التخطي إلى المحتوى الرئيسي

أحد قصوري معروض للبيع أو "حصان طروادة".. فصل من رواية



نعم لدي قصور، ولكنني أتحدث اليوم عن واحد منها، هو كبير وفخم.. يحتل مساحة لا تقل عن أربعة آلاف مترا مربعا، ويقع بجوار الشارع وراء الرئيسي المؤدي إلى سوبا، جنوب الخرطوم. قصر بنيته في سنوات غربتي وشقائي.. استغرق مني تشييده عشر سنوات.. ولعلكم قد تتعجبون في كبر مساحته.. والحكاية هي.. ان الشيخ الفلسطيني الذي باع لي الأرض أهداني نصف المساحة التي اشتريتها.. والسبب في غاية البساطة انه قرأ أحد رواياتي فأعجبته وقال لي هذه مكافأة لك.. فالرجل مغرم بالقصص والروايات.. ويتمنى لو أنه كان كاتبا.. وفي سبيل ذلك ليس عنده مشكلة أن يهب أرض خلاء لكاتب. وهذا الرجل حكايته طويلة وصداقتي معه أمر معقد امتد لسنوات، ما بين السودان ودول المهجر التي تغربت فيها. لكنني التزاما بالأخوة والصداقة لن أحكي عنه اي شيء مطلقا. فقط اسجل شكري له من هنا.

أكتب لكم الآن من على الحديقة، أمامي جهاز لاتبوب ماركة توشيبا، وهو النوع المفضل للسودانيين.. وربما صفقة كبيرة كانت وراء اكتساح هذه التوشيبا للسودان.. وهذا الجهاز هو أيضا لحسن الصدف هدية، من سيدة يونانية كانت قد جاءت قبل سنوات إلى أمدرمان لإجراء دراسة عن شعر التيجاني يوسف بشير الذي يعتبره البعض رائد الشعرية الحديثة في السودان. والسيدة برغم ظروف اليونان الاقتصادية، وهي ظروف لم تمسها هي كما أخبرتني في رسالة بالبريد الكلاسيكي.. وليس الإلكتروني.. هذه العجوز المتفائلة والجميلة، والنشطة، أرسلت لي اللابتوب تكريما لمساعداتي لها في صياغة دراستها من خلال توفير معلومات بحثية ميدانية.. في الواقع فإن هذا الأمر تم بجهدنا معا..
لكي لا أهرب من موضوعي الأساسي.. يجب أن أوضح أن القصر المعروض للبيع رغم فخامته فهو غير مكتمل تماما.. وسأضع إحداثياته هنا لمن يرغب في رؤيته في خرائط جوجل..

استيقظ من أحلام اليقظة على صوت جارتنا صباح تناديني من وراء الحائط: "يا ولد يا مدثر.. قول لي أمك طهارة أولاد جبارة بكره".
أرد عليها أيضا من وراء الحائط، فهو عال جدا يفوق الاربعة أمتار.. لا أعرف سببا لعلوه:
"يا صباح أمي راحت عند رضينة تجيب منها الزلابية"
قالت لي: "ياولد أنت كضاب.. رضينة شبعت موت"
نعم فقد ماتت رضينة البائعة ذات الأصول الهوساوية منذ ثلاثين سنة.. كنت في العاشرة من عمري وقتذاك.. نسكن أنا وأبي وأمي.. أقصد اسكن مع والدي في بيتنا الصغير القائم المكون من غرفة واحدة فقط.. بحوش صغير جدا.. وهو جزء من بيت جدي لأمي.. جزء من طفولة ممتدة بالذكريات الحزينة والمبهجة أحيانا.. يصعب علي الآن استحضار أي شيء منها.. أي شيء له قيمة أو تأثير في اللحظة الراهنة من حياتي.. فأنا لا أؤمن بأن مستقبل الإنسان انعكاس لطفولته.. يصعب علي تصديق ذلك لأن طفولتي كانت في جهة وباقي حياتي في جهة أخرى مختلفة تماما.

أنا إنسان مغامر وجسور.. يمكنني تشبيه نفسي بحصان ضخم في ميدان عام، ويمكن لهذا الحصان ان يكون مسليا لبعض من البشر الذين يحبون المتعة الموقتة.. الضحك بتأمل أو معاينة أحصنة تزهو بخيلاء في عروض ميتافيزيقية كتلك التي يسمونها عروض التاتو.. حيث تعزف الموسيقى ويأتي صف من الرجال الزاهين بملابسهم العسكرية ذات اللون الكاكي.. وهم يعزفون بالآلات الموسيقية المنفوخة.. كأنهم يسيرون في موكب جنائزي ومن وراءهم يأتي صف من الكلاب نعم.. كلاب صغيرة بهية الطلة ومهذبة وجميلة جدا.. مربية على الدلع والوله ولها لياقات حمراء كالتي التي يربطها في أعناقهم صبية الفنادق الليلة من النوع الذي يتخنث كالأناث. ووراء الكلاب تأتي الأحصنة وهي تسير بزهو كأنها خلقت هذا الميدان.
أنا واحد من تلك الاحصنة لكني أسير منكسرا، مذلولا.. بائسا.. سقيما.. لست قادرا على مواجهة نفسي بخيبتي كحصان مكسور.. مجروح.. مفتقد للرعونة والبطش والقسوة.. تلك المواهب التي تمكن المرء من العيش رغم أنف الزمن في البلد الذي انتمي إليه.. والذي هجرته منذ خمس عشرة سنة بحيث أن علاقتي معه باتت الآن كعلاقة بمكان افتراضي لم يعد له وجود في أي مكان سوى خواطري، أو في هذا الفسحة التي يسمونها "السايبر"..  حتى أن الأشخاص الذي ينتمون لجلدتي واقيم معهم علاقات "افتراضية" تظل هي افتراضية وكأنهم غير موجودين في واقع الأمر.. هم مجرد كائنات تشبه الظلال والأشباح التي تعشق التجول في الليالي المحاطة بسحب كثيفة تحجب ضوء القمر تحت اشجار النخيل والنيم والمسكيت.. تلك التي تركتها ورائي هناك في صحارى العتامير..

درست هندسة العمارة بجامعة الخرطوم وأعمل في الصحافة.. معادلة يصعب على الكثيرين ممن التقيت بهم تفسيرها.. أنا نفسي أقف عاجزا أمامها كثيرا.. مثلما أعجز عن تفسير سبب تغربي وسبب وحشتي في هذا العالم وانكساراتي وأوجاعي وأناتي.. وسبب انتسابي لبلد لم يعد مفخرة يحكمه رئيس أرعن وحثالة من الغوغائيين من ذوي النفوس المركبة على الشر والضغائن وأكل السحت.. أما السؤال الذي يظل يحيرني هو قدرة المكان "الافتراضي" الذي ولدت فيه أو جئت منه على  الاستمرار والمقاومة رغم كل التصدعات والقيح والصديد الذي يخرج أطنانا كل دقيقة من نوافير حية.. بحيث صار .. يمكن لهذا البلد أن يصدر منه لكل دول الدنيا.. ويعجن بعض من الصديد ويصنع منه كسرة وخبر وزلابية كالتي كانت تصنعها حاجة رضينة..
أتذكرها الآن.. ولا أعرف سببا لذلك.. فهي جزء من حنيني واشتياقي لمدن العتامير التي يتجول فيها كل من هب ودب الآن في سبيل الاشتياق لشيء ضائع، حلم بالثروة المستعجلة.. في أودية يقال أنها مسكونة بالجن الذي يحرس التبر.. هذه اللعنة التي خرجت فجأة من باطن الأرض لتشغل الناس بما فيهم الحكومة.. ومن سينشغل بذلك أن لم يكن هي.. 
هذا الجن الذي كان سببا في التفريق بين المرء وأخيه.. أعرف كم الأخوة فقدوا أخوانهم في تلك الأودية بسبب الموت بالأفاعي أو الموت المباشر بأن يقتل أحدهم الآخر أو يرديه برصاصة موجهة إلى صدره. أو يسوقه إلى مكان قصي بين جبلين شامخين ويقص رقبته قصا بسكين.
إنها اللعنة التي تسكن الآن ذلك المكان الذي ولدت فيه وجئت منه قبل أربعين سنة..

