واحد
داخل المكتب المؤثث
على طريقة عصرية، بديكور داخلي راقٍ، رنّ الهاتف النقال على الطاولة الخشبية لأكثر
من مرة قبل أن يضغط عبد الحفيظ على الزِر ليردّ على المتحدث من الطرف الآخر.. لقد
جرت العادة ألا يستقبل أي مكالمة من رقم مجهول بالنسبة له، لكن إصرار المتصل على
تكرار المحاولة للدرجة التي استفزّت المجموعة الجالسة حول طاولة الاجتماع، جعلت
عبد الحفيظ يردُّ أخيراً:
- عفواً.. من يتحدث
معي؟
قالها هكذا، دون أن
يردَّ تحية المتصل.
- معك اللواء طه عبد
الرحمن مدير عام الشرطة.
قبل أن يكمل، كان عبد
الحفيظ قد نهض من على الكرسي الدوّار، وبحركة لا شعورية جرّ الكارفته تدريجياً إلى
أسفل، قائلاً:
- نعم سيدي.. تفضل،
ما الأمر؟
ليس من عادة عبد
الحفيظ أن يطيل المكالمات، لقد تعلم هذه العادة من سنوات عمله بالولايات المتحدة
أثناء تدرّبه في إحدى الشركات هناك، بعد أن أكمل دراسته في الهندسة المدنية، قبل
أن يعود إلى الخرطوم قبل شهر من الآن، لينشِئ شركة للمقاولات بإمكانيات مادية
كبيرة.
بدا له أن الضابط
مرتبك وغير قادر على الإفصاح، ولثوانٍ ظلّ صامتاً، فيما كانت المجموعة الأجنبية
الجالسة حول طاولة الاجتماع تراقب التوتر في تفاصيل وجه عبد الحفيظ، الذي لم يستطع
أن يسمع باقي كلام اللواء، حيث سقط الهاتف على الأرض، وترنّح الشاب الذي يبدو في
منتصف العشرينات من العمر، ليسقط فاقداً للوعي، وسط المكتب.
ساد الاضطراب في
المكان، وتبين لأحد المشاركين في الاجتماع أن خط الهاتف لايزال يعمل، فتولى سماع
باقي إفادة الضابط، الذي أخبره بإنجليزية ركيكة:
- لقد أعلمته بأن
والده السيد عبد الله العربي قد تمّ اغتياله قبل ساعة تقريباً، في مكتبه بوسط
الخرطوم في حادث غامض.
واصل مدير عام الشرطة
الحديث، بصعوبة:
- نحن الآن نحمل
الجثة إلى المشرحة، لقد فارق الرجل الحياة بمجموعة كبيرة من طعنات الخناجر.
أخبر مستر بروك رفاقه
بما سمع، قبل أن يحملوا عبد الحفيظ في
السيارة بمشاركة عدد من المهندسين بالشركة، ويتوجهوا – جميعهم - إلى المستشفى.
في الطريق كان عبد
الحفيظ قد استعاد الوعي تدريجياً، غير مصدق لما سمع، وبدا له كما لو أنه يحلم أو
يعيش في مكان آخر غير العالم.
"هل مات والدي
حقاً.. ومقتولاً؟!".. سأل نفسه بين اليقظة والحلم، وذهب في تفكيره إلى تكذيب ما
سمعه من الرجل الذي اتصل عليه، حيث قال سراً: "ربما كان كاذباً.. أو أنها
لعبة ما يقوم بها شخص متهوّر يدّعي أنه مدير عام الشرطة.. هذا البلد تغيّر كثيراً
خلال سنوات غيابي، فقد بات كل شيء ممكناً.. بإمكاني تصديق كل شيء وبإمكاني أيضاً
أن أُكذّب ما سمعت".
حاول أن يسترجع نبرة
الصوت الذي سمعه، ويقارنها؛ في محاولة استرجاع أخرى؛ بصوت مدير عام الشرطة الذي يُخال
له أنه سمعه قبل يومين، يتحدث في التلفزيون أثناء الاحتفال بمناسبة ما، ليس بإمكانه
تذكّرها الآن.
لم يستطع أن يصل
لعلاقة مؤكدة بين الصوتين، لأنه لم يكن يهتم بسماع مثل هذه الأصوات التي لا تعنيه،
ولأنه نادراً ما يجلس أمام شاشة التلفزيون.. فقط كان يسمع في بعض الأحيان نشرات
الأخبار على قناة الـ "CNN"
الأمريكية، بعد أن عاد من الولايات المتحدة بطموحات كبيرة في بناء أكبر شركة للتنمية
العقارية بالسودان، بتمويل من مجموعة بنوك استثمارية أوروبية وأمريكية، ودعم معنوي
من والده الذي عُرِف على مدار أكثر من ثلاثين سنة كواحد من أشهر رجال الأعمال في
البلد، وربّما عموم القارة الإفريقية.
طوال لحظات التفكير
السريع مع الذات، والتنازع بين تصديق الوقائع أو إنكارها، لم يفتح عينيه، ولم يكن
يدري أين هو بالضبط!.. وفجأة عندما فتح طرف عينه اليمنى بصعوبة بالغة، فهم أنه في
الطريق إلى المستشفى، وأنه سقط على الأرض فعلاً بعد أن سمع أسوأ يمكن خبر أن يسمعه
في حياته.
خلال الأيام الأخيرة
وفي لقاءاته القليلة مع والده لاحظ عليه شيئاً من الاضطراب، هذا الأمر الذي لم
يفهمه إلا الآن، عندما وجد نفسه في المستشفى مُحاطاً بالناس من مختلف قطاعات
المجتمع وكافة الطبقات.
