"في داخل مخيّ يتجول، كما في شقته، قط جميل، عذب وفاتن. قط
بالكاد تسمع له صوتاً حين يموء «إنه روح المكان الأليفة، يحكم، يترأس، يلهم كل
الأمور في مملكته، هل تراه الجن أم تراه السيد الكلي الحضور؟"
الشاعر الفرنسي بودلير
-1-
كعادته
يعشق بالتوس التسكع في شوارع المدينة، مع الفجر. يشاهد الشمس وهي تشرق بين بنايتين
عاليتين قريبا من جسر يؤدي إلى الناصية الثانية من الشارع الذي يقع فيه مسكنه.
كان
يسير بهدوء، متأملا ماذا بإمكانه أن يرسم اليوم، ربما تولد لوحة جديدة في الذهن مع
تهاويم هذا الصباح الباريسي، المعطر برائحة ذكريات قديمة، لكن احتمالات الميلاد
دائما ما تصعب ساعة يبدأ في الرسم. تحديدا عندما يمسك بالريشة ويحك رأسه عدة مرات
بأصبع واحد ثم أصبعين، هما متورمان هذه الأيام لمرض غامض.
يكره
بالتوس زيارة الطبيب، فقط عندما يتعلق الأمر بقطه الذي فقده قبل عدة سنوات؛ فلا
تردد أبدا، فهو سيسارع إلى حمله في صندوق صغير بعد أن يفرش له ورد معطر من حديقة
السطح في البيت، وسيكون بعد دقائق قليلة أمام عيادة الطبيب البيطري نيرون، ذلك
الرجل القاسي كأسلافه.
يفهم
قسوة نيرون، غير أنه لا بديل عنه، فالكل يشهد له بوصفه الطبيب الأكثر شهرة في هذه
المنطقة على الأقل إن لم يكن في عموم باريس، فرنسا.
مرة
قرر بالتوس أن يرسم نيرون على هيئة قط سيء المزاج، وبدأ في اللوحة فعلا، وتوقف
ساعة أندلق اللون الأزرق على أرضية الغرفة، فرسم أشكالا مفزعة.
وإذا
كان بالتوس كثيرا ما يخاف فقد توقف ولم يفكر أبدا في نيرون القاسي مرة أخرى. وفهم
الأمر على أنه غضب من القطط. تلك الكائنات التي يدرك تماما أن لها كيمياء خاصة في
رؤية العالم والتواصل معه، بخلافنا نحن البشر.
"كم
نحن متعجرفون.. وندعي أننا نفهم كل شيء"
قال
بالتوس لنيرون، وهو يفحص القطة بعد أن مدت لسانها برحابة وكأنها لا تعاني من وهن.
لم
يعلق الطبيب البيطري الأحمق، كما تخيل بالتوس، فالحماقة تسكن في كل كائن يتعامل مع
الكون على أنه خلق من أجلنا وحدنا. ولم يصمت الرسام أسرع للقول بغضب ممزوج
بإبتسامة ساخرة:
"كم
نحن تافهون!"
فهم
نيرون الإشارة البسيطة من بالتوس، لكنه لم يرد وتظاهر كما لو أنه يحضر حقنة بنج
أخرجها من الثلاجة المجاورة للرف الذي كان يجلس فيه كتاب بغلاف صغير. قرأ بالتوس
العنوان العريض بالخط الأحمر المموج "راينر ماريا ريلكه". "هو
ديوان شعر إذن" قال لنفسه.
كان
يرغب في الثرثرة مع نيرون عن الشعر، وكيف أن القطط مثلت محور اهتمام في حياة
الشاعر الألماني ريلكه، مثلما هي محور اهتمامه هو شخصيا بالتوس. لكن الطبيب لا
يرغب في إضاعة الوقت فقد أومأ للزبون بأن العلاج قد تم، عليه أن يأخذ قطه ويغادر
على الفور.
"كانت
عيناه تشعان شررا، وفيه من صفات قط متوحش، قطط كتلك التي سكنت سهول سيبريا وعرفت
كيف تتعامل مع الطقس البارد"، كان بالتوس يكلم نفسه وهو يغادر من الباب
الفولاذي الكبير، محييا الزبائن الجالسين مع كلابهم وقططهم.
-2-
كتب
ريلكه: «منذا الذي يعرف القطط حقاً؟ هل يمكن لكم أن تقولوا إنكم تعرفونها؟ أما أنا
فأعترف بأن وجود القطط كان دائماً بالنسبة إليّ فرضية ثمة مجازفة كبرى في التأكيد
عليها... ترى أوَليس على الحيوانات، كي تنتمي إلى عالمنا، أن تتوغل فيه بعض الشيء،
إن عليها، ولو بنزر يسير، أن تخضع لنمط عيشنا, أن تتساهل معه، وإلا فإنها ستمضي
وقتها وهي تقيس، نصف معادية نصف خائفة، تلك المسافة التي تفصلها عنا. وستكون تلك
هي طريقتها في إقامة العلاقة مع الإنسان. ترى هل كان الإنسان معاصراً لها في أي
لحظة من اللحظات؟ إنني أشكك في هذا. فقط أؤكد لكم انه يحدث في بعض الأحيان أن يقفز
قط جاري عند الغسق، عبر جسدي، أما متجاهلاً إياي تماماً، أو كي يبرهن على أنني غير
موجود».