أتذكر رضينة وسطوتها وقوتها وقدرتها على مقاومة كافة مصائب الزمن وأنواع الشرور التي يبتلي بها الناس بعضهم بعضا. كانت أمي ترسلني أو نذهب معا لإحضار الزلابية مع أول قسمات الصباح الباكر في المدينة الصغيرة المطلة على النيل، الذي يقع بيت جدي بالقرب منه، لا يفصله عنه سوى مساحة خضراء يسمونها بالجزيرة.. ووراءها يوجد البانطون، المعدية التي تحمل الناس شرق وغرب النهر. وإذا كانت رضينة تكون في بيتها صباحا ففي العصر وأول المساء تكون هناك بجوار البانطون حيث تبيع الشاي بالحليب "اللبن" مع الزلابية لعابري النهر. كان لها زبائن كثر.. والبعض كان يعبر النهر من الغرب إلى الشرق ليس لهدف سوى شاي رضينة.. أو تأمل وجهها الصبوح ومشيتها المتكاسلة التي تبدو معها كما لو أنها جنيفر لوبيز بسمرتها المنعشة للأرواح.
كانت تلك الهوساوية التي لايعرف لها أب ولا أم ولا أهل مصدرا للإلهام والجذب والسعادة المؤقتة لمن أراد أن يسلي نفسه عن رهق الأيام المتقاعسة عن توليد الجديد. فما أن تفرغ من مشاوير العصاري وتعود إلى بيتها مساء حتى تبدأ رحلة الليل، كنت أرى الرجال يدخلون ويخرجون من عند باب بيتها القصير القامة.. المصنوع من الدوم.. لا أحد يطرق الباب أو يستأذن.. فقط يحنون ظهورهم ويدخلون يقفون صفوفا.. وكم تلصصت لأسمع أنات الجماع والوصال، لتلك المرأة التي لا أنكر أنها كانت مصدرا ملهما لي في تفريغ الشحنات الزائدة في مراهقتي الأول. ساعة أراها تعبر الزقاق الصغير المعطر برائحة البخور والصندل.. لأهرع إلى الحمام وأعيد صورتها محاولا تركيبها من جديد في مخيلتي لأختلي بها وأهدي من روعي وأتنفس بهدوء في النهاية ثم أسرع إلى أحد دفاتري الصغيرة لكتابة الشعر.

عندما قالت لي جارتنا صباح إن رضينة شبعت موتا.. كانت صادقة.. وخلت في البداية أنها تكذب.. لأنه لاتوجد فتاة واحدة في حلتنا كانت تتمنى أن ترى رضينة على وجه الحياة.. قد يكون التعميم مخلا.. لكنه يعطي صورة تقريبية عن واقع ما كان يحدث.. وصباح مثلها من فتيات كثيرات ونساء عازبات ومطلقات ومتزوجات كانت تغار من رضينة.. لأنها كما يهمسن النساء غير مختونة، بخلاف نساء الحي.. "وهذا يمتع الرجال" كما سمعت أمي تخبر صباح ذات مرة.. وما أن سمعت طرف الحديث حتى هرعن لغيره وأمرتني أمي بأن أسرع لإغلاق الماء عن الصنوبر وجمع خرطوم المياه وإعادته إلى المخزن، بعد أن أكون قد تأكدت من ارتواء الجنينة، وهي حديقة صغيرة خلف البيت الكبير لجدي. كانت أمي تزرع فيها الطماطم والملوخية والجرجير والبطيخ، بقدرات مذهلة لاتملكها امرأة اليوم في المدينة، والجنائن المنزلية لم تعد موجودة اليوم، لنحكم على الأمر بدقة.
كانت صباح مليحة الوجه ممشوقة القامة، طويلة بعض الشيء.. بيضاء.. بخلاف لوبيز فهي أقرب لدي إلى صورة انجيلا جولي.. التي عندما رأيتها لأول مرة بحجمها الطبيعي وواقعيتها في معسكرات اللاجئين الأفغان في ديسمبر 2011 عندما كنت في رحلة صحفية إلى الحدود بين باكستان وأفغانستان مع منظمة إغاثية قطرية.. وهي توزع الحلوى والزهور على الأطفال.. خلت أن تلك التي تقف أمامي هي صباح جارتنا القديمة التي لم أعد أعرف لها خبرا.. وهذا الأمر حرضني بعدها بأيام عندما عدت إلى الدوحة وأنا أجلس في مبنى الصحيفة، أن استخدم تلفون رئيس التحرير الدولي المخصص للحالات الطارئة لأي محرر دؤوب.. استخدمه في مكالمة سريعة إلى مسقط رأسي، لأسأل أختى هند عن صباح ماذا فعلت بها الأيام، فقالت لي بإختصار محزن:
"صباح يا عماد في السجن.. لقد قتلت زوجها.. العربجي.."
كانت تلك قصة محزنة فعلا عندما تعرفت على تفاصيلها في إحد الإجازات فالمكالمات الهاتفية كانت مكلفة بالنسبة لي ولا تسمح بغير إلقاء التحايا ومعرفة من مات ومن عرس، وكم المبلغ المطلوب إرساله أخر الشهر للأسرة.

كانت صباح تصر على أن اسمي مدثر.. لانني كما يقول أهل الحي كثير التخفي.. والبعض كان يسمني الضب.. خاصة عندما أسرع من بيتنا إلى بيت جارنا حسب الله الذي كان متقاعدا بالمعاش عمل معظم حياته متنقلا في ربوع السودان داخل القطارات، حيث كانت مهنته مفتش قطار.. في الواقع كانت تلك هي المهنة التي تقاعد عندها.. فهو كما حكى لنا قصة حكايته مررا.. كان صبي لا شغل له.. جرب ما جرب من الأشغال.. من حمل الطوب في القمائن المجاورة للنهر والتي يصنع فيها الطوب الأحمر.. إلى مهنة الزبال في بيوت ميسوري الحال في البلد.. إلى مهنة بائع الطواقي وإن كانت لاتليق به كما يقول.. لأن من كانوا يمارسونها "سودانيين غير أصليين" بحسب زعمه.. وهو أمر كان صعب علي أن أفهمه وقتذاك.. من هو السوداني الأصلي ومن هو المزيف؟ وسألته مرة فأوضح لي بطريقة زادت المسألة تعقيدا.. "السوداني الأصلي مثل أمك وغير الأصلي مثل رضينة".
قلت لنفسي هل يعني ذلك أن الأصلي هو الذي لايبيع شرفه.. فالشرف هذه المفردة كانت كثيرا ما تتردد بجواري دون أن أكون مرئيا في المكان المعين.. لكن لاحقا فهمت أن القضية تعنى بفيزياء أخرى متعلقة باللون، بالقبلية، بالعرق، بالهوية ذلك اللون الغامض الذي كنت أخاله اللون الثامن في قوس قزح سماوي يلون سماء بلدتنا في أول الخريف.. ساعة أقف واحاول أن ارسمه في ورق مقوى كانت جارتنا صباح تحضره معها من المستشفى، في الواقع تسرقه من هناك.

