التخطي إلى المحتوى الرئيسي

تدمير الأمس في الرواية

آغوتا كريستوف كاتبة مجرية تعيش في سويسرا منذ العام 1958م تكتب باللغة الفرنسية وتعمل في مجالي التدريس والمسرح في روايتها الاخيرة «امس» الصادرة عام 1995م‚ والتي كانت قد رشحت لجائزة غونكور الادبية الفرنسية‚ تعمل آغوتا على بناء عالم روائي بطريقتها الخاصة من خلال عقدة قديمة عولجت كثيرا في الادب الروائي عقدة الابن الذي يجهل ابيه‚ لكن آغوتا لا تتعامل مع العقدة بطريقة درامية او سردية مباشرة اذ تتخذ من خلالها موقفا جوهريا لتشكيل عالمها الخاص وبناء موقفها من الوجود والحياة ككل‚ تقوم الرواية على نظام الفصول القصيرة في 127 صفحة من القطع المتوسط وتتداخل بين فصول السرد اشعار مستوحاة من النص الاساسي للراوية تشكل امتدادا للنص واستقراء لما كتبته آغوتا‚



تعيد الرواية سؤال «الرواية الجديدة» التي تتداخل فيها عوالم الفنون الابداعية وان كانت «امس» تقترب من مفهوم الرواية في شكلها الكلاسيكي المقيد لكن الكلاسيكية عند آغوتا كريستوف تنزاح تدريجيا عبر قفزات صغيرة في جهات متفرقة من النص‚ بما يجعل محصلة العمل نوعا تجريبيا للرواية الجديدة الفرنسية‚ وتكتنز الرواية بعالم يبحث عن السمو والعدالة والمعاني الصوفية للحياة‚ وحفر عميق في قضايا مستهلكة الحديث لكن الكاتبة تحاول ان تفككها برؤيتها الخاصة وعالمها الجمالي الذي يحكم على مجمل الاشياء في خلاصتها بفكرة الكراهية والخوف والموت‚ تقول الكاتبة على لسان احدى الشخصيات «في ذلك الزمن‚ زمن طفولتنا‚ كنت دميمة ولئيمة‚ كنت اظن انني احبك كنت مخطئا‚ أوه! لا يلالين‚ أنا لا احبك‚ لا انت ولا احد سواك‚ ولا شيء آخر‚ ولا الحياة»‚ الموقف الجمالي يتحد ضد سلطة الحياة‚ ويعمل على تدميرها بكل بساطة‚ وربما كان ذلك الجو المسيطر في الرواية ككل‚ وهو موقف حسب ظني الخاص‚ يعمل على نقل الرواية لبطولة المفهوم‚ فما قامت به آغوتا من عمل رفيع‚ صغير الحجم‚ يسند نظرية اتجاه الرواية الجديدة نحو بطولة المفاهيم‚ بعد ان مرت بمرحلتي بطولة الأفراد كما في «أوليفرتوست» وبطولة المكان كما في «قصة مدينتين» أما بطولة المفهوم فهو الأسلوب الجديد الذي أسس كونديرا له بشكل صغير‚ كما في روايته الخلود التي تحفر في مفهوم الخلود‚ وربطه بمفاهيم أخرى نعتقد بها في حياتنا‚ فكرة تدمير العالم من خلال الكتابة‚ أو تدمير الأمس‚ الذي يظل محركا لحاضرنا هي جوهر سيمفونية «أمس» في إطار مناخ يقول بأن علينا أن نغادر «تلك الرياح مثلا‚ إذ ينبغي أن أغادر الآن وأسير في مهبها» والسير في مهب الريح‚ هو رغبة توحد‚ فعلى المرء أن يسير وحده‚ تقول الرواية «ليس بصحبتك يا لين‚ لا تغضبي مني‚‚ ذلك أن السير في مهب الرياح لا يكون الا على انفراد لان ثمة نمرا وبيانو موسيقاه تغتال العصافير‚ والخوف لا يزول اذا بددته الرياح‚ان رغبة التوحد‚ البقاء في الأمس‚ أو الهروب منه‚ هي نزعة كامنة فينا‚ قد نرغب في التخلص منها‚ لكن كثيرا من الاشياء التي نعيش بها قد لا نستطيع تحديد شكل علاقتنا معها‚ الكتابة وحدها تظل محاولة لاكتشاف شكل العلاقة‚ أو تحديدها‚ لكنها لا تكتشف‚ بل تضيء العتمة لنرى لو استطعنا‚

