التخطي إلى المحتوى الرئيسي

سليم بركات ــ العالم وفق ما لا نريد أن نراه!

    نشأت علاقتي مع سليم بركات مؤخرا‚ أعني العلاقة مع كتاباته الروائية‚ فقد قرأت أشعاره مبكرا وأنا أتهجأ عالم مجلة الكرمل التي شكلت اضافة جادة للثقافة والفكر العربيين‚


    في البداية كان عالم سليم بركات مثل كنز مستعص أو مغارة أدخلها لأول مرة‚ أتوه داخلها وأخرج بسهولة لاكتشف أن رأسي احتشد بصور متداخلة وأضغاث أحلام‚ تتراكب مع مشاهد من حياتي‚ فأجد نفسي أتساءل: هل أنا الذي أحلم‚ أم انه سليم بركات؟

    خرجت من بين مدن الأكراد‚ ولغة الألوان وعالم النرد المتقلب الى مدينتي عند ضفاف النيل‚ ورأيت نساء سمينات يجلسن في سمر‚ هوايتهن الوحدة وإن تجمعن في شكل أطياف متناثرة‚ كأنهن جداتي‚ او نساء من عالم لم يولد بعد‚

    التمرين على قراءة روايات بركات‚ يبدأ بوعي الطريقة التي يكتب بها‚ وكما ذهب ابراهيم نصر الله فإن الشاعر الذي يكتب الرواية يُعطي رواية ذات عالم خاص‚ لا يشابه عالم الروائي الذي يكتب رواية‚ وما يكتبه بركات بهذا المنظور هو رواية الشعر‚ وان كان هناك بعد آخر يستمد منه سليم عالمه وهو عالم الابداع التراثي العربي في كتابات أدمنا رفضها‚ وضمير الـ «أنا» هنا يعبر عن الإنسان المقموع‚ لا الذي يمتلك الحرية كمعول لحفر الأرض واخراج الكنز‚

    في البداية‚ مرة أخرى تتهجأ سليم بركات روائيا‚ ثم تتقيأ‚ أضغاث أحلام‚ ثم تتفاعل معه حتى تصبح عوالمه جزءا من متخيلاتك‚ وهنا تكمن قوة العمل الابداعي‚ النافذ من اللاوعي الى اللاوعي‚

    وبتقديري فإن بركات استطاع القبض على آلية هامة‚ لأول مرة في بناء الرواية العربية‚ وهي الخروج عن مخاطبة الوعي‚ الى مخاطبة اللاوعي في أذهاننا‚ ولم يكن ذلك لوعي لدى الكاتب‚ وإنما لحالة تراكم معرفي‚ كان نتاجه انتقال درجة التراكم الى حالة صفرية‚ تجعل من الفوضى نظاما رقميا دقيقا‚ عندما يكون اللامرئي‚ والمجرد جماليا‚

    ولدى كل منا عالمه الخاص القائم على الأرقام والألوان وتقاطعات الجنس وهوس البقاء في مقابل ذلك صورة مبكرة لفكرة العنف والقهر في الذات وباختلاط جملة هذه المشاهد في اللاوعي‚ كما في الأحلام‚ تولد رؤى جديدة تحاول استكشاف مناطق أخرى غير مألوفة في الوجود‚ ليكون بمقدرة كل كائن بناء كونه الخاص‚ بمخلوقاته الفضائية التي يبدعها «هو» بنفسه ولنفسه‚

    هذا التقديم الشارد نحو شرح المعنى‚ لا يشرح شيئا لكنه يضيء بؤرة مؤقتة في الذهن تقود لمسار متعرج‚ بإمكانه ان يكون متزنا‚ عندما يتلاقى مع خط الكاتب الابداعي‚

    وبعيدا عن مقولات التجريب‚ وما أدمنه العقل العربي من هستيريا المألوف فإن الذهن في حاجة ملحة لنوع من المخلخلات الطازجة التي لا تشم ولا تسمع ولا تفهم‚ بيد ان التماهي في اغوارها يكون ممكنا بمعادلات الفوضى في حياتنا‚

    وأنا أقرأ بركات‚ ظل سؤال واحد يهجس بي‚ عن مصدر الإلهام في مثل هذا النوع من الروايات‚ هل يكتب الكاتب بارادة ووعي ذاتي بالعالم أثناء الكتابة؟ أم ان الأمر يشبه مزج اللون بالسطح في اللوحة؟ كلا التفسيرين وللأسف مقعران‚ يعكسان صورة مصغرة للحقائق‚ اما التفسير الثالث فهو يشابه عالم جورج أوريل عندما تهتز اليد وتتحرك بفعل ما‚ لا يمكن تحديد موقعه‚ لتنهمر الكلمات من منابع مجهولة‚ بموازنة تامة لفكرة العربي عن وادي عبقر‚ وارتباط الشعر بالشعوذة والجنون‚

    تلخيص ــ ما يفعله سليم بركات‚ والفعل مصطلح مجازي هنا‚ يقود الى اعادة تركيب للذهن ليتخلص من قيد الحكاية والاسطورة في شكلها التقليدي‚ نعم‚ ليس ممكنا ان نعيش بلا أساطير‚ لكن الاسطورة الجديدة هي التي يقبلها عالم اللامفكر فيه‚ ليرفضها عالم التفكير‚ وهذا ربما كان مخرجا لإدماننا على حالة الوعي المزور‚ وتصالحنا مع الأشياء وفق ما نراه‚ لا ما نريد ان نراه‚