وأخيرا أخذت السنوات حسب الله إلى قطار، ركبه عن طريق الصدفة وهو يجلس على مقعد الدرجة الثالثة في ليل يفتقد لنزهة الضوء. وحيث لا إنارة في العربات الخلفية، فقد انتهزها فرصة لكي يتخفى من الكمساري.. موظف التذاكر داخل الحمام.. ويالها من كارثة.. فالحمام ليس مكانا مناسبا للاختباء.. خاصة في الظلام، حيث أن مجرد إدخال الرجل اليسرى قبل اليمني التزاما بالسنة وقهرا للشيطان، يعني أن أشياء ما تغوص في اسفل قدميك.. كيف تتخلص منها.. الله أعلم؟
كان الرجل ذو الشارب الحليق.. الذي تعود على دلك جسده بزيت السمسم قبل النوم كل ليلة، يخبرني بما آلت إليه المغامرة في تلك الليلة.. فقد انتهت بتلويث قدميه ومن ثم القبض عليه بواسطة المفتش الذي يشعل بطاريته التي يصل طولها لقدم، فتصطاد الهاربين في الظلمات إلى أي ملجأ كان في قطار لن يكون فيه ملاذا للراغبين في ممارسة حيلهم في إدعاء الذكاء..
"مهما تكن فهناك من هو أذكى منك يا حمار"
قالها المفتش الطويل ببدلته ذات الأكمام القصيرة التي لا يمكن تمييز لونها في هذا الدماس، ذات الجيبين المتماثلين مع شاربه الكث المصبوغ بالحناء.. ورائحته التي لن تنسب لغير تلك الرائحة التي تعود حسب الله اشتمامها في أزقة الحواري العليا في البلد، تلك التي تقع شرق قضيب السكة حديد.. ففي سنوات وجيزة جدا صارت المساحة المجاورة للمقبرة مرتعا للسكارى في ردهات الليالي وعاشقي التسكع بحثا عن نساء تائهات حتى لو أنهن خارجات من القبور بعد أن سمعن إسرافيل ينفخ في صوره العظيم.. وأحيانا بائعي السموم وبعض من الحوريات الخارجات من البحر في طريق عودتهن إلى الصحراء، حيث يتزوجن الغزلان البرية.
كان حسب الله يتأمل وجه المفتش العظيم، أكسبه صفة العظمة بعد أن رأى فيه خيالات وأساطير لرزمة من الخبرات والمشاهدات والتصعلك في تلك الليالي في الحواري التي لايسكنها سوى "اولاد الحرام" كما يقول أهل البلد. ومن غرائب الأمور أن السينما الوحيدة كانت في ذلك الجزء من المدينة الصغيرة، حيث أن دخولها أيضا يعني أنك إما مسطول أو سكران أو على أقل تقدير "غير محترم".
تجارب حسب الله في الحياة منحته الفرصة من وقت مبكر، خاصة أنه تمتع بالجرأة.. من أن يختال على كل التقاليد.. وقيل فيه ما قيل.. لكن لأنه مسكين وفقير وبائس كما يقول الجميع أمام وجهه، فقد تحمل الترهات والنزق المتوحش لأناس ليس لهم هم سوى تصيد الآخرين أخطأؤا أم أصابوا.. ويذكر الجميع أن أول من جلد في البلدة، عند إعلان قوانين الشريعة الإسلامية في عام 1983 كان حسب الله.. كان بإمكانه أن يتفادى هذا المأزق.. أو الفضيحة بشهادة الجميع.. لكنه آثر أن يتحدى "الله" كما قال أمام الجلاد. وليس غريبا أن الجلاد كان صديقه وفي ليل ذات اليوم تعشيا سويا واتخذا طريقهما إلى الحواري العليا.. تسمى كذلك لأن شرق البلد أعلى من غربها، حيث تنحدر الأرض في وقت الخريف بالسيول من المناطق القبلية إلى النهر حاملة معها الأشجان لتلك الحوريات التي دفنت في الصحراء.

عندما وقف حسب الله أمام صديقه الجلاد ونديمه في مقاعد الشرب كان شيخا في السبعين من عمره ليس أقل.. كان مازال رأسه مثقوبا من الشراب الثقيل للعرق البلدي المصنوع من التمر المستجلب من القرى غرب النهر، حيث كانت تجارة التمور تدر الملايين وتباع في مزادات يشرف عليها علية التجار في البلد وبعضهم كان يأتي من العاصمة ليزاود في الصفقات التي تقام قبل أن يتم جنى الثمار والحصاد.
يرحل التمر في جوالات كبيرة من الخيش باللواري عابرا للنهر بالمعديات في رحلات خاصة آخر الليل، يتم فيها الاتفاق بسعر مضاعف، ليكون موسما لسعادة سائقي المعدية، أما قليلي الحيلة فبعضهم يختصر التكاليف بأن ينقل المحصول بالمراكب، ليخزن قريبا من مركز الشرطة في صالات كبيرة معروشة بجملونات الحديد في مبنى كان من ذي قبل صالة من صالات ما يعرف بالتدريب المهني.. 
ببسالة وقف الشيخ ذو السبعين خريفا يتحدى السياط على ظهره الذي سال دما.. لكنه استقوى واستعان بالله الذي تحداه لينجيه من الأهوال ومن سياط الأصدقاء الذين ينادمونكم ليلا ويضربونك نهارا.. وهو يتذكر أن بإمكانه أن يهرب من "الكشة".. ساعة اقتحمت دورية الشرطة حوالي الثامنة مساء بعد العشاء.. الحواري الليلية.. لم تقبض على أحد، سوى صاحبنا أبو حسب.. فكأن الناس وقد ابتلعتهم الأرض.. والواقع أن الأرض ليس بإمكانها أن تبتلع إلا من قدم قارورة عرق رشوة للعسكري أو لأحد الضباط الذين بدؤوا يتمايلون طربا ويرقص بعضهم في خلفية السيارة ماركة الكومر.. وهم يغنون "عزة في هواك" بأصوات تنفر منها القطط السكرانة هي الأخرى والتي لاتشرب الماء وتستعيض عنه بالخمور البلدية تسكبها البائعات في براميل كبيرة وصفائح الطحينية والجبنة التي تم إفراغها والتي قضت ردحا من عمرها في باطن الأرض حتى خرجت وهي تحمل أثقالها من شراب "ضرره أكثر من نفعه" كما كان يصيح القاضي مع وقع السياط.. فما بالها تلك الهرر فهي لا تعلم والذي لا يعلم فقد أفتى.
وأمام سياط الجلاد، وحشد من المكبرين والمهللين وبعض من ذوي القلوب الرحيمة من زمرة رفاق الليل، في الساحة التي امتلأت عن بكرة ابيها.. بعد أن نودي بمكبر الصوت الذي تم تركيبه في سيارة الكومر، التي جابت أحياء البلد.. أمام كل ذلك كان البطل الشجاع المفتش السابق، الشيخ الهمام.. يستحضر صورة مفتش القطار السكران في تلك الأيام البعيدة في الحياة، القريبة في الذاكرة.. ذلك الحدث الذي كان انقلابا في حياته.. صحيح انه تم القبض عليه ووضع في حراسة القطار ذات الشبك المسدس كخلايا النحل.. إلا أنه ووفقا للقاعدة "عسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم" فقد جاء الخير من وراء تلك الفاجعة الصغيرة، لأن مدير أول محطة انزل فيها الرجل وهي محطة كبوشية قريبا من حيث يرقد أجدادنا القدماء من ملوك النوبة، عاين ببراعة إلى وجه حسب الله وقال له:
"إني اراك تقطع تذكرة.."
كان مدير المحطة هو الآخر يعيش غمرات الانتشاء بواحدة من زجاجات العرق التي وضعها أمامه على الطاولة الخشبية ذات الأعمدة الأربعة المتهالكة.. كان يجرع جرعة كبيرة كأنه يمتص قصب سكر متعفن.. وهو يخاطب الشاب الذي أمامه.. ليخبر المفتش أن عليه الانصراف لأن مهمته قد انتهت.  