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

فصول من رواية "دماء في الخرطوم" الصادرة عن دار الفارابي

واحد   داخل المكتب المؤثث على طريقة عصرية، بديكور داخلي راقٍ، رنّ الهاتف النقال على الطاولة الخشبية لأكثر من مرة قبل أن يضغط عبد الحفيظ على الزِر ليردّ على المتحدث من الطرف الآخر.. لقد جرت العادة ألا يستقبل أي مكالمة من رقم مجهول بالنسبة له، لكن إصرار المتصل على تكرار المحاولة للدرجة التي استفزّت المجموعة الجالسة حول طاولة الاجتماع، جعلت عبد الحفيظ يردُّ أخيراً: - عفواً.. من يتحدث معي؟ قالها هكذا، دون أن يردَّ تحية المتصل. - معك اللواء طه عبد الرحمن مدير عام الشرطة. قبل أن يكمل، كان عبد الحفيظ قد نهض من على الكرسي الدوّار، وبحركة لا شعورية جرّ الكارفته تدريجياً إلى أسفل، قائلاً: - نعم سيدي.. تفضل، ما الأمر؟ ليس من عادة عبد الحفيظ أن يطيل المكالمات، لقد تعلم هذه العادة من سنوات عمله بالولايات المتحدة أثناء تدرّبه في إحدى الشركات هناك، بعد أن أكمل دراسته في الهندسة المدنية، قبل أن يعود إلى الخرطوم قبل شهر من الآن، لينشِئ شركة للمقاولات بإمكانيات مادية كبيرة. بدا له أن الضابط مرتبك وغير قادر على الإفصاح، ولثوانٍ ظلّ صامتاً، فيما كانت المجموعة الأجنبية الجالسة ح...

هل نضب الخيال؟

إشكاليات الذائقة الفنية والتلقي الجمالي عند العرب عماد البليك: منذ أن قدم الشاعر التونسي أبو القاسم الشابي أطروحته الجمالية حول "الخيال الشعري عند العرب" وخلص إلى أن الأدب العربي لا ينظر إلى المستقبل ولا ينفذ إلى صميم الأشياء وأنه "كلمة ساذجة" فإن الموقف لا يغادر موقعه، فالإشكاليات لاتزال قائمة إلى اليوم، والبحث عن تحرير الخيال لا يزال معطلا، كما أن الذائقة الفنية والجمالية تقاوم معوقات متجذرة يبدو الفكاك منها صعبا رغم الانفتاح الذي أتاحته الوسائط الحديثة للتلقي والمعرفة.  وإذا كانت مائة سنة تكاد تفصلنا، عن أطروحة الشابي، أي ما يقارب القرن، فالسؤال القائم ما السبب الذي عطّل مشروع الإنتاج والتلقي الجمالي عند العرب، ولماذا هم إلى اليوم يتعاملون مع العالم على أنه أقرب إلى المسطحات والثنائيات منه إلى شيء عميق له أبعاد متعددة وأوجه متنوعة، وهذا ينطبق على الممارسة الفنية كما ينجر بدرجة أوضح على استقبال الرسائل الجمالية أو الفنية، سواء أنتجت في محيط عربي أو عالمي. كانت فكرة أبوالقاسم الشابي تقوم على الخلاصة التالية: "قد انتهي بي البحث في الأدب...

Notebooks of Maladies

  Translated by   ELISABETH JAQUETTE 1—Idiot The oldest boys in the neighborhood—“bullies,” as our Egyptian neighbors would say—chased that boy… chased me .   I’d long been obsessed with watching Egyptian TV shows and films, sneaking into the cinema to see them because in our house it was forbidden… “forbidden, boy, to go there.ˮ According to my mother, grandmother, and the other women in the neighborhood, screens are the devil’s handiwork: they corrupt good boys and girls. Of course, they’re poor women, without an ounce of luck.  Since we’ve mentioned girls, the truth is that I’m as afraid of them as of the boys who chase me, but it’s another type of fear. It’s more like dread, the idea of standing in front of an incredibly beautiful girl and saying to her, as people do, “I love you.ˮ I’ve practiced a lot in the bathroom while masturbating, but nothing’s changed; white water flows, mixing with the poorly made soap, and in the end, I realize that I’ve lost the i...