عُرف
الشاعر الألماني راينر ماريا ريلكه المولود بمدينة براغ التشيكية في العام 1875منذ
صباه المبكر بحساسيته المفرطة إزاء العالم المحيط به، وميله الشديد إلى العزلة والانقطاع
إلى التأمل. وبعدما تأكد من عدم قدرته على الانضمام إلى حياة الجماعة قرر أن يحيا حياةً
بوهيميةً متفردة عمادها الشعر والفنّ والترحال، حياة متوغلة في الوحشية كالقطط.
قطعا
كانت حياة ريلكه معقدة، وقطعا لم تكن القطط هي كل شاغله، لكن تأمله العميق وكونه
شاعرا جعل منه يرى في الحيوانات لاسيما القطط كائنات لها القدرة على ابتكار
عوالمها الخاصة، وحتى بوهيمية الشاعر التي عاش بها كانت تستمد جزءا من نسيجها
وألفتها من كونه تأمل كثيرا في القط.. هذا محتمل .. ولكن المؤكد أن التأمل يكسب الإنسان المعنى ويقرّبه من خواص
الأشياء والكائنات، وليس ذلك النظر الخطي الذي يعيش به أغلب الناس. وهذا ما جعل
ريلكه مختلفا سواء مع القطط أو الحيوانات بشكل عام أو الشق الحيواني الأكثر جراءة
على القول بأنه ليس حيوانا، أي الإنسان.
ربما
قبل أن يأتي بالتوس ويتخصص في رسم القطط، لم يكن ثمة أحد يعرف شيئا عن مشاعر ريلكه
الحميمة اتجاه تلك الكائنات التي امتزج تاريخها الحقيقي والمجهول أيضا، بالكثير من
الأساطير من عصر الفراعنة وما قبله وإلى التاريخ المعاصر.
ما
فعله بالتوس الفرنسي المولد والمنحدر من أصول بولندية (1908 – 2001) أنه أعاد
الحياة لعبارات شاعرية كان قد كتبها ريلكه ذات يوم، ربما حتى ريلكه نفسه لم يكن
مشغولا كثيرا بما قال، وربما نسيه مطلقا، لكن بالتوس كان قد وجد ذلك النص واستند
عليه في ترتيب أموره كرسام يبحث عن الشهرة، التي وجدها فعلا.
قليل
من النقاد ناقش تجربة بالتوس على أنها اكتسبت نجاحها في تحويل أشعار ريلكه إلى
رسومات، وهي حيلة يلجأ إليها الكثير من الفنانين لكنهم لا يقولون هذا الشيء، خشية
الفضيحة، أو الاتهام بأنهم مجردون عن الخيال. لا أعتقد أنه هناك فنان جدير
بالاحترام يمكن أن يلعن نفسه وفنه ويقول أنا سرقت الفكرة المعينة. وهناك شعراء
يفعلون العكس يسطون على اللوحات من عصور مختلفة يتأملونها كثيرا ويحولون رؤاهم
البصرية إلى قصائد.
لم
يمارس بالتوس التخفي ولم يكن مداهنا كان جرئيا في الاطراء على ريلكه، وكثيرا ما
أفصح في حوارات صحفية أنه عاشق كبير لريلكه، وأنه استفاد من تجربته ومن عوالمه
الشعرية، أيضا كان يمر على ذكر بودلير وحديثه عن القطط. الغريب لا أحد اهتم، أعني
النقاد!. وهو أمر يكشف أن النقاد هؤلاء أناس لهم وصفاتهم الخاصة بهم وأنهم يبتكرون
عوالمهم ونصوصهم عن الفنون والنصوص من خلال ذواتهم، هم في الواقع لا يطرحون حلولا
تكشف النص كما يقال كثيرا، لأنهم لا يفكرون في النص الذي أمامهم وهم يكتبون، إنهم
فقط مشغولون بما يمكن أن تقوله أنفسهم، وفي هذا الجانب هم متحررون من تهمة
الفضيحة.
من
الجوانب التي لا يعرفها إلا قلة، ربما قلة هم أكاديمون متخصصون بدرجة بحتة في
أعمال بالتوس ومسيرة حياته، أن بالتوس كان قد حاول في بداية حياته أن يمارس لعبة
النقد، وقد كشف أحدهم – لم تسعفني الذاكرة لتذكر اسمه - في دراسة معمقة نشرتها
جامعة السوربون قبل عدة سنوات عن "ميثولوجيا القط في الحضارات القديمة"،
أن بالتوس كتب أكثر من نص نقدي حول أشعار ريلكه، كان محورها نظرة ريلكه للحيوانات
بشكل مركزي.
لم
ينل بالتوس إذن حظه كناقد، كان من الممكن أن يغير في مسار النقد الأوروبي الفرنسي
الحديث، إن لم يغير النقد في أوروبا بشكل عام. وهنا يقول ذلك الأكاديمي على ما
أذكر "كان صحيحا بدرجة ما أن ريلكه أُعُفِي من اكتشاف عظيم.. نعم ريلكه معروف
ومكتشف .. لكن ما كتبه بالتوس وفي صفحات موجزة كان مؤثرا وعميقا.. لكن الواضح
والمؤكد أن التاريخ في كافة أطيافه ثقافة وفنا وسياسة تحركه أمور لا نفهمها نحن
البشر".