علاقتي مع حسب الله ذوتني بخبرات كبيرة في الحياة.. فهذا الرجل "الأمي" كما يقول البعض.. علم نفسه بنفسه، وناضل في ردهات الزمن يقاوم القواسي والمصائب إلى أن احتل مقامه الذي يرتضيه هو.. قبل أي إنسان آخر.. فهو لم يكن مشغولا بماذا يقال عنه ومتى وكيف؟.. كان يؤمن بأن الإنسان هو ابتكار ذاته.. ومثله كالشاعر عمر الخيام كان يرى أن الخمر هي رديف الحياة الحرة والعرفان الصوفي الخالص.. يعاقرها كشاعر من شعراء الصعاليك متحديا بها جور الأزمنة وعاقبيل الدهر ولوثات الجنون التي أصابت كثيرا من أهل البلاد. وأعلمني في ذلك الصباح وأنا أهرع إليه قادما من مدرستي، أن علي أن أكون أنا.. ساعة كنت أخبره أن هناك من عاب عليّ صحبتي معه بظن أنه رجل مارق وليس لديه ذرة من الاحترام.. عاش حياته بلا زواج مستندا على مقولات قديمة وفكر بائد للحزب الذي ينتمي إليه.
وفي ايام وجيزة كنت أعزز ثقتي به رغم كل شيء.. ورغم تحذيرات والدي ووالدتي والأعمام والخالات.. وبعض من أصحاب النفوس المريضة الذي أومأوا لي أن الرجل لم يختار شريكة لحياته طوال عمره لأنه لايفكر إلا في الغلمان. وحذرني خالي مرة بلهجة واضحة:
"هل تريد أن ينقد قميصك من دبر يا ولد!.. لا تفضحنا!"
كنت أخبره بكل شيء.. كل شيء تقريبا.. وكان يقدم لي الكتب التي التهمها مثل وجبة شهية من عسل النحل أو الديوك الرومية.. الطعامان المفضلان لي في كبري.. قرأت "طوق الحمامة" لابن حزم الأندلسي.. و"مائة عام من العزلة" لجارسيا ماركيز، و"عرس الزين" للطيب صالح"، و"غابرييلا.. قرنقل وقرفة" لجورجي آمادو.. والأخيرة كنت اقرأها بنهم لأن صورة البنت الممشوقة ذات الساقين الطويلين، غابرييلا، البرازيلية ذات السمرة المحببة لي جعلتني أزهد نوم الليالي وأنا أعيش كصبي مراهق مع صورتها.. وأتخيلها ترقد بجواري أو نستلقى أنا وهي نضم بعضنا بعضا في الرف العلوي بأحد عربات القطار ساعة تنعدم الإضاءة تماما.. فمرة سافرت مع أمي إلى الخرطوم ونمت أغلب الرحلة التي كانت بالليل في "السبت العلوي" وأنا احتضن غابرييلا في أحلامي، لاستيقظ بسروال مبلل.
كانت غابرييلا قد حركت في كوامن منتهبة اتجاه صباح رغم أنها أكبر مني سنا، ورغم أن صباح غير سمراء مطلقا.. فهي تقريبا تفوقني بعشرة سنوات.. ليس أقل.. سحرها ينبع من رائحة القرنفل التي تعبق منها والتي تجعلني اشعر كما لو أنها غابرييلا البرازيلية.. وربما كانت تلك الرائحة هي اختراعي بعد أن سرقتني سنوات العمر.. ففي كثير من الأحيان ومع تقدم الزمن يصعب على العمر أن يفرز أين هي حقيقة ما عاشه! فهو يصوغ الذكريات ما بين ماحدث فعلا وما كان يتمناه أو يتوقعه.
ومرة صارحت حسب الله بما في نفسي.. فقال لي:
"لا تخف وجرب معها .. على طول"
"لا أخف.. أنا لا حيلة لي يا عمي"
ضحك وقال لي:
"أفعل كما يفعلون في رواية - غابرييلا"
صمت قليلا وقلت له:
"لكن هذا خيال"
ابتسم وعدل نظارته السوداء الكبيرة.. بعد أن التف برقبته للوراء وبصق سفة التمباك على الأرض تحت العنقريب، يقول لي:
"هذا الخيال هو الحقيقة.. وغابرييلا حتما كانت موجودة في حياة جورجي آمادو هذا البرازيلي العجوز الذي كان يعرف كيف يحب الحياة"

غابرييلا.. قرنفل وقرفة، ذكرى تلك المرأة الخلاسية التي تقفز في الذهن كطائر حديقة منسية في أحلام الطفولة والذكريات المشردة مع وعثاء الزمن وأسفاره اللامتناهية.. كان نبينا الكريم ساعة ينوي السفر يقول وهو مستويا على ظهر بعيره قبل أن يشق الفيافي: "اللهم إنا نعوذ بك من وعثاء السفر وكآبة المنظر وسوء المنقلب في المال والأهل".. وهكذا سافرت من بلد إلى بلد.. أتنقل من وعثاء إلى دعة ومن هموم إلى صفاء، أعاين تارة مناظر تسرني ومرة أخرى أكحل عينيي بمرواد الانكفاء على الذات، بعيدا عن الأحياء، مسترجعا تلك الأيام القصية في مكان مجهول في ركن من أركان دماغي الشريد.
بعد أربعين سنة في هذا العالم، أقف اليوم على مقربة من ربي حيث وصلت إلى بيت الله لأداء فريضة الحج، أنا التائه المنكسر الجناح.. اتبتل إليه أن يغفر لي خطاياي ويكفر ذنوبي ويقبل توبتي.. فأنا أعلم كم أنني من المثالب قد ارتكبت في هذه الدنيا الدنيئة.
وقلت إنني بعد زيارة قبر النبي عليه السلام سوف أعود إلى بلدي، عسى أن أبدا مشروع حياتي هناك، فالحياة لم تبدأ بعد.. فكفى جراحا وغربة وتوهانا في البلدان.. كانت رغبتي بالعودة كبيرة.. لكنني كنت أخشى على نفسي من نفسي.. أخاف أن يأخذني وحل السنوات المستحدثة وضجيج بلدي الذي ما عاد مطمئنا ولا ميسور الحال.. كل السنين التي مضت وأنا أنتظر ذلك اليوم لكي أقول لنفسي صادقا.. "جاء الحبيب المنتظر".. والحبيب هو ذلك "الأنا" الذي يسكنني.. الأنا القديم الذي دفنته هناك بين رمال العتامير، دفنته وسط أحبائي القدامى، مع الذين كانوا حقيقة ذات يوم وتحولوا إلى ما يشبه الافتراض في عالمي لطول الرحلة­­­­، أكاد أعثر عليهم بصعوبة وأنا أحاول لملمتهم في أضغاث المساءات الملعونة في ديار المهجر وأنا أتقلب كمن يعاني ألم في جهة ما في القلب.. والقلب سليم..
كان الطبيب الأمريكي الذي أجرى الفحص علي، قد قال لي:
"وضعك الحالي مطمئن .. لكن ينبغي أن تأخذ قسطا من الراحة".
قلت لنفسي: "إذن هو الحج.. الرضا.. تلك الطاعة التي نتقرب بها إلى المولى لنغسل القلوب ونعيد بناء الشروخ التي بدواخلنا.. نرى العالم من جديد.. نستقبل الأحبة والأحلام وطموحاتنا في هذه البسيطة مهما كانت الأقدار.. نكون نحن المغامرون الذين تأخذنا الرأفة بأنفسنا.. نحن المعذبون في الأرض.. المكتوين بجراح لاتندمل.. وقلق لاينتهي.. وفوضى لاتجد لها نظام أبدا.. ساعة يكون على الروح أن تغلي كمرجل يفتقد للتوازن معلق بين السماء والأرض.. نحسبة شهاب يهوي فنخاف على أولادنا".
قال لي الأمريكي ذو الستين عاما ليس أقل.. وهو يسترجع السماعة عن صدري يضعها على الطاولة البلاستيكية ثم يشعل سيجارة.. ضاربا بقواعد المهنة وباللياقة الصحية والأدبية عرض كل ذوق.. قال ساعة بدأت أنا في الكحة:
"Iam sorry"
يقوم بإطفاء السيجارة في المطفأة الجرانتية أمامه.. بعصبية يزيحها ثم يقول لي:
"أهتم بنفسك.. لاحظ أن وزنك يتناقص كل مرة عن المرات السابقة التي زرتني فيها.. خفف من الغضب والقلق.."
سكت هنيهة وكأنه تذكر أمرا مهما قال لي:
"لدي طلب..!!"
انتظرت لأسمع.. وحركت رأسي دلالة على الموافقة المسبقة لطلبه.. أدركت أنه أمر متعلق بصحتي..
قال لي:
"توقف عن التدخين.. هذا أولا.. الأمر الثاني..."
ابتسمت وقبل أن أتكلم فهم مقصدي.. أنه يتحدث عن طلب واحد.. والآن طلبان...
ضحك بطريقة مخجلة.. لا تليق بطبيب لاتربطه علاقة بضحيته، سوى أنه جاءه يبحث عنده عن أمل في الحياة بشكل أفضل.. الواقع أنني احتقرته وتخيلته كأحد أبطال رواياتي الذين أزج بهم في مصائر أنا نفسي لم أكن أتوقعها ساعة أبدا في الكتابة.. ولا أدري هل كان يقرأ ما يدور بخلدي أم لا.. هل لديه قوة سحرية لاكتشاف ما يتحرك في أذهان ضحاياه من المرضى.. ليس هذا هو السبب قطعا.. هي صدفة لا أكثر.. كان قد قال لي:
"طلبي الثاني أن تتوقف عن الكتابة.. اعرف انك لا ترى العالم بغير هذا المنظار.."
كان يعلم أنني أكتب من خلال اللقاءات السابقة ومن خلال حوارات مبتسرة دارت بيننا، وأخبرته كم أنني شغوف بأن أكتب شيئا عن مهنة الطب ذات يوم.. وقال لي وقتها: ".. جميل أنك ستكتب عن مهنة إنسانية عظيمة"..
الآن أقرر أنني سأكتب نعم.. ولكن سأكتب ليكون بطلي روايتي القادمة هذا الطبيب الأمريكي الأخرق.. لا أدري إلى أين سأقوده بالضبط.. هذا الذي يريدني أن أتوقف عن الكتابة.. إنه يريدني أن يقتلني قبل يومي.. لا لن أفعل.. كدت أن أصرخ فيه..

