التخطي إلى المحتوى الرئيسي

غسل جنابة وفكرة انتحار

يغتسل الرجل بعد أن يكون قد ضاجعها في منتصف الليل تماما. وقبل أن ينهض من مقعد الحمام، يعاين إلى الحائط المقابل متأملا الرسومات عليه. زخارف متداخلة، وأشكال غريبة يصعب فهم مغزاها. كان هو الذي رسمها ولونها. حدث ذلك قبل عام أو عامين. أو أكثر. هو لا يتذكر بالضبط. فذاكرته خربة. تتداخل فيها خيوط السنوات. قهرها. ألمها. جنونها. وذكرياتها المؤلمة. فالرجل مثله دائما كانت الحياة سفر الغرابة، والناس ملامح غامضة. هو واحد منهم. وهي واحدة منهم.

في واحدة من تلك الرسومات والأشكال الغريبة، يتخيل أن هناك وجه ما. وتقريبا هو وجهه هو. لكن كيف كان بإمكانه أن يتذكر وجهه. ولكي يتأكد ارتفع قليلا عن المقعد وراقب تفاصيل الوجه الذي لا يشبهه، وهو يردد كلمات الشاعر محمود درويش: "أأنت أنا".. لكن لا إجابة. "لا إجابات مطلقا على أسئلة كهذه"، قال لنفسه، تنفس بشهيق مرتفع. أنهى تغوط موجع، فقد كان الفلفل الأخضر قد قام بدوره في تأليمه، رغم أنها حذرته:

- حبيبي لا تأكل منه.

- لكنك تعرفين أن شهيتي مفقودة. ولا أعثر عليها إلا بـ ...

- إلا بمثل هذا الجحيم.. أعرف طبعا..

- هو على أية حال أحد خيارات الله في توجيعي.. ليس خياري مطلقا..

كان يقول العبارة الأخيرة وهو يدرك تماما أنها مستوحاة من تأملات الأيام الأخيرة.. إلى هذه اللحظة طبعا التي قال فيها ما قال. تأملات معبأة بحشد من العوالم الصوفية والأبدية. عوالم متداخلة يمكن للإنسان أن يدخلها فيرى نفسه لا يطيق الحياة، وفي الوقت نفسه يرى أن الحياة أمر ممتع. أمر لابد منه لكنه قاس. لكنه جميل.

كانت روحه تفيض تماما بهذه التناقضات والتنقل السريع بين الخيبة والأمل. دون أن يكون مهيأ للتمييز أين تكمن متعته وأين تعشعش خواطره البائسة تلك التي تسيطر عليه لبرهة عاجلة فتحوله إلى إنسان منفي عن ذاته، متعجل إلى الموت وهجرة العالم إلى عالم آخر. عالم ثان مجهول وغريب ولكن عليه أن يذهب إليه، فلربما كان فيه ملاذ أجمل من هنا.

صعب على الإنسان – مثله – أن يكتشف متى بدأت هذه اللعنة. الآفة التي تجعل الذات منشطرة إلى جزئين. ذات هي جزء من عالم البشر وعليها أن تتعايش معهم. وذات ثانية غريبة تراقب تلك الذات الأولى وتحاكمها بوصفها خارجها، وليست جزءا منها أبدا.

يسميها اللعنة بوصفها الداء الذي عطل انسجامه الرائع مع العالم، يوم كان ذلك الطفل وربما الصبي المتماهي مع أشياء العالم بما فيها البشر. وفي تلك السنوات من الطفولة البعيدة كانت بعض الأسئلة الصغيرة تطرأ على الذهن، لكنها حتما لم تكن تقلقه. لم تكن قد كبرت تلك الأسئلة لتشطره إلى نصفين، إلا بعد أن دخل العقد الثاني من عمره – تقريبا – عندما أصبح يعيش بإحساس لا يمكن لأحد غيره أن يتصوره. صورة ذلك الإنسان الذي يمشي على الأرض وكأنه طائر بجناحين. أو ذلك الطائر المربوط إلى الأرض مقيدا عن أية حركة. أو كأنه مسجون في قفص أحلام ضليل ليس بإمكانه أن يهرب منه أبدا. وبعض من تلك الأحلام هي عوالمه السرية التي كان يشيدها في المستقبل، بظن أنها سوف تكون. سوف تصبح. ولكن إلى اللحظة لا شيء. لا حدث كبير في حياته. هو إنسان أقل من عادي. إذا ما استطاع أن يحدد معنى لكلمة كهذه "العادي.. العادية..".