كان
الأكاديمي يتحدث عن محرك سري أو خفي للتاريخ الإنساني.. ومن العبث أن نقول أن هذا
السر وراءه القطط.. كما قال بالتوس مرة..
-3-
لم
يكن نيرون سيء المزاج بالدرجة التي كان يتخيلها بالتوس، فهو مرح وبشوش وقادر على
إضحاك أصدقائه وهم يجلسون في نادي ليلي قريبا من قوس النصر.
كان
الأصدقاء ينتظرونه بفارغ الصبر ليس لأنه سيضحكهم فحسب، بروايات مطولة فيها كثير من
الاختلاق عن مهنته التي يدور عالمها حول بشر يخدمون الحيوانات وليس العكس، كما جرت
العادة. بل لأنه كان أيضا شاعرا، وكانت أشعاره أيضا تثير الضحك.
كان
يسمي نفسه "ريلكه" تيمنا بالشاعر العظيم، ولا أحد من الأصدقاء اقتنع
بهذه العلاقة المتوهمة بين شاعر حقيقي وآخر مزيف، لكن نيرون لم يكن يبالي بأقوالهم
ولا ضحكاتهم أو حين ينفضون وهم سكارى في منتصف ليل نهاية الأسبوع، وهم يسبونه بشكل
واضح.. ويغنون أغنية شاعت في تلك الأيام تتحدث عن رجل لا يفقه في الشعر يقول أنه
يمكن أن يكتب أطول قصيدة حب في العالم لأجل محبوبته، ويسافر في قطار إلى بلد بعيد
ليلتقي المحبوبة، لأنه أقسم أنه لن يكتب أي حرف قبل أن يستأذنها، وساعة يصل تخبره
أنه وصل في الوقت المناسب لأن القصيدة التي كان من المفترض أن يكتبها هي موجودة
قبل أن يفكر فيها، فقد سمعتها منه كاملة في الحلم ليلة أمس، وتبدأ في قراءة
القصيدة التي حفظتها عن ظهر قلب وهي نائمة.
لم
يكن نيرون يفهم علاقته بهذه الأغنية لتصبح سبة له آخر الليل، ولاحقا بعد إلحاح
أخبره أحدهم بالسر: "شاعر هذه الأغنية طبيب بيطري مثلك لكنه شاعر
حقيقي!"
يشعر
نيرون بالغيظ، ويقرر ألا يقرأ أي قصيدة جديدة كتبها، بعد اليوم، على الأصدقاء،
لكنه وبعد أن يلحون عليه وبعد أن يكون قد سكر، يتحفهم بالمزيد من الأشعار التي
ستضحكهم مجددا.
الآن
وبعد أن غادر بالتوس العيادة فإن نيرون شعر بضيق من نفسه، فهو يعرف من يكون
بالتوس، لا أحد محترم في فرنسا يجهل هذا الفنان العبقري، لكن مصيبة نيرون أنه
أحيانا يصير حيوانا، كما يصفه نفسه كثيرا في ساعة صدق يجلسها مع ذاته.
كان
شعوره بالضيق بسبب أنه لمح اهتمام بالتوس بديوان "ريلكه" الموضوع على
الرف، فمجرد الإشارة للشعر تذكره بأصدقاء الليل وسخريتهم منه. وأدرك نيرون أن
الفنان عاشق القطط كان يريد أن يدير حوارا ما عن الشعر والفن، وعندما لم يجد
تجاوبا آثر أن يحفظ ماء وجهه ويخرج بصحبة قطه المريض.
قال
نيرون لنفسه: "كانت ساعة مناسبة لكي أتلقى درسا في الفن.. فالشعر والرسم هما
شيء واحد كما أتصور.. وكان ممكنا لبالتوس أن يوفر لي الطريق إلى كتابة قصيدة جادة
بحيث لا يكون هناك مزيد من الضحك في نهاية الأسبوع".
وقرر
اللحاق بالفنان، لكن الوقت كان قد مضى، وعليه أن ينتظر عودته مرة ثانية إلى
العيادة، فحتما سوف يمرض القط مرة أخرى، أو قد لا تتحسن حالته.. المهم أنه عائد..
ويفكر
نيرون: "لو أنني أعرف أين يسكن، لذهبت إليه في الليل... لكنني للأسف لا
أعرف!"
يتذكر
فجأة أنه سجل عنوان المنزل على دفتر المراجعات الطبي وهو إجراء روتيني يقوم به،
وقد غفل عنه لدقائق.. كيف حدث ذلك؟
"يا
لك من مغفل يا نيرون"، يكلم نفسه بصوت مرتفع قبل أن يدخل الزبون الجديد بصحبة
كلب ضخم الجثة على يده اليمين وقط على اليسار. وراقب نيرون المشهد كما لو أنه إحدى
لوحات بالتوس، لاسيما مع مشهد الرجل بكرشه الممتدة وقميصه الأصفر وشاربه الغزير،
ورائحة صابون الحمام المعطر بالجوافة، وكأن الزبون خارج من تحت الدش للتوّ.