فكرة أن أكتب رواية عن طبيب أمريكي مختال سرعان ما انقطعت علاقتي به، لم تستمر طويلا، لأنني كثيرا ما ترد بخاطري أفكار عن موضوعات تصلح لأن تكون روايتي القادمة، أقوم بالتنازل عنها فور انغماسي في تفاصيل الحياة اليومية.. فالعمل اليومي المضن والشاق في مهجري يأخذ مني الكثير من الوقت.. شؤون العائلة والبيت فأنا رجل متزوج وأب لطفلة جميلة هي في العاشرة من عمرها الآن، لاتعرف عن السودان الكثير.. ولم تولد فيه.. تجيد العزف على آلة الكمنجة وتغني لمحمود عبدالعزيز وطه سليمان وأمير حلفا وعبدالعزيز محمد داؤود ونانسي عجاج.. صوتها جميل.. غنت أكثر من مرة بالنادي السوداني في مسقط بسلطنة عمان، في مناسبات اجتماعية.. كانت تسألني عن مسقط رأسي.. عن الصحارى والعتامير وأيام طفولتي وذكرياتي القديمة.. وعن رحلات الصيد في الأرض شرق النيل المسماة بالخلاء حيث كان عمي يصحب بعض من العرب القادمين من السعودية ودول الخليج العربية لصيد الغزلان، وهم يتبخترون بسياراتهم العالية ذات الدفع الرباعي، ينصبون خيامهم بلا رقيب.. يعودون إلى بلادهم يكون عمي قد عاد إلينا بالهدايا التي هي بقايا ما ترك القوم من مأكولات معلبة وعصائر وبسكويت وحلويات وأشياء لم نرها من قبل.. والتفاح والكمثرى والعنب وفواكه لاتنضج في أرضنا.. تقول أمي لم نكن نظن إننا سوف نأكلها إلا في الجنة.. أما أبي فيصرخ ساعة يرى هذه "الفضلات" كما يسميها.. ويحذر أمي، ويكون قد ركل المخلاة والأكياس البلاستيكية التي تحتفظ بها جدتي في البترينة كأعجوبة.. وتستعرض بهن أحيانا أمام رفيقاتها.. وهي تتهجأ الحروف الإنجليزية المكتوبة.. أم .. أي .. إل .. إل .. Mall.. كانت تعرف الحروف لكنها لاتمضي أكثر من ذلك.. ومرة طلبت من حسب الله أن يسلفها قاموس دكشنري.. فاستغرب من طلبها.. ولم يرفض.. وأخذته لتقضي يومين كاملين في الهجأ بصوت عال.. لكنها لم تفعل شيئا ولم تتعلم سوى تضييع الوقت الذي لا تعرف كيف تقضيه.. بعد أن فقدت زوجها.. صحيح أن الرفيقات مسليات بالنسبة لها.. لكن جدتي لأمي امرأة ضجرة لا تحب إلا نفسها.. وأمي نفسها تقول ذلك عنها.
أحكي ما أحكي لماجدولين.. ابنتي.. عن تلك الأيام التي تطل وراء نافذة التاريخ المنسي لذلك البلد البعيد.. كأنها تستغرق معي.. ومرة قالت لي:
"بابا ليش ما تكتب عنهم ديل ناس اكسبشنل"
أحترم أفكارها جدا.. وكثيرا ما أتعلم منها.. أرد عليها بالإيجاب.. وفي اليوم التالي أتركها تجلس أمامي اللابتوب لتبدأ في قراءة ما كتبت ليلة أمس.. لقد ظللت سهرانا إلى الفجر.

استيقظ من أحلام اليقظة على صوت جارتنا صباح تناديني من وراء الحائط:
"يا ولد يا مدثر.. قول لي أمك طهارة أولاد جبارة بكره".
تسرع ماجدولين لسؤالي:
"بابا.. جبارة دا منو.. ما حكيت لي عنو أبدا"..
جبارة.. ماذا سأقول لها عنه.. يمكنني أن أحكي عن رضينة أو حسب الله أو صباح أو حتى أولاد النعسان.. لكن أن أكلمها عن جبارة فأي لغة سأتكلم بها.. ماهي هذه المصيبة التي وضعتني فيها.. وكيف لي أن أتحرر من مأزقي... هل أؤلف لها قصة كما أؤلف القصص.. أم أقول لها الحكاية الحقيقة عنه..
كانت تتأمل حيرتي.. وسكوني.. وكانت تقرأ أفكاري.. فقالت لي:
"بابا أنسى.. استمع معي للموسيقى لكي تنسى"
وبدأت العزف على الكمنجة.. وغنت بصوت هامس في ذلك الصباح.. لا أعرف ماذا كانت تدندن بالضبط.. لكنني عشت تلك الهنيهات التي استمرت لدقائق، لنصف ساعة تقريبا.. كنت كمن يعيش حلما جميلا.. أتأمل ابنتي وروحي بكبرياء ونشوة أب فرح بدوره في الحياة.. أسرع لاحتضانها وهي تضع الكمنجة في جيبها ومن ثم على الرف أسفل لوحة الخشخاش لفان كوخ.. ودمعة فأخرى فثالثة تنكسب من محجري.. وأنا أرى أمامي صورا لست قادرا على فرزها بالضبط.. ماذا تكون؟ كأنني أقف أمام ظلال باهتة لبيوت الطين التي عشت فيها طفولتي.. أو عربات الكارو التي قدتها في النهارات الحارة لأترزق بها.. وأنا أجري وراء والدي وهو يحملني معه من زقاق لآخر ومن فسحة لشارع.. ننقل الرمل والحجارة للبيوت تارة.. وأحيانا يفتح الله علينا بأن نحمل جوالين من الفحم إلى بيت أولاد النعسان.. فيغمروننا بالمال هذا إذا لم تحمّلنا أمهم بعمود طعام يكون هو هدية مع ما فيه.. هؤلاء أكرم ناس رأيتهم في حياتي.. لكن الحياة ليست مضمونة دائما.. فقبل أيام أخبرتني هند وهي تدردش معي بالشات في صفحتي على الفيسبوك أن أولاد النعسان لم يبق منهم واحد إلا ودخل السجن.. ربما أصغرهم ذهب إلى وديان الذهب يبحث عن نصيبه مع الباحثين.. ذكرت لي ما ذكرت وهي قادرة على التصديق.. كيف تلاشت ثروتهم التي كانت توصف بأنها كالجبال.
كتبت لها:
"علينا أن نصدق.. هذه هي بلادنا!!"..
أرسلت لي ردا في شكل وجه يبدو عليه الحيرة يضع أصبعه على خده!
... وفتحت عيني على المكان الذي فيه أنا الآن في بيتي بالمهجر.. وماجدولين ترتب بعض أغراضها لأنني قد نويت السفر إلى الحج.. وهي ستذهب في رحلتها الأولى إلى السودان.. وبعدها سوف استقل أنا الطائرة من المدينة المنورة إلى الخرطوم لنلتقى بعد أسبوعين على الأكثر.. أما والدتها فقد سبقتنا لترتب حال أحد قصورنا قبل أن نقرر بيعه نهائيا..