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

راما رواية البليك تغوص في أسرار الخلود وتتجاوز قواعد السرد

  في طفولتها البعيدة وهي تلعب بين مزارع الفول والفاصوليا وتسبح أحياناً مع البنات في النهر ساعة الفيضان، لم تكن خالدة تتخيل شكل مستقبلها، توفى معظم من تعرفهم ويعرفونها، كانت تحب فصل الشتاء لأنه يسمح لها بالاختباء تحت غطاء اللحاف، لتحلم، كانت طفولتها وشبابها مليئة بالفوضى فهي بنت الجزار الذي في لمحة بصر ومحض الصدفة تحول ضمن الحرس لشخصي لوزير مهم، هي بنت المرأة الطيبة القادمة من رحم الرق والبؤس، جد كان شحاذاً وتفاصيل مربكة استمرت إلى أن وجدت راجا الهندي الطيب تاجر المجوهرات، تكتمل الفرحة بميلاد الطفلة راما، الاسم المقتبس من الخلود بقداسته وأسراره. حياتها الجديدة لم تنسها ماضيها حكايات الخالة الصحفية المناضلة عوضية، والعم الذي مات بمرض لم يمهله كثيراً وسفيان، الأخ المولع بالفن والغناء، كثيراً ما يسير الماضي كشريط سينمائي بمونتاج محكم متداخل الأزمنة. كثيراً ما كانت تشعر بوخزة في صدرها وأن هنالك ما هو مؤلم في مقتبل الأيام، يموت الأب في حادثة مفجعة وهي طالبة جامعية، بكته رغم أنه لم يعد ذلك الأب الطيب الذي كسر الأعراف والتقاليد وانتصر للحب منذ أصبح من الحاشية ومرافقاً للوزير في كل أسفاره. تش

المناورة والطريق الأفضل.. إلى حمدوك مرة أخرى

لقد أهتم العلماء في فترة التنوير الأوروبي بالطبيعة، والأحياء، كيف تشكلت في الماضي. في سبيل السيطرة على المستقبل، لأن أدراك نسق التشكيل في التاريخ، يقود إلى التحكم في القادم.   قبل أن يأتي داروين الذي كسب شهرة كبيرة بنظرية التطور، جرب آخرون أغفلهم التاريخ هذا النمط من التفكير، ومنهم جان باتيست لامارك، الذي يعتبر أول من استخدم مصطلح البيولوجيا بالمعنى الحديث. وكان تقريبا أول من صاغ نظرية شبه متكاملة في التطور الإحيائي. استهل بذكر لاما رك، للاستشهاد بمقولته: "هل نتحرك أفضل حين تتقطع بنا السبل ولا نجد مخرجا.. عندما يتغير كل شيء؟" الفكرة تقوم على أن الكائنات في محيطها الطبيعي، دائما ما تلجأ إلى الحل في ساعات الاستعصاء القصوى، عندما يتبدل كل شيء تماما. تصل ما يمكن الاصطلاح عليه بلحظة "التلاشي". هنا تناور بطريقة جديدة. تستخدم كافة السبل الممكنة التي لم تخطر من قبل، وتستطيع أن تحدث انقلابا في الطبيعة نفسها لصالحها. هذا الأمر ينطبق ليس على الحيوانات والأحياء في فطرتها. بل على المجتمعات، ففن المناورة في "المساحات الصغيرة" أو "الفرص المعتمة" يقود إل

عن رواية الامام الغجري للكاتب عماد البليك، بقلم: فخر الدين حسب الله

في روايته "الإمام الغجري" التى يمكن وصفها بالرواية الواقعية، حيث تتحرك في جغرافيا وتاريخ محددين (السودان، 1821_الى الان)، يسرد البليك في متعة متناهيه تفاصيل الكثير من الأحداث التاريخية في السودان الحديث في رحلة البحث عن سر الغموض الذي يلف غياب أحد الرموز الدينية، الطائفية، السياسية.. واسمه الإمام سفيان النصري (الغجري). تبدأ أحداث الرواية عن صحفي سودانى، يحاول أن يكشف القناع والأسرار حول غياب الامام الغجري قبل عدة عقود، ليجد نفسه أم ام ملف شائك، شديد التعقيد . الصحفي بعد أن أمسك ببعض الخيوط وقبل أن تكتمل، اغتيل قبل أن ينشر ما لديه، اصابع الاتهام تتجه الى السلطة الحاكمة، فالنظام يقبض علي حرية النشر، ويضيق على الحريات، ويمنع الحديث حول غياب الإمام. وللنظام سوابق في الاغتيالات والتعذيب، فقد اغتيل صحفيون من قبل. يلجأ آخرون ينتمون إلى مؤسسات الدولة الحديثه الي عملية تحضير الأرواح لمعرفة ماذا كان يريد أن يقول الصحفي.. تسير الرواية بأقوال روح الصحفي.. لتحكى الروح حقيقة ما جري مضافا إليها خواطره وآرائه . تكشف الرواية عن الحبل السري بين السياسي ورجل الدين وانع