قال
ضاحكا دون أن يسمعه الرجل "لا أعتقد أن ثمة لوحة معطرة"
-4-
ربما
لا يدرك الكثيرون ومنهم أنا، قبل أن أعرف ذلك قبل عدة أسابيع أن بالتوس دخل
اللوفر، بعد حياته، أعني أن لوحاته أصبحت جزءا من هذا المتحف الكوني. وأسميه كوني
لأنه ببساطة يجسد تاريخ الإنسانية، ذاكرة الريشة والفنانين الذين أفنوا حياتهم
لأجل أن يكون الفن هو سر الحياة، لغزها ويكون أيضا المفتاح الذي تنفك به الأسئلة
الكبيرة. وإلى جوار لوحات فنانين عباقرة كدافنشي كانت لوحات بالتوس تبدو غريبة أو
مربكة بعض الشيء، ولك أن تتخيل أو تشاهد بصورة واضحة إذا زرت اللوفر، ذات يوم، أو
ستزوه إن قدر لك ذلك. أن تلك القطط البرية والبوهيمية والسيامية وغيرها كانت تجلس
بهدوء في اللوحات دون أن تحرك أذنابها. ولك أن تتخيل أيضا أن ذنبا يظل مفرودا
لسنوات طويلة في اللوحة طبعا، دون حراك.
في
السابع عشر من فبراير من عام 2001، كانت وفاة بالتوس، وفي سبتمبر دخلت مجموعة من
لوحاته المتحف بعد إشارة من الرئيس الفرنسي جاك شيراك الذي لم يكن فنانا أو يفهم
كثيرا في الفن، لكنه آثر أن يعمل بوصية رئيس الوزراء ليونيل جوسبان الذي رأى أن
دخول بالتوس إلى اللوفر سيعطي إشارة جلية لأولئك الذين يرددون بصمت وأحيانا بصوت
عال أن فرنسا عنصرية، وأنها لم تعد ذلك البلد الذي فجّر أكبر ثورة إنسانية في
العصر الحديث، وأنها أيضا لم تعد تهتم بالفنون والثقافة أو تشكل منارة لها.
كان
جوسبان، قارئا جيدا بخلاف شيراك الذي عكست عنه وسائل الإعلام صورة لم تكن صحيحة
مطلقا، فقد روجت له صحف كلموند كبرى الصحف الفرنسية صورة المثقف العملاق، وكان
الأمر مضحكا لمثقفين كبار حقيقيين في فرنسا كانوا يكتفون بالسخط المثير للشفقة على
ما وصل إليه الإعلام الفرنسي من سوء. ويوم مات بالتوس، قالت الصحف أن شيراك رثاه
وأعلن أن فرنسا فقدت إنسانا عظيما وفنانا عملاقا، لكن ما وراء ذلك كان الهمس، أن
شيراك لا يعرف من هو بالتوس وربما لم يسمع عنه أصلا إلا ساعة أخبروه بموته، ولم
تتجرأ صحيفة واحدة على التصدي لشيراك "الكذّاب" كما كتب صحفي فرنسي كان
يرمز لاسمه بـ "س.د" كان يحرر صفحة في الملحق الأسبوعي لللموند، وقد سطر
الصحفي رأيه على شكل خطرفات يمكن أخذها بمحمل الجد لمن يقرأها بغير المعنى المباشر
الذي يمكن أن يفهم للوهلة الأولى.
بغض
النظر من كان صاحب فكرة إدخال لوحات بالتوس إلى اللوفر .. ولا أعتقد أن ليونيل
جوسبان كان دافعه نبيلا أو أنه لم يكن عنصريا.. فإن "بالتازار كلوفسكي دي رولا"
وهو الاسم الكامل لبالتوس، ولحسن الحظ مات في سويسرا، وبعيدا عن الأضواء، وهذا
الأمر خدمه كثيرا، لأنه لو مات في باريس، لكان قد أصبح نسيا منسيا، وهذا الرأي
يقول به الكثيرون، من أصدقاء بالتوس القدامى الذين يعلمون تماما الظروف التي جعلته
يهاجر من فرنسا ليقضي سنوات عمره الأخيرة في الريف السويسري.
يعلم
الجميع أن أصول بالتوس تعود إلى بولندا، وأنه مهما فعل ليثبت أنه فرنسي أصيل، فلن
يكون ذلك، لأن الفرنسيين مهما قدموا من احترام للغرباء والذين أصبحوا جزءا من
نسيجهم وصاروا مواطنين يحملون الهوية الفرنسية، إلا أن هذا الشعب يظل أكثر عنصرية
من الألمان الذين افترى عليهم التاريخ الحديث بوصفهم أكثر شعوب أوروبا تعجرفا وحب
للذات ولوطن غامض ينتمون إليه مهما ابتعدوا عنه.
لهذه
الأسباب.. كان بالتوس يشعر بالوحشة كثيرا حتى وهو يعرض لوحاته في معارض متنقلة في
باريس أو مدن فرنسا الأخرى، بما في ذلك مرسيليا الساحلية حيث كان الناس هناك ولا
يزالون طيبي الخاطر، وفيهم من روح الألفة وأوروبا القديمة. كان يناقش الناس ويتكلم
معهم حول أعماله ويتحدث كثيرا عن معنى الحيوانات في حياة الإنسان بشكل عام والقطط
خصوصا، وفي غرارة نفسه كان يسخر كثيرا: "الحيوان هو الذي يكون مثلي ويعيش في
بلد يجرده من الإنسانية".