كانت رواياتي.. قصصي.. تمثل نوعا من الحنين إلى الديار التي جئت منها.. وكنت أكتب لكي أسلي نفسي وبعد أن جاءت ماجدولين كنت أكتب لها.. عن هؤلاء الناس "الاستثنائيين" الذين هي أحبتهم كما تقول قبل أن تراهم.. أحبتهم كشخصيات روائية وهي غير متأكدة إن كانت سوف تحبهم في الواقع أم لا.. صعب على أن أحكم.. فثمة مساحة فاصلة دائما بينن ما تصوره لنا أذهاننا وتخيلاتنا وما نعيشه في الحقيقة.
كان علي أن أخبرها عن أولاد جبارة.. وعن الغضب الإلهي الذي حل بهم كما يقول الناس هناك.. حل بسبب أبوهم وعمهم وعمتهم.. فأولاد جبارة في الأصل هما حسن وحسين وحسونة.. وثلاثتهم أولاد سفاح.. يعني "أولاد حرام".. ثلاثة توائم أنجبتهم أمهم في يوم واحد.. خرجت البنت أولا ومن ثم خرج الولدان في الماعون أسفل العنقريب.. كانت القابلة بت النبي تضع الواحد منهما في الصحن الملئ بالماء نصف الحار.. تغمسه ثم تخرجه بعد أن تكون قد غسلته من مابقي من مشيمة الرحم وبعض من الدم الآثم لامرأة سوف تموت في تلك الولادة، تفعل بنت النبي ذلك وهي تلعنهم.. ويهرب الأب.. الوالد إلى جهة غير معلومة.. لأن أهل البنت التي حملت سفاحا.. أهل حرم الله، قرروا في ذلك المساء واستجمعوا أمرهم على أن يقتلوه إن بقي بينهم.. فكان قراره أن فر بليل ولم يعد له أثر.. سمعت أخيرا أنه عاد وهو قد تجاوز الستين من عمره.. بلحية كثة بيضاء ويقال إنه قضى أربعين سنة في الإسكندرية المصرية يعيش متخفيا هناك عن أي من بنى جلدته.. ويقال إنه تزوج من مصرية غلفاء وأنجب منها خمس من الأبناء.. لكنه عاد ليموت في أرضه وبين أهله.. فلم تمض سوى أيام قليلة إلا وقد حمله المشيعون إلى مقبرة البلدة التي باتت في وسطها بعد أن كانت أقصى الشرق.. والتي أحاطت بها المساجد بدلا عن بيوت الحواري القديمة التي شهدت زنقات العصاري والمساءات في المناوشات بين رجال الشرطة والسكارى.
وربى أبناء جبارة، أهل أمهم.. كانوا يتعاملون معهم كعار.. بيد أنهم ماذا يفعلون.. لكنهم تركوهم بلا تعليم أو وصاية.. تركوهم يتعلمون من الحياة والشوارع.. وبقدرة الله حدثت المعجزة، فقد أصبحوا مشائخ وأنوارا زكية، والآن إذا ذهبت إلى هناك ودخلت أحد البيوت مابعد ميلاد أو ختان فسوف تأتي إليك أصوات مديح بهي للرسول الكريم.. وستدخل إلى صالة معروشة بمروق الدوم لتجد رجلان وامرأة هم المادحون.. تحمل المرأة الطارة تدق عليها.. رغم أنها لاترى فقد أعمتها السنوات والإهمال والفقر..
قلت لماجدولين:
"هؤلاء هم أولاد جبارة يا بنتي"
وسألتني:
"..والطهارة كانت لمنو؟"
ابتسمت.. فالقصة طويلة إذن.. غير أني اكتفيت بالإجابة على سؤالها:
"الطهارة كانت لأولاد حسن.. فحسين لم يتزوج إلى أن ألتهمته الحياة على عجل.. وحسونة تزوجت مرة واحدة وتطلقت"
كانت حسونة ذات جمال باذخ في صغرها.. أتذكر أنني رأيتها مرة شبه عارية وهي تقف أمام بئر أولاد النعسان تملأ الدلو بالماء.. لأن الشبكة الرئيسية كانت معطلة.. وبئر النعسان وقف وحلال لكل من أرادها.. رأيت نصفها الأسفل من المؤخرة.. كانت قد انحنت مع الحبل الذي حمل الدلو إلى أسفل البئر.. بيضاء بردفين سريعي الاهتزاز كأنما تريد أن ترمي بهما وتهرب.. كان سروالها واسع شفاف بحيث يمكن رؤية أشياء أخرى.. لكن الجمال ينهزم أمام "بنت الحرام" كما أخبرني حسب الله.. إلى أن جاء اليوم الذي تزوجها فيه إبراهيم المصري.. ذلك الرجل الذي قضى خمس سنوات وسطنا يدرس اللغة العربية بالمدرسة المتوسطة.. كان المدرسون المصريون في تلك الأيام في كل المدارس تقريبا.. وأعجب بها وأسرّته ولاحقها وسط الجزيرة والجنائن قريبا من النهر في العصاري.. إلى أن فاز بها.. كانت تذهب لتملأ قفتها بالنجيلة والسعدة تقلعها بيديها القوتين دون أن تستخدم المنجل.. لتعود بها إلى غنمها..
أنتهت تلك المساسقات بينها والمصري بالزواج.. وفي النهاية قبل أن تمضي أشهر كان قد طلقها وبعدها غادر الرجل إلى دياره.. ولم يعرف أحد عن سبب الفراق.. قيلت أمور كثيرة.. وذهب السر بين صاحبيه.. ولأن حسونة كانت هي التي تؤلف أغلب المدائح لأخويها.. وهي.. إن لم يمدحا للبرعي أو حاج الماحي.. فقد كانت تستحضر في بعض مدائحها ألغازا من سيرة زواجها بطريقة تبدو غامضة، تعيد فيها ذكرى مصر بالكلام الحسن على شاكلة "مصر المؤمنة بأهل الله".

قلت لكم أشياء كثيرة,, قصصت لكم عن قصوري.. وعن ابنتي ماجدولين.. وعن أناس عرفتهم في سنوات طفولتي.. وعن القلق المثير الذي يسكنني وعن ذهابي إلى بيت الله للحج.. لكنني لا أعرف إن كنت أقول لكم الحق أم لا.. أين هي الحقيقة في ما أخبركم وأين الخيال؟ هل صحيح أنني متزوج ولي بنت جميلة تعزف الكمنجة اسمها ماجدولين وهل فعلا أن صديقي الفلسطيني أهدي لي نصف البيت – القصر مقابل رواية.. لست متأكدا من ذلك إن كان حقيقة أم من نسج خيالي.. فالروائيون أناس تتجه عندهم الحياة للمزج بين المساحات الواقعية والمناطق السحرية المتوهمة في الذهن.. بحيث يصعب التمييز ويمكن أن تستفحل هذه الحالة لتصبح مرضا نفسيا لدى البعض.. مثلا كافكا ذلك الذي ابتكر رجلا يتحول إلى حشرة.. هل كان يتحدث عن أمر رمزي أم عن حقيقة.. الكثيرون ربما قرؤوا القصة.. هل توقف أحدهم ليسأل ولما حشرة؟ أو كيف حدث التحول؟ وهل كان كافكا يحكي عن تجربته الشخصية ومأزقه الوجودي أم هو مجرد فن وخيال وعبث أحيانا.. هو سؤال يتعلق بجدوى الفنون في حياة البشر.. لماذا نرسم أو نكتب أو نعزف الموسيقى!! وربما لماذا نسافر ونتوقف ونتأمل ونعود بذاكرتنا للوراء.. أو نهرع بها إلى المستقبل في محاولة لفهم ما يمكن أن يحدث..
مثلا أنا أعرف سيدة كان اسمها رضينة.. وكانت فعلا تبيع الزلابية في بيتها الساكن في الزقاق المؤدي لبيت جدي لأمي.. هذا حقيقي وغير متوهم.. لكن هل كانت داعرة ليل.. أو عصاري.. هل كانت تستغوي الرجال بسمرة جنيفر لوبيز.. هل كانت هوساوية.. يصعب علي أن أعرف بالضبط أين هي الحقائق!!.. وفي حياتنا كبشر وفي معظمها حتى في داخل علاقتنا مع ذواتنا.. حتى في تفاصيل حياتنا اليومية.. نجهل مرات كثيرة النقطة التي تقول ماهو واقعي وماهو من نسج الوهم.. لكن هل الخيال هو الوهم.. أم شيء مختلف... لا أعرف ولست مهتما بدرجة واضحة.. يهمني تلك النزعة التي تعيش جواي وتحتويني منذ سنوات بعيدة.. أن أكتب روايتي أنا.. لست مهتما بأن يعتمد السرد على قوانين محددة.. أو على منطق.. المهم أن أصدق أنا ما جرى..
في تفسير ابن كثير هناك قصص حدثت مع أنبياء وأناس على هوامشهم.. مثلا كان هناك رجل يرافق أحد الأنبياء، كان هذا الرجل طويلا جدا.. كان يصطاد السمكة بأن يدخل يده الطويلة جدا في الماء.. يقبض على السمكة.. يخرجها.. ثم يرفع يده إلى أعلى.. يده الطويلة جدا.. ليشوي السمكة في قرص الشمس.. تكون يده قد تبللت بالحرارة دون أن تحترق.. وكان هناك نبي اسمه إدريس وآخرون يسمونه هرمس.. أو المثلث العظمة.. كان يتوكل على الله ويطير ثم يطير.. يطير بلا جناحين.. ويدور حول زحل بحلقاته المثيرة ثم يمر على الزهرة فيعود إلى الأرض.. وفي تراثنا الإسلامي كان النبي عليه السلام يسافر إلى بيت المقدس ثم يعرج إلى السماء ويرى الجنة والنار ثم يعود إلى الارض في ليلة أو أقل.. عليكم أن تصدقوا..
".. فالذي ليس له دليل على النفي عليه أن يحترم ما يقال على الأقل.."
لا أدري مدى دقة هذه المقولة.. وهل هي نوع من التخدير للعقل أم هي منطقية.. قالها لي أحد شيوخ الدين.. قال لي إنك لن تفكر بطريقة أكثر من أناس سبقوك وخلدوا هذا الإرث العظيم.. كن حذرا مع المعجزات!!
المعجزة.. كلمة جاذبة وغريبة في الوقت نفسه.. تشدني للمضي في أن أحكي روايتي إلى النهاية.. أن استنزف خيالي في استرجاع هؤلاء الناس "الاستثنائيين" أن أعيد عجنهم لأجعلهم يمشون بين الناس وفي الأمكنة.. الناس الذين هم من اختراعي.. والأمكنة التي لم توجد في أي خارطة خارج هذه الرواية..