"كيف جاءوا بهذه
السرعة؟.. وكيف انتشر الخبر في الخرطوم؟"، لا يهتمّ بكل هذا.. فقط كان مهتماً
بمراجعة أخر مرة جلس فيها مع والده في صالون البيت الكبير، قبل يومين.
قال له الوالد بنبرة
مُودّعٍ، لم تكن مُدركة وقتها:
- عبد الحفيظ كنّ
حذراً، وأدرس الاحتمالات جيداً، لأي عمل تقوم به.
- ماذا تعني يا
والدي؟ فأنا من خلال دراستي وتجربتي بالولايات المتحدة أعلم جيداً أن أي عمل يكون
عبارة عن مخاطرة، مغامرة ينبغي على المرء دراسة كافة جوانبها.
- لا أشكّ في خبراتك
الإدارية من خلال ما تعلمته، ما أتحدث عنه أمر مختلف تماماً، فالناس الذين ستتعامل
معهم هنا تختلف طباعهم عن الأمريكيين، إنهم أذكياء في الابتزاز بدرجة لا يمكنك
توقعها أبداً.
لنصف دقيقة أو أكثر
صمت عبد الله العربي قبل أن يُكمل حواره مع ابنه:
- توقع كل شيء حتى
القتل.
تغيّرت ملامح وجه عبد
الحفيظ، مع الجملة الأخيرة، حيث لم يسبق له أن سمع كلمة قتل، أو موت، على لسان
والده من قبل.
"دائماً كان
الوالد مشحوناً بالتفاؤل والأمل وحب الحياة، فما السبب الذي يدعوه للنطق بهذه
الكلمة بالذات.. اليوم؟!"
سأل عبد الحفيظ نفسه،
لكنه لم يُعد التفكير في السؤال، الآن، في المستشفى، وسط ضجيج الناس، الذين كانوا
يحاولون سماع إفادات منه، تعليقاً على ما حدث.
بعضهم جاءت به
المجاملة الاجتماعية، والبعض جاء حتى لا يفقد مصالحه القديمة مع والده، ذلك لأننا
نعيش في بلد يكون فيه الابن هو ظل الأب والامتداد الطبيعي له، والبعض كان دافعه حبّ
الاستطلاع، فقد رأى عبد الحفيظ مجموعة من الوجوه المتداخلة التي لم يتعرف عليها،
ولم يسبق له أنْ رآها من قبل، والغريب أنهم كانوا يتحدثون معه كأنهم يعرفونه جيداً
منذ سنوات بعيدة.
أمر الطبيب المسئول
الجميع بالانصراف، وقال للصحفيين الذين تجمهروا في الغرفة الصغيرة:
- عفواً يمكنكم تأجيل
كل شيء فحالة الابن لا تسمح له بالحديث، راحته هي الأهم الآن.
أغلق الطبيب الباب
بإحكام، بينما ظلّ الضجيج في الخارج، في الوقت الذي كان فيه عبد الحفيظ يراجع ذلك
الحوار الأخير مع والده، والذي بدأ يفهم في هذه اللحظة أنه لم يكن ألغازاً أو
حديثاً لا معنى له: "فقد كان الوالد يتحدّثُ عن أمر قادم، رّبما كان يتوقعه
أو يعرف عنه، ولم يشاء الإفصاح عن تفاصيله إلى أن خرج المستور".
الأمر الوحيد الذي بات
عبد الحفيظ متأكداً منه، بعد أن وقعت الواقعة، أن الحديث مع والده لم يكن مجرد
حوار عادي، وصل إلى هذه النتيجة أخيراً: "لأنه بالنسبة لرجل مثل عبد الله
العربي لا تخرج الكلمات هكذا.. كل كلمة لابد أن تكون محسوبة بدقة، حتى مع ابنائه".
"لقد كانت للقدر
كلمته النافذة، لقد فهمت أخيراً"
قال عبد الحفيظ
لنفسه، قبل أن يغرق تحت تأثير حالة نفسية قوية من الألم والحزن، جعلته يعود إلى حالة اللاوعي مُجدداً.
اثنان
غادرت زينب مطار
الخرطوم عقب عودتها من لندن, بعد يوم واحد من اغتيال والدها. كانت ترتدي قميصاً أسود وبانطلون جينز، وتحمل في
يدها حقيبة صغيرة، وإلى جوارها طفلها ابن الثلاث سنوات, مهند.
وهي في الطريق إلى
بيت العائلة بحي الرياض في الخرطوم، غرقت في بكاء محموم ومتواصل، تزايّد مع توقف
السيارة ماركة مرسيدس موديل 2007 أمام بوابة البيت، حيث كانت بانتظارها مجموعة
كبيرة من النساء اللائي جئن لاستقبالها كمُعزّيات.
ارتفع العويل في
المنزل، مع دخول زينب الحوش الكبير، وبدأت بعض النساء في اللطم على الوجوه، فيما قُمنّ
أُخريات بالنواح بصوت عالٍ مُصطنع، تعبيراً عن حُزنهن الذي لم يكن صادقاً في الواقع،
فمن وراء المشهد كنّ البعض يتحدثن بهمس عن لباس زينب وأنها أخطأت كونها حضرت إلى
مأتم والدها بهذا الزي الفاضح، فيما قالت البعض: "إنها لا زالت مغرورة ومعتزة
بنفسها، حتى الموت لم يعلمها كيف تتواضع".
قُلنّ ذلك بعد أن
انزوت زينب داخل إحدى الغرف، ومنعت الجميع من مقابلتها أو توجيه العزاء لها، فقد
كانت في حالة نفسية لا تسمح لها بسماع أسئلة النسوة وسط عويلهنّ الذي أدركت أنه
ليس إلا من قبيل المجاملة المُدّعاة، ولم تسمح لإحداهن بالدخول، إلا لسارة التي
جاءت