وإلى
حد ما فقد كان بالتوس يحن كثيرا إلى بولندا رغم أنه لم يولد فيها، ولم يزرها
كثيرا، لكن فلسفته في هذا المقام تقوم على القلب أكثر من العقلانية، كان يقول
"إن مسقط رأس الأجداد هو المكان الذي ينتمي إليه المرء ويحن إليه.. فمهما
حاول الإنسان أن يقول إنني ابن هذا البلد أو ذاك، إلا أن عليه الصدق مع الذات..
وللفنان بوجه خاص يصبح الموضوع أكثر تعقيدا".
لا
أحد أضاء هذه الجوانب من حياة بالتوس بشكل مشبع، لكن النقطة المهمة التي قتلت بحثا
أن أكبر دليل على إحساس بالتوس بالغربة في فرنسا أنه اختار أن يبني لنفسه سياجا
وأن يعيش مع القطط أكثر من البشر، وأن يشكل عوالمه وفنه من تلك الكائنات التي كان
يعتقد جازما أنها ليست جديرة بالحب فحسب، بل أن تاريخها قد يكون أهم بكثير من
تاريخ البشرية لو أن بحوثا جادة ومدفوعة بميزانيات ضخمة قامت في إطار النبش في هذا
الجانب، أموال طائلة كتلك التي تنفق على أبحاث الفضاء بحثا عن الحياة في كواكب
أخرى.
-5-
كانت
ستينات القرن الماضي مسرحا لسيادة ثقافة نخبوية في فرنسا تشير إلى القطط على أنها
شيء مركزي في الحياة، ولا يعرف أغلب الباحثين من أين جاءت هذه الفكرة وانتشرت
سريعا، والإشارة إلى باحثين فيها بعض الحذر، لأن الدقة أن البحث نفسه أصبح مسألة
مثار شك في النصف الثاني من القرن العشرين، لأن كثيرا مما يكتب في الجامعات بشكل
خاص كان مدفوعا بأسباب نفعية، فقد بدأ الأكاديميون يفقدون بريقهم القديم وصارت جامعات
كالسوربون تصدر أناسا هم تجار أكثر من انتمائهم لخدمة الإنسانية.
في
تلك الفترة وكان بالتوس في الأربعينات من عمره، ظهرت فرق غنائية كثيرة تسمي نفسها
بمسميات مستمدة من كلمة قط.. قطط.. مثل فرقة "ملك القطط".. "قط في
الريف".. "قطط برية" .. "القط المقدس"... كانت ظاهرة
ألهبت حماس الكثيرين ليعيدوا التفكير في أهمية هذه الكائنات الصغيرة وإمكانية أن
تلعب دورا في مستقبل الكرة الأرضية.. وكان الأمر يبدو لو نظر إليه بشكل جاد كما لو
أنه تهويمات أو صرعة سرعان ما ستنتهي.. وهو ما حدث فعلا.. لأنه بمجرد أن دخلت
فرنسا السبعينات لم يعد أحد يتذكر كل تلك الفرق، حتى الذين أحبوا هذه الفرق
الغنائية وعشقوها من شريحة الشباب، سرعان ما بدأوا في الشك، هل كان ذلك حقيقة أم
حلم، وقد كان بالتوس نفسه أسير هذه الصرعة، لكنه كان يعرف ما لا يعرفه الآخرون أنه
السبب وراء ما جرى، والواقع أنه لو صرّح بهذا الشيء لوسائل الإعلام لقالوا إنه مدع
وكذاب.
وكان
بالتوس أيضا قادرا على التمييز الجيد، لاسيما في قضية هؤلاء الأكاديميين
المنتفعين، ويتذكر جيدا ذلك الاحتيال الذي تعرض له عندما تمت دعوته ذات ليلة ليقدم
محاضرة في السوربون عن لوحاته وتجربته بشكل عام. ولنا أن نتخيل المشهد، ففي ذلك
المساء تعرض بالتوس لإهانات لا يعلم بها إلا الله. كان قد وقف في المدرج يحمل
الميكروفون وهو يقول للطلاب "مساء الخير" ووراءه جلست نسخة للوحة
"ملك القطط" والتي رسمها في سن مبكرة ومكتوب تحتها اسمها.
وقبل
أن يسمع أي رد على تحيته، كان هتاف قوي قد انطلق من وسط المدرجات، "السارق..
اللص.. المأفون.. الغريب... " وغيرها من مفردات بذئية يصعب على إنسان محترم
أن يتفوه بها. وبالطبع كان بالتوس يكلم نفسه: "لا يمكن لمكان مثل هذا أن
يخرّج أجيالا قادرة على إعادة قراءة العالم أو تفكيكه بحيث يكون أفضل مما هو
عليه".