في كتاب ودضيف أعظم روائي سوداني.. هناك قصص كثيرة يصعب تصديقها.. تعامل معها البعض كمعجزات لأولياء وصالحين من أهل البلاد.. وآخرون قالوا إنها مجرد أخاطيل وخرافات.. بالنسبة لي لم يكن ودضيف الله يبحث عن الحقيقة أو كان مؤرخا أو يعتبر نفسه ذلك.. هو لم يكن إلا روائي.. صاغ روايته ومضى.. وترك لنا حرية وتركة في تأويل نصه.. فهو يحدثنا مثلا عن الشيخ ابراهيم البولاد الذي عصر ثديه فدرت لبنا ليرضع به مولودا حديثا.. وعن الشيخ هجا ولد عبداللطيف الذي رجعت الشمس من وقت العصر إلى وقت الظهر يوم موته.. هناك قصص كثيرة أناس يموتون ويعودن للحياة.. آخرون يتكلمون من قبورهم.. من يشاهدون العرش من مواضعهم على الأرض.. ومن يتكلم في المهد كالمسيح عليه السلام.. ومن يحيي الموتى على شاكلته أيضا.. ومن يطير بعنقريبه ويحط في قرية ما.. ومن يتحول لأسد ثم يعود بشرا.. ومن يغطس في البحر فيصبح دافئا للجميع.. ومن يظل بوضوء واحد دون أن يستنجا أو يتغوط لشهور.. ومن عاد إلى طفولته بعد أن أصبح شيخا ظاعن السن.. ومن يمشي هو وحيرانه على الماء متمثلا خطى سيدنا موسى.. ومن يمزق القرآن وهو رجل صالح.. يمزقه في المسجد متبتلا إلى الله.. من يركب جملا وتريد النسوة تقبيل يده شفاعة منه فيطول الجمل طولا عجيبا فتعجز نسوة المدينة عن تقبيل اليد المقدسة..
أما صاحبنا الشيخ إبراهيم الخواص فقد كان لصا يسرق الثياب.. وكان يتقرب الله بالسرقة.. وهناك من ادخل  عُكازه في زيرين ثم قال : أ ب ت ث ج ح خ فقلبهما سمنا.. وهناك شيخ كان ابنه يبيع المطر لأهل الحي ولقب بـ "بياع المطر" وهي نفسها قصة ذلك الشيخ الذي يجامع زوجته من على البعد.. يعني بـ "الرموت كنترول".. ثم تنجب منه.. لقد جامعها وهو في الحج.. في مكة.. وهي في السودان.. وهو شيخ من شيوخ العركيين.. ولكي نفهم القصة فهو قد آتي من الحجاز ليلا وعاد في ليلته.. أسري به.. ليجامع زوجته الطاهرة من دم الحيض..
كتب ودضيف الله: "الشيخ عبد الرحيم بن الشيخ عبد الله العركي المشهور بإبن الخطوة.. فولدته أمه وأبوه مجاور في الحرمين الشريفين. وذلك أنه طرقها ليلا.. فقالت له: سيدي أنت طرقت البلد وأنا طاهرة من الحيض وقد ماسستني وأخشى أن يقدر الله لي حملا منك والناس يعنفوني به بغيابك.. فقال لها: موضع قدمي بيعرفه الشيخ أبو إدريس أخوي.. فواقعها فحملت منه بعبد الرحيم. فإن الشيخ ابو ادريس لما رأى قدم أخيه قال البارح عبدالله أخوي طرق البلد من الحجاز.. ثم قدم الشيخ عبدالله بعد سبع سنين من ولادته، تلقاه غلام فسلم عليه.. وقال : هذا ولدي ويسموه بياع المطر.. لأنه يبيعه على الناس"..
إذن فهو أيضا ذلك الشيخ الذي يبيع المطر..
... وهناك معزة تصيح في البطون لأنها مسروقة.. ورجال تخضر لهم الأشجار ساعة يجلسون تحتها.. وأخر يتقلب يميناً وشمالاً وهو ميت حتى يتمكن غاسله من غسله..