    إذا كان ولا بد ان نسير على ذات الانماط‚ فالأمر سهل ويسير‚ وستكون البلاغة العربية بكل ما تحمله من غثاء‚ خير مفتاح قديم لفتح الغرفة الذهنية‚ ما دامت الغرفة لم تغير مفتاحها منذ قرون‚ وهنا لا تهم هذه القرون‚ فالموضوع مهتم بقرن ونصف‚ هما خلاصة تجربتنا في عالم الرواية‚ التي نكرر انها فن غربي‚ ويحاول البعض جعلها فنا شرقيا «عربيا»‚ بالبحث عن جذور لها في أدب المقامات وفي مسودات الماضي‚ ليس مهما أين ينتهي البحث ولكن المهم جدا الى أين ستنتهي بنا التجربة؟
    كتب هذا المقال سنة 2004 

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

فصول من رواية "دماء في الخرطوم" الصادرة عن دار الفارابي

واحد   داخل المكتب المؤثث على طريقة عصرية، بديكور داخلي راقٍ، رنّ الهاتف النقال على الطاولة الخشبية لأكثر من مرة قبل أن يضغط عبد الحفيظ على الزِر ليردّ على المتحدث من الطرف الآخر.. لقد جرت العادة ألا يستقبل أي مكالمة من رقم مجهول بالنسبة له، لكن إصرار المتصل على تكرار المحاولة للدرجة التي استفزّت المجموعة الجالسة حول طاولة الاجتماع، جعلت عبد الحفيظ يردُّ أخيراً: - عفواً.. من يتحدث معي؟ قالها هكذا، دون أن يردَّ تحية المتصل. - معك اللواء طه عبد الرحمن مدير عام الشرطة. قبل أن يكمل، كان عبد الحفيظ قد نهض من على الكرسي الدوّار، وبحركة لا شعورية جرّ الكارفته تدريجياً إلى أسفل، قائلاً: - نعم سيدي.. تفضل، ما الأمر؟ ليس من عادة عبد الحفيظ أن يطيل المكالمات، لقد تعلم هذه العادة من سنوات عمله بالولايات المتحدة أثناء تدرّبه في إحدى الشركات هناك، بعد أن أكمل دراسته في الهندسة المدنية، قبل أن يعود إلى الخرطوم قبل شهر من الآن، لينشِئ شركة للمقاولات بإمكانيات مادية كبيرة. بدا له أن الضابط مرتبك وغير قادر على الإفصاح، ولثوانٍ ظلّ صامتاً، فيما كانت المجموعة الأجنبية الجالسة ح...

هل نضب الخيال؟

إشكاليات الذائقة الفنية والتلقي الجمالي عند العرب عماد البليك: منذ أن قدم الشاعر التونسي أبو القاسم الشابي أطروحته الجمالية حول "الخيال الشعري عند العرب" وخلص إلى أن الأدب العربي لا ينظر إلى المستقبل ولا ينفذ إلى صميم الأشياء وأنه "كلمة ساذجة" فإن الموقف لا يغادر موقعه، فالإشكاليات لاتزال قائمة إلى اليوم، والبحث عن تحرير الخيال لا يزال معطلا، كما أن الذائقة الفنية والجمالية تقاوم معوقات متجذرة يبدو الفكاك منها صعبا رغم الانفتاح الذي أتاحته الوسائط الحديثة للتلقي والمعرفة.  وإذا كانت مائة سنة تكاد تفصلنا، عن أطروحة الشابي، أي ما يقارب القرن، فالسؤال القائم ما السبب الذي عطّل مشروع الإنتاج والتلقي الجمالي عند العرب، ولماذا هم إلى اليوم يتعاملون مع العالم على أنه أقرب إلى المسطحات والثنائيات منه إلى شيء عميق له أبعاد متعددة وأوجه متنوعة، وهذا ينطبق على الممارسة الفنية كما ينجر بدرجة أوضح على استقبال الرسائل الجمالية أو الفنية، سواء أنتجت في محيط عربي أو عالمي. كانت فكرة أبوالقاسم الشابي تقوم على الخلاصة التالية: "قد انتهي بي البحث في الأدب...

راما رواية البليك تغوص في أسرار الخلود وتتجاوز قواعد السرد

  في طفولتها البعيدة وهي تلعب بين مزارع الفول والفاصوليا وتسبح أحياناً مع البنات في النهر ساعة الفيضان، لم تكن خالدة تتخيل شكل مستقبلها، توفى معظم من تعرفهم ويعرفونها، كانت تحب فصل الشتاء لأنه يسمح لها بالاختباء تحت غطاء اللحاف، لتحلم، كانت طفولتها وشبابها مليئة بالفوضى فهي بنت الجزار الذي في لمحة بصر ومحض الصدفة تحول ضمن الحرس لشخصي لوزير مهم، هي بنت المرأة الطيبة القادمة من رحم الرق والبؤس، جد كان شحاذاً وتفاصيل مربكة استمرت إلى أن وجدت راجا الهندي الطيب تاجر المجوهرات، تكتمل الفرحة بميلاد الطفلة راما، الاسم المقتبس من الخلود بقداسته وأسراره. حياتها الجديدة لم تنسها ماضيها حكايات الخالة الصحفية المناضلة عوضية، والعم الذي مات بمرض لم يمهله كثيراً وسفيان، الأخ المولع بالفن والغناء، كثيراً ما يسير الماضي كشريط سينمائي بمونتاج محكم متداخل الأزمنة. كثيراً ما كانت تشعر بوخزة في صدرها وأن هنالك ما هو مؤلم في مقتبل الأيام، يموت الأب في حادثة مفجعة وهي طالبة جامعية، بكته رغم أنه لم يعد ذلك الأب الطيب الذي كسر الأعراف والتقاليد وانتصر للحب منذ أصبح من الحاشية ومرافقاً للوزير في كل أسفاره....