تعامل
بالتوس مع المشهد على أنه كوميديا وأن الذين يصرخون بصوت مرتفع هم صبيان صيع من
نسيج ما يمكن أن ينتجه بلد ينحدر للهاوية كفرنسا، ولم تمض دقائق حتى ارتفع
الهتاف.. واقتحمت مجموعة من الطلاب المسرح بآلات موسيقية وطبل، وبدأوا في الغناء
على طريقة فرقة "ملك القطط" لكنهم شوهوا أول مقطع من الأغنية الأولى،
والتي تحمل شعار الفرقة المشهورة، وهي الأغنية التي تتخذها الفرقة شعارا لها..
وتحمل اسم الفرقة.. أي "ملك
القطط". وسرعان ما تحول تلك الليلة إلى جحيم في حياة بالتوس بعد أن أسرع بعضهم
إلى ضربه بأحزمتهم وهم يفكونها من بنطاليهم بشكل هيستيري غير متصور، وكانت رائحة
الخمر تفوح بما لا يصدق في قاعة الدرس.
كان
بالتوس يطارد نفسه إلى أن اختبئ في أحد الحمامات الخارجية التي تجاور سكن عمال
النظافة، ومن هناك قفز بعد نصف ساعة من النافذة ليقرر بعدها إلا يدخل هذا المكان
مرة أخرى حتى لو أن جنة الخلد أقيمت عنده.
ولكن
إلى هنا لا يتضح أي احتيال، فكيف فكر بالتوس في ما جرى على أنه كذلك.. في الواقع
لم يكن الأمر واضحا بالنسبة له، حتى صباح اليوم الثاني وهو يطالع الصحف، ليرى
صورته وهو يحاول تجنب ضرب الأحزمة. كانت الصور الفضيحة قد عبأت الصحف، لاسيما
جرائد التابلويد التي لا هم لها سوى الإثارة وبلبلة مشاعر الناس.
كانت
أخبار الليلة مكتوبة بطرق مختلفة، لكن خبرا وحيدا هو الذي جذب انتباه بالتوس، حيث
ذكر محرره أنه تلقى معلومات من مصدر مسؤول بالجامعة رفض التصريح باسمه تفيد أن
سماسرة يعملون في مزادات الفنون واللوحات أردوا التجريح ببالتوس وأنه سارق أفكار..
وقد بدا الأمر جليا من تلك اللوحة الكبيرة التي علقت في الخلفية "ملك
القطط" ومن متواليات ما جرى، أن يُقدِّم هؤلاء الطلاب أغنيات فرقة "ملك
القطط" في إشارة لا تحتمل التأويل أن بالتوس يسرق أفكاره وعلى الملأ، ولم
يتركوا له الفرصة ليتكلم أو يدافع عن نفسه، ليقول لهم "متى رسمت لوحة ملك
القطط". لا أحد يريد أن يسمع وقد كان الطلاب معبئين تماما من الأساتذة
المنتفعين.
كان
التفسير واضحا بالنسبة لبالتوس، ولأنه لم يكن يهتم بالجانب التجاري كثيرا، فقد
تناسى الأمر، لكنه فهم أن صيته الذائع في تلك الأيام، وتهديده للفنانين الفرنسيين
في السوق، ومزادات الفن كان سببا مشروعا للانتقام منه بهذه المسرحية السيئة
الإخراج، والتي شارك فيها الطلاب ككومبارس نجحوا في أداء دور الأبطال. وهكذا يتم
تفريخ مئات الطلاب الذين يظنون أنهم يحملون معرفة للعالم أو جديدا أو أنهم قادرون
على التفكير وهم في الواقع يؤدون أدوار "كومبارس" سيئة الإخراج.
"يا لسخف الحضارة"، لم يكن أمامه سوى ترديد هذه العبارة، وهو يطوي
الصحيفة ويرمي بها بعيدا في سلة القمامة، قبل أن يشعل غليونه، متأملا الدخان
مرتفعا في نهار شتاء بارد.
كان
المذياع بجواره يبث الأغنية نفسها التي كانت نكدا عليه ليل أمس.. "أغنية ملك
القطط".. وكان المذيع قد قدم الأغنية بقوله: "هناك من يظنون أنهم
عباقرة.. وأنهم يملكون الكون.. وهم بشر طبعا.. لكن دعونا نسمع ماذا يقول ملك القطط
في هذا الشأن".
ولم
يسمع بالتوس باقي تقديم المذيع، فقد كانت الرسالة واضحة، أن الحرب النفعية لم تنته
هناك في قاعة الدرس، بل امتدت إلى المذياع والله أعلم أين ستصل، وقرر رغم كل ذلك
أن ينسى.. فالمستقبل وحده كفيل بأن يقرر من يكون الفائز، عزى نفسه بهذه الكلمات،
واستمع للأغنية بكل هدوء والدخان يتصاعد:
"لو
أنني ولدت في أي كوكب آخر
لكنت
ملكا بحق
ولكن
هنا في هذه الأرض الملعونة
حيث
يسكن البشر
لا
مجال لي كي أتمتع بالملذات
فكل
ما أحلم به، وما أحبه،
وكل
ما أراه جميلا ويكسبني الطمأنينة
يسرعون
إلى قطفه قبل أن يثمر،
هم
لا يتمتعون به ولا أنا
فبأي
شريعة يؤمنون،
إنهم
مجرمون هؤلاء القساة،
لكنني
رغم أنفهم ملك.. ملك.."