وأنا في الطائرة في طريقها إلى الخرطوم قادما من بيت الله، كنت أتأمل من النافذة التي أجلس بجوارها هلامات السحاب الذي تطير الطائرة فوقه.. وكنت أمارس هوايتي في تخيل هذه السحب المتحركة هوينة وكأنها لوحات سيريالية أو تجريدية لفنانين كبار أمثال سيزان وبيكاسو وفان كوخ أو راشد دياب أو إبراهيم الصلحي أو شبرين.. أتاملها وأتخيل صورا لشخوصهم بينها.. كنت أرسم لوحات مبهرة في خيالي أشاهدها وأضحك معها وأزيز الطائرة يغسلها لأعود أرسمها مجددا.. إلى أن داهمني النوم.. فرأيت في منامي ودضيف..
صحيح أنني تخيلت الرجل.. تخيلت شكله منذ سنوات صباي عندما قرأت كتاب طبقات ودضيف الله مبكرا حين أهداني إياه حسب الله وقال لي:
"دا هدية ليك يا عماد"
"لكن.. دي نسختك"
قلت له، فرد علي:
"لا أبدا.. عندي واحدة ثانية"
هذا الكتاب كان يرافقني أكثر من المصحف.. ودائما ما أضعه معي في حقيبة السفر.. وهي نسخة قديمة مطبوعة في بداية السبعينات من القرن الماضي بتحقيق البروفيسور يوسف فضل.. الذي عندما رأيته لأول مرة "فيس تو فيس".. كان ذلك في بيته بسكن الأساتذة الجامعيين في مدينة بري شمال نادي الشرطة بالخرطوم.. ذهبنا أنا وصديقي عبدالله الفكي البشير الذي كان يدرس التاريخ بكلية الآداب بجامعة الخرطوم.. وكنت أنا أدرس العمارة كما أخبرتكم.. كان عبدالله تربطه علاقة وطيدة بيوسف فضل.. واستقبلنا الرجل وهو يلبس روبا أبيضا كأنه طبيب خارج من عملية جراحية استغرق فيها مهاراته وخبراته في الطب.. وتخيلته ودضيف الله منذ تلك اللحظة يعالج بمبضعه التاريخ جرحا وتعديلا.. دائما ما تأتيني صورة ودضيف الله منذ ذلك اليوم قبل ثمانية عشر عاما على أنه شبيه ليوسف فضل في قصره وجسده الممتلئ نوعا ما.. وسخريته المعهودة من الأشياء والعالم.. ولامبالاته أحيانا..
الآن أرى ودضيف الله في حلمي.. لكنه كان مختلفا تماما.. كان طويل القامة، حليق الشارب.. خفيف مثل نخلة تمايلها الرياح الشتوية الباردة في أمشير.. قدمه اليسرى بها عوج.. يمشي وكأنه يقلبها ثم يسترجعها مرة أخرى لحالها.. وتمشينا أنا وهو.. في شوارع الخرطوم ودخلنا القصر الجمهوري فلم نجد فيه أحد.. وقال لي الرجل الخفيف الظل صاحبي:
"رأيك شنو نحكم البلد دي.. آهي الفرصة لينا والقصر فاضي"
قلت له:
"أنا ما عندي وقت.. عندي روايات كتار عاوز أكملن"
قال لي:
"يا ولد أنت عبيط.. روايات شنو.. الناس العظام بكتبوا رواياتهم في الواقع مش في الخيال"
وكأننا طرنا من القصر على شارع النيل.. أو ركبنا طائرة هليكوبتر.. كيف حدث ذلك الله أعلم.. ففي الأحلام كما في السياسة لا قواعد ولا قوانين ولا أخلاق.. ومن أعلى كنا نشاهد الخرطوم بما حملت من أثقال.. سيارات منهكة تسير في شوارع منخفضة الإضاءة أو شبه معدمة.. إذا فقد كان الوقت ليلا.. كانت فتيات يقفن أمام محل لبيع الآيسكريم وهن يتثنين ويتخنعن.. وصبية يجرون مجموعة جوالات مربوطة بحبال متينة.. إلى إحدى الحفر.. الله أعلم ما بداخل تلك الجوالات.. وكان عساكر يقفون أعلى دبابة قريبا من مصنع لتصنيع اللحوم على شاكلة سجك وبيرقر وبوفيتك.. وآخرون يستحمون في النيل عراة كما خلقهم المولى.. وبحثت عن آثر لجامعة الخرطوم فوجدتها.. أنا وود ضيف الله وقد انمحت عن الوجود وحل محلها مرقص ليلي مزحوم ببنات هوى قادمات من الفلبين وروسيا وتايلاند ونيبال وبلدان شرق أوروبا.. كان الرجال يتراقصون سكارى وأمامهم زجاجات الويسكي والتيكلا والبراندي والروم.. وقد كتب على بعضها Made in Sudan
وقال لي صاحبي:
"تفضل لنأخذ واحدة.. ونبيت الليلة مع حورية آسيوية"
قلت له:
"استغفر الله يا ودضيف الله.. أنت من كتب تاريخ الصالحين"
قال لي:
"يا ولد يا أهبل أنت ما بتعرف طريق الصلاح ولا الفلاح.. أنت زول مسكين"

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

راما رواية البليك تغوص في أسرار الخلود وتتجاوز قواعد السرد

  في طفولتها البعيدة وهي تلعب بين مزارع الفول والفاصوليا وتسبح أحياناً مع البنات في النهر ساعة الفيضان، لم تكن خالدة تتخيل شكل مستقبلها، توفى معظم من تعرفهم ويعرفونها، كانت تحب فصل الشتاء لأنه يسمح لها بالاختباء تحت غطاء اللحاف، لتحلم، كانت طفولتها وشبابها مليئة بالفوضى فهي بنت الجزار الذي في لمحة بصر ومحض الصدفة تحول ضمن الحرس لشخصي لوزير مهم، هي بنت المرأة الطيبة القادمة من رحم الرق والبؤس، جد كان شحاذاً وتفاصيل مربكة استمرت إلى أن وجدت راجا الهندي الطيب تاجر المجوهرات، تكتمل الفرحة بميلاد الطفلة راما، الاسم المقتبس من الخلود بقداسته وأسراره. حياتها الجديدة لم تنسها ماضيها حكايات الخالة الصحفية المناضلة عوضية، والعم الذي مات بمرض لم يمهله كثيراً وسفيان، الأخ المولع بالفن والغناء، كثيراً ما يسير الماضي كشريط سينمائي بمونتاج محكم متداخل الأزمنة. كثيراً ما كانت تشعر بوخزة في صدرها وأن هنالك ما هو مؤلم في مقتبل الأيام، يموت الأب في حادثة مفجعة وهي طالبة جامعية، بكته رغم أنه لم يعد ذلك الأب الطيب الذي كسر الأعراف والتقاليد وانتصر للحب منذ أصبح من الحاشية ومرافقاً للوزير في كل أسفاره. تش

المناورة والطريق الأفضل.. إلى حمدوك مرة أخرى

لقد أهتم العلماء في فترة التنوير الأوروبي بالطبيعة، والأحياء، كيف تشكلت في الماضي. في سبيل السيطرة على المستقبل، لأن أدراك نسق التشكيل في التاريخ، يقود إلى التحكم في القادم.   قبل أن يأتي داروين الذي كسب شهرة كبيرة بنظرية التطور، جرب آخرون أغفلهم التاريخ هذا النمط من التفكير، ومنهم جان باتيست لامارك، الذي يعتبر أول من استخدم مصطلح البيولوجيا بالمعنى الحديث. وكان تقريبا أول من صاغ نظرية شبه متكاملة في التطور الإحيائي. استهل بذكر لاما رك، للاستشهاد بمقولته: "هل نتحرك أفضل حين تتقطع بنا السبل ولا نجد مخرجا.. عندما يتغير كل شيء؟" الفكرة تقوم على أن الكائنات في محيطها الطبيعي، دائما ما تلجأ إلى الحل في ساعات الاستعصاء القصوى، عندما يتبدل كل شيء تماما. تصل ما يمكن الاصطلاح عليه بلحظة "التلاشي". هنا تناور بطريقة جديدة. تستخدم كافة السبل الممكنة التي لم تخطر من قبل، وتستطيع أن تحدث انقلابا في الطبيعة نفسها لصالحها. هذا الأمر ينطبق ليس على الحيوانات والأحياء في فطرتها. بل على المجتمعات، ففن المناورة في "المساحات الصغيرة" أو "الفرص المعتمة" يقود إل

عن رواية الامام الغجري للكاتب عماد البليك، بقلم: فخر الدين حسب الله

في روايته "الإمام الغجري" التى يمكن وصفها بالرواية الواقعية، حيث تتحرك في جغرافيا وتاريخ محددين (السودان، 1821_الى الان)، يسرد البليك في متعة متناهيه تفاصيل الكثير من الأحداث التاريخية في السودان الحديث في رحلة البحث عن سر الغموض الذي يلف غياب أحد الرموز الدينية، الطائفية، السياسية.. واسمه الإمام سفيان النصري (الغجري). تبدأ أحداث الرواية عن صحفي سودانى، يحاول أن يكشف القناع والأسرار حول غياب الامام الغجري قبل عدة عقود، ليجد نفسه أم ام ملف شائك، شديد التعقيد . الصحفي بعد أن أمسك ببعض الخيوط وقبل أن تكتمل، اغتيل قبل أن ينشر ما لديه، اصابع الاتهام تتجه الى السلطة الحاكمة، فالنظام يقبض علي حرية النشر، ويضيق على الحريات، ويمنع الحديث حول غياب الإمام. وللنظام سوابق في الاغتيالات والتعذيب، فقد اغتيل صحفيون من قبل. يلجأ آخرون ينتمون إلى مؤسسات الدولة الحديثه الي عملية تحضير الأرواح لمعرفة ماذا كان يريد أن يقول الصحفي.. تسير الرواية بأقوال روح الصحفي.. لتحكى الروح حقيقة ما جري مضافا إليها خواطره وآرائه . تكشف الرواية عن الحبل السري بين السياسي ورجل الدين وانع