد ستالين وما فعله هتلر في ألمانيا وموسوليني في إيطاليا.
أما الديكتاتورية
فهي سلطة فردية بحتة، قد تعمل في لحظة ما على دعم خطابها فلسفياً وفكرياً لكنها تظل
أضعف من ناحية البناء النظري الداعم لوجودها.
وكلاهما الشمولية
والديكتاتورية يوظفان كافة الوسائل المتاحة من أجهزة إعلام وتقنيات في سبل نشر خطابهما
وتأثيرهما على الجماهير، ويمارسان القمع ضد كل من يقف في طريقهما.
وكلاهما يعتمد على
ما يسمى بالصفة الكاريزمية للقائد والتي هي مجرد إطار توهيمي يحاول إقناع الجماهير
بأن هذا القائد هو البطل المخلص وحامل الآمال وهو الذي سوف تنتقل به إرادة الشعب إلى
ما تريده بالضبط.
وبشكل عام فإن الأنظمة
الشمولية قديماً وحديثاً تمارس نوعاً من الكذب والتمويه فهي تدعيّ في خطابها السياسي
أنها جاءت من أجل الحرية الجماعية، حيث تقوم معظم هذه الأنظمة على مبدأ يقول بأن حرية
الجماعة أسمى من حرية الفرد.
لكن لا وجود سواء
لحرية فردية أو جماعية، لأن الممارسة نفعية بحتة حتى لو تم دعمها بما يسمى "أيدلوجية
النظام"، وهي نوع من محاولة إنتاج سياق عقلاني يبرر وجود السلطة، التي تتحول في
النهاية إلى ما يشبه "الإله" في علاقتها بنفسها كما في نموذج فرعون في القرآن
الكريم، وفي النماذج الحديثة عندما يغتر الحاكم بنفسه مع دعم الدهماء له من المنافقين
والذين لا يرون في مجمل المشهد سوى منافعهم الشخصية وإشباع غرائزهم المتعلقة بالبقاء
بأي شكل كان والهيمنة وتراكم الثروة وتمديد المنافع من الممتلكات العامة بأية وسيلة
كانت.
إن الأنظمة الشمولية
في خلاصتها وبغض النظر عن زمانها ومكانها فهي ضد حرية الإنسان وحقوقه، وهي "ممارسة
غارقة في الأنانية والظلم والانتهاك لحقوق الإنسان، يكون ضحيتها الإنسان بمحاولة
"توثينه" وجعله عبداً للحاكم، ومهما أدعت الشمولية أنها ضد الطبقية فهي ضد
ذلك، لأنها تقوم على فكرة الحزب الواحد الذي ينظر لمجموع الشعب على أنه رعاع، ولأنها
تستأثر بالسلطات وتمارس "أوليغاركية" عالية البراغماتية مستندة على قيادة
مركزية لا تسمع لأي رأي سواها.
والغريب في الأمر
أن كثيراً من الأنظمة الشمولية تنادي بهدف تسميه "الإنسان الجديد" وهو هدف
شكلاني لأن الواقع يفرز محو فكرة الحق الإنساني حيث تمارس الدولة تدخلاً في تفاصيل
حياة الإنسان بدرجة عالية جداً وهو ما يلغي ذاتية الفرد ويحوله إلى رقم ضمن مجموع يشبه
"القطيع" إلا تلك الدائرة المهيمنة.
لكن هذا لا يستمر
في ظل وجود معارضة إنسانية ورغبة دائمة في إحقاق الحق لهذا انهار المشروع السوفيتي
وتشرذمت الدولة الكبيرة إلى مجموعة دوليات بعد أن أثبتت الممارسة أن فطرة الإنسان أقوى
من كل هيمنة بشرية آنية.
بتحليل النظام الشمولي
والتوصل إلى نتيجة أنه ضد الحق الإنساني بشكل مطلق، يمكننا الدخول في تحليل النظام
الليبرالي الذي ينظر إليه في الفلسفات الإنسانية على المضاد أو الصورة المعاكسة تماماً
للشمولية ويرى فيه الكثيرون أنه خلاص الكائن البشري، وهي نظرة تقوم على رؤية تحصر ذاتها
في الآن دون النظر إلى الأفق المستقبلي البعيد.
وقد دعمت هذه النظرة
نظريات لمفكرين حاولوا أن يقولوا بأن الليبرالية والرأسمالية كإحدى تجلياتها هي آخر
ما توصل إليه العقل البشري، لدرجة أن قال البعض بنهاية التاريخ وإغلاقه على هذه المرحلة،
وسرعان ما انهارت هذه النظرية وأثبتت فشلها لأن التاريخ لا يمكن إغلاقه كما أن التجارب
الإنسانية لا يمكن أن تتوقف أو تصادر في إطار تاريخي معين. وهذا النوع من التوهيم ظل
موجوداً في كافة الحقب التاريخية وليس قصراً على العصر الذي نعيش فيه.