-6-
حفظ
جيل الستينات خاصة الشباب والمراهقون أغنية "ملك القطط" عن ظهر قلب،
وقلة منهم كانت تعلم أن بالتوس هو الذي قال بهذا الاسم قبل سنوات من ظهور الفرقة
التي حملته ونشرت هذه الأغنية التي كان يرى فيها جيل جديد على أنها عنوان للفتوة
والافتخار باسم فرنسا، فقد روجت مجلات "سمجة" بمنظور بالتوس، لهذه
"التفاهات" وعلى رأسها مجلة "تان تان" التي كانت تخاطب
المراهقين والتي كانت تقدم قصصا مرسومة، اعتمد أغلبها في تلك الفترة على استيحاء
تلك الأغنية وعكسها على أنها صورة فرنسا في مقابل بقية العالم، ففرنسا هي القط،
الملك الحقيقي، وباقي الشعوب هي الشر، هم البشر الباحثون عن الملذات والترهات،
والفرنسيون هم الباحثون عن الحقيقة.
فالمقطع
الأخير من الأغنية يقول:
"مهما
فعلوا وأدعوا واستمتعوا
فإنني
سوف أنتصر عليهم
هم
لا يعلمون من علمهم الحرية
ومن
قال لهم كونوا سواسية
إنه
القط الذكي .. الملك العبقري"
لم
يتوقف هوس القطط في الستينات على الشباب وصغار السن، بل شمل الكبار أيضا، لا نعني
هؤلاء الأكاديميين النفعيين لأنهم كانوا لا يحترمون أنفسهم، حتى يحترمون القطط أو
يحبون فرنسا، فهم لا يحبون بمنظور بالتوس سوى المال والشهرة الجوفاء. المعنيون هم
السياسيون، فقد كانت السياسة وما زالت تستقي من الهوس العام للناس، وتحاول أن
تقولبه لصالحها. وفي تلك الفترة يتذكر بالتوس جيدا، كيف أن شارل ديغول الذي حكم
فرنسا طوال عقد الستينات ساهم إلى حد بعيد في سيادة روح العداء لكل ما هو إنساني،
وحوّل فرنسا إلى بلد مغلق على نفسه. لم تكن نتائج ما فعله واضحة وقتذاك ولكن بعد
عقدين فقط كانت فرنسا المتعجرفة قد فقدت إيمانها بالحريات والقيم وإحترام الآخر.
كان
الفرنسيون ينظرون إلى ديغول على أنه الأب الروحي لما يسمى بـ "الجمهورية
الفرنسية الخامسة" التي بدأت مع توليه الحكم في 8 يناير 1959، وظل يحكم إلى
28 أبريل 1969 وتوفي بعدها بسنة في 1970. وقطعا كان الرجل مثار احترام وتقدير
عندما يتعلق الأمر بكونه ذلك الجنرال الذي حرر فرنسا من الجيوش النازية أثناء
الحرب العالمية الثانية، لكن عندما تولى حكم البلاد كان سيئا للغاية، بالغ السوء،
لقد دمر أي مستقبل كان ينتظر بلده.
كان
ديغول يطلق الشعارات من لندن وأشهرها: "أيها الفرنسيون لقد خسرنا معركة لكننا
لم نخسر الحرب وسوف نناضل حتى نحرر بلدنا الحبيب من نير الاحتلال الجاثم على صدره"..
ونجح بشعاراته وبحماسه وبطولته في إلهاب قلوب أبناء شعبه، بما فيهم المنتمين
لفرنسا أمثال بالتوس، لا أحد كان يكره فرنسا وقتها وهو يعيش على أرضها الا أن يكون
جاسوسا أو غبيا. لكن ماذا حدث بعدها؟ لقد بدأت الكراهية تسري كالنار في الهشيم،
وكان الجنرال البطل نفسه، السبب في ما وصل إليه الحال من سوء.
عندما
تزور فرنسا وإذا كنت تعيش فيها سوف ترى إلى أي حد ينظر الفرنسيون إلى ديغول كما لو
أنه كائن مقدس... نصف إله.. ملك القطط.. فكثير من المرافق الحيوية تحمل اسمه،
وكذلك الشوارع.. ومحطات القطارات.. وأوضح مثال مطار ديغول الدولي، بوابة باريس
وفرنسا إلى العالم. لكن قلة تقف بشجاعة لتتحدى هذا الزيف، وتقول: كفى!!
أحد
الأصدقاء الجزائريين ممن يعيشون في فرنسا على أنهم من مواطنيها روي لي أنه يشعر
بالخزي أن يكون فرنسيا، لكن ماذا سيفعل إذا كانت بلده لا تمنحه الحرية ولا الإحساس
بالحياة.. هذا الصديق مرهف وحساس إلى حد بعيد ويفهم في الفن، وفي الفلسفة وفي كل
شيء تقريبا، لكن مصيبته أنه ظل مضطهدا، ومثار سخرية، لأن اسمه "ديغول"..
فحتى أقرب أصدقائه من الفرنسيين الأصليين كانوا يهمسون أنه لا يستحق ان يأخذ صفة
الجنرال الشجاع.. وايضا كيف لنا أن نتخيل ان عربيا مسلما اسمه ديغول.. ديغول
المناور والمخادع الذي أقلق حياة الجزائريين ذات يوم.
قصته
طويلة.. ووالده كان تاجرا، منتفعا، كان أكاديميا أيضا ودافع عن مشروع فرنسا
الاستيطاني في الجزائر ومات غير مأسوف عليه بشهادة ابنه عندما تلقى رصاصة على صدره
من عقيد فرنسي دخل إليه في مكتبه بالجامعة وقال له: "توقف عند حدود أدبك..
فرنسا لا تحتاج للمزيد من المنافقين أمثالك". لم أتعرف كثيرا على خطوط القصة
وملابساتها.. وظل الابن "ديغول".. وقد كان بإمكانه أن يغير اسمه، لكنه
خاف.. لا أحد يغامر في فرنسا حتى اليوم ليجهر أنه لا يريد أن يصبح ديغولا..
كان
ديغول قد جاء لإنقاذ وضع متعفن وبعد أن ابتعد عن الحياة السياسية بعد نهاية الحرب
العالمية الثانية عاد إليها برغبة من رأوا فيه البطل المنقذ، وبعيدا عن التفاصيل
التي توفرها مراجع التاريخ، فإن الرجل أسس دستور الجمهورية الخامسة، التي بدأ معها
انهيار مشروع فرنسا الحديثة. وقد اختلف الباحثون في تقييم الرجل وسياساته لاسيما
اتجاه القضية الجزائرية، مهما يكن فإن الجانب المذكور هنا دائما بالنسبة لبالتوس
أن ديغول استخدم 42 ألف جزائري "كفئران تجارب" وهم من السكان المحليين وأسرى
جيش التحرير وهذا يمثل أقصى صور الإبادة الهمجية. ويرى بالتوس أن ما يفسر قيام
فرنسا بهاتين التجربتين هو إصرار ديغول على أن تصبح فرنسا القوة النووية الرابعة في
العالم خلال هده الفترة.
بمعتركاته
المتعددة وتحدياته لإنقاذ فرنسا من جملة تورطات جعلت منها أبشع من النازيين الذين
حاربتهم ذات يوم وطردتهم من أرضها.. مع كل ذلك كان ديغول يظن أنه "ملك
القطط" وكان تلك الأغنية الشبابية المفضلة بالنسبة له، ولم يكن يخفي ذلك
الأمر، فعندما التقاه صحفي شاب وأجرى معه حوارا في منتصف الستينات بدلا من يسأله
عن القضايا السياسية الكبرى أو محاولة الاغتيال التي جرت له في مطلع أيام حكمه
بسبب ثوار الجزائر والتي ما زال البعض في حيرة حول أسبابها الحقيقية، بدلا عن ذلك
سأله أي أغنية يحب أن يسمع، وماذا يأكل في وجبة الإفطار، فرد على السؤال الثاني
بأنه لا يحب البيض. أما السؤال الأول فكانت الإجابة التي كان يبحث عنها الصحفي
والتي فضل أن يختار منها عنوان الموضوع الصحفي.. "ديغول عاشق القطط".
كان
شيئا مثيرا.. أن تتحول فرنسا لأضحوكة، دون أن تدري بذلك.. فالكثيرون كانوا يضحكون
في صمت.. وكثيرون هنا لا تعني المئات..لانه ساعة يتعلق الأمر بالضحك الناتج عن
المعرفة، فكثيرون تعني بضع عشرات.. منهم بالتوس طبعا.
ولا
تنتهي القصة هنا.. لأن ديغول الذي لم يرغب أن يفصّل بخصوص وجبة الإفطار، وأعطى
إجابة معممة وغامضة "إنه لا يحب البيض".. ولم يقل ماذا يأكل بالضبط..
كان قد شرع في تفصيل غرامه بالقطط..
كان
بالتوس يقرأ الحوار، دون أن يحدد مشاعره، كان ضجرا كما أتخيله.. وأيضا أخذت
الصحيفة طريقها إلى سلة القمامة.. "فالصحف لا تكتب سوى التفاهات".. هذه
هي نظرية بالتوس ونظرته عن الصحافة المكتوبة.. "إنها تشويه لحقائق الحياة..
ولا تخرّج سوى المزيد من الجهلة والأغبياء لفرنسا".
قال
ديغول: "من يدخل بيتي سوف يرى أنني احتفظ بأسطوانة في الصالة الرئيسية لفرقة
ملك القطط، غالبا ما أشغلها وأنا استعد في الصباح للذهاب إلى مكتبي.. هؤلاء الشباب
رائعون جدا.. إنهم يذكرونني بعظمة فرنسا.. صحيح أن زمن الملوك قد انتهى إلى
الأبد.. لكن أمثال هؤلاء الصغار الرائعين هم فخر لنا.. ولي أن أقول أنهم يشعرونني
بالفخر لأنهم يقدّرون ويبجلون من يعيشون معهم في الأرض، من مخلوقات.. أليست القطط
تستحق التقدير؟.. ألا ترى أنها لطيفة"
يتخيل
بالتوس أن الصحفي ابتسم وعدل نظارته الكبيرة، كما تبدو في الصورة المصاحبة للحوار،
ابتسم كمن حقق فتحا عظيما؛ لكنه لا يتخيل أبدا أن ديغول كان صادقا فيما قال.
تعليقات