بالنسبة لليبرالية Liberalism كمصطلح فثمة أكثر من مدلول فلسفي وتشريح،
بيد أنه يمكن جمع هذه المداليل في فكرة "الحريات" فالليبرالية بإيجاز هي
فكر ينادي بالحرية المطلقة في كل ميادين الحياة من السياسية للاقتصاد إلى الاجتماع
وغيرهم.. وتقوم الليبرالية على فكرة الاستقلالية للفرد مع الالتزام بالعقد الاجتماعي
الذي ينظم الجميع داخل قانون الدولة.
ومن ناحية شكلية
يبدو هذا التنظير جميلاً وزاهياً بيد أن إشكال فكرة الحرية في الغرب يكمن في كونها
غير مضبوطة فكرياً حيث تعدد رؤاها والأقوال بشأنها. أيضا ليس ثمة مصدرية واضحة عن فكرة
الحرية والحقوق في الثقافة الغربية بشكل عام وينطبق ذلك على الفكر الليبرالي الغربي.
والأمر الأخير أن
الممارسة أوضحت أن الليبرالية تحمل الكثير من الإخفاقات في تقديرها للحق الإنساني،
فهي بالنظر إلى ما هو حاصل الآن قد أفزرت مجتمعات عززت من أنانية الفرد والتفكير في
المطلق في سلطة المال على أي سلطة أخرى. حيث تحول الإنسان إلى "رقم مادي"
يقيّم على أساسه. بل صارت السلطة والمشورة والحرية لا تقوم مقامها لأي إنسان إلا بهذه
الفكرة المادية البحتة.
بعيداً عن كم هائل من الفلسفات
والسياقات التاريخية التي أنتجت الليبرالية، فإن الليبرالية تقوم على مبادئ أساسية
يمكن إيجازها في الحرية والعلمانية والعقلانية، وهي مبادئ أنتجها عصر التنوير الأوروبي
كردة فعل واضحة لما كان سائداً في العصور البابوية.
فالعلمانية تعني فصل الدين
عن الدولة كمبدأ سياسي وكممارسة في كافة مناحي الحياة. وقد تأسس هذا المبدأ بعد أن
وصل الغرب إلى مرحلة بدأ فيها الدين ممثلاً في المسيحية غير صالح لإدارة دفة الحياة،
وارتبط ذلك بالطبع بالممارسة التي كان رجال الدين يسيرون بها الواقع، والتي كانت واضحة
التسلط والهيمنة وصادرت أبسط حقوق الإنسان في إرادته وحريته.
أما العقلانية وفق تصور
الغرب، فهي استبعاد للوحي وأي مصدر آخر للمعرفة سوى العقل البشري. وهي أيضا نتاج ردة
الفعل على العصر البابوي.
وترى الليبرالية أن هذه
المبادئ الثلاثة هي التي بإمكانها أن تسوق الإنسان إلى ما يمكن الاصطلاح عليه بالعصر
الإنساني الذي سيتحرر فيه الإنسان من أي سلطة سوى سلطة ذاته، بحيث يعيش في رفاهية عالية،
ويتناغم مع وجوده في العالم ويحقق سعادته.
وقد أثبتت الممارسة أن
الغربي أن هذه المبادئ ليست قائمة بالمعنى الحقيقي، فالحرية في الغرب ما زالت محل اختبار
وسؤال، والعقلانية مشكوك فيها في ظل مراجعة ما يمارسه الغرب ضد الشعوب الأخرى وما يقوده
من حروب عشوائية، كما أن الغرب بدأ يعيد التفكير بشكل جدي في الدين ودوره في الحياة
الإنسانية وأن ثمة مصادر للمعرفة أقوى من العقل، ويتجلى ذلك في تيارات جديدة تحاول
رد الاعتبار للفكر المسيحي بشكل أكثر حداثة في مقابل من تمسكوا بالمبادئ المسيحية القحة
في شكل يشبه ما كانت عليه البابوية.
وبالنسبة للإنسانية فلنا
أن نراجع ما يسود في العالم من صراعات وظلم وعنف وانتهاك لحقوق الإنسان يلعب الغرب
دوراً في تأجيجه بأشكال كثيرة.
ويشار إلى أنه ثمة تيار
فلسفي يرى أن هناك ليبرالية جديدة تقوم على النموذج الأمريكي الذي ترقى عن النموذج
الأوروبي، ويرى البعض أن هذا النموذج أكثر انفتاحاً على المستقبل من سابقه، لأن أوروبا
تحولت إلى ساحة للعنصرية والتمسك بالأمس في حين انفتحت أمريكا على المجتمع الإنساني
وبغض النظر عن الممارسات الأمريكية الآنية في العالم، فثمة تيار جديد بالولايات المتحدة
بدأ مع الرئيس الجديد باراك أوباما يركز على رد الاعتبار لمفهوم الإنسانية في الليبرالية
الغربية.
والليبرالية في تصورها
الفكري الذي تعقد من حيث الرؤى حوله والممارسات هي سياق حياة كامل، من حيث النظر إلى
مفهوم الإنسان، دوره، ماهية الدولة، دورها، نظام حكم الشعب الخ.. لكن ستظل إشكالات
الليبرالية قائمة وعجزها مستمر حتى لو حققت نجاحات ماثلة على المستوى السياسي والمعرفي
الشكلاني والتقني، لأن جذورها الثقافية تفتقد للأساس الراسخ في رؤية كونية شاملة للإنسان
ودوره في العالم.
وهي على أية حال مرحلة
من مراحل التطور البشري، كشفت أن بإمكان الإنسان أن ينتقل خطوة نحو إحقاق الحق، بيد
أن المسافة الفاصلة لا تزال كبيرة وتحتاج إلى المزيد من الجهود الإنسانية الكونية.
كشف تشريح الشمولية
الذي قدمنا له سابقا على أنها حالة باطلة بكل المقاييس، أما الليبرالية فهي محل نظر
بيد أنها تعاني ما تعاني.
وفي دارسة
للباحث محمد عثمان الخشت يرى أن الليبرالية رغم محاولات التطوير الجديدة لها إلا أنها
في خلاصتها المطلقة تقضي على الفرد تماما كما فعلت الشمولية وتفعل، بحيث يتحول الفرد
إلى ما يشبه الآلة خاصة في ظل الترف العالي في الاتجاه نحو "ميكنة" الحياة
الإنسانية وسيادة مفاهيم سالبة عن ثقافة العمل وكأنه دين الإنسان الجديد وهو ما أدى
لانتشار ثقافة السوق والاستهلاك وحب الثروة ونزعة الملكية الفردية المطلقة وأفرز فكر
يؤمن بأن القوة والسلطة هي رديف الرقم المادي الصرف.
وإزاء مراجعة الليبرالية
لنفسها تولد ما يعرف بـ "الطريق الثالث" وهو مفهوم ليبرالي يحاول التوفيق
بين الليبرالية المطلقة والمقيدة، وإيجاد علاقة توازنية بين الحكومة مصدر السلطات والشعب
عبر مؤسسات المجتمع المدني.
لكن هذه التجربة
ما زالت في طور الاختبار، ويمكن الحكم عليها بأنها سوف تقود في لحظة ما إلى نفي الدولة
وسيادة فردية محكمة، وهو ما بدأت بوادره حيث تحولت مؤسسات الحكم إلى الفردية بغض النظر
عن منظورها الخارجي القائم على شكلانية تقول بالروح الجماعية المتقاطعة مع إرادة الشعب،
وتحول المجتمع المدني إلى طبقية نخبوية تتكون من زمرة مثقفين يعملون على بنى فوقية
في الرؤى والقرار وتعريف المجتمع وحاجاته، في حين اندغمت غالبية الجماهير من عوام الناس
في تصريف شؤون المعاش اليومي واجترار الروتين واللهث وراء الرقم المادي، وهو أمر يحول
أهداف مطروحة كلافتات في الليبرالية كالإبداع والابتكار والتنمية الخلاقة إلى مجرد
لافتات شكلية، فلأي شيء يبدع الإنسان وينمي ويطور إذا كان لا يعثر على حقه، ولا يجد
ما يعنيه بشكل كافي.
فالملاحظ بشكل واضح
أن أنظمة الشركات الحديثة التي يسيطر عليها الرأسماليون الجدد ما هي إلا إعادة إنتاج
لفكرة الإقطاع في القرون الوسطى ولكن بشكل جديد.
فما يناله العامل
والموظف والمبتكر الحقيقي لا يكاد يوازي أبسط حقوقه وعرقه. في حين ينجني الأرباح الطائلة
أرباب العمل الذين تتراكم ثرواتهم بشكل مريع. والخلاصة أن الرأسمالية كصورة ليبرالية
ومثل سامي داخلها، ما هي إلا وجه مقلوب لذات عملة الدعاوى الاشتراكية.
وأخيرا فإن
التجارب الإنسانية كفيلة بأن تثبت الأجدر بالبقاء.. وفكرة الأجدر هنا لا تعني أنه
صالح في محيط اللحظة وإنما في حيز إمكانياته وقدراته على التطوير والتناغم مع
المتغيرات الكونية التي باتت متسارعة ويصعب التحكم فيها بدرجة موثوقة.. وهو ما
يعيد المسألة إلى ضرورة المراجعات للأفكار التي تنظم العلاقات بين الشعوب والحكام
وبين الحكومات والمنظمات المدنية، وبمعنى أعمق من ذلك مراجعة دور الفرد في المجتمع
ومدى إمكانيته وقدرته على أن يكون ناجزا وفاعلا في بناء الحياة الجديدة والمستقرة
والفاعلة.
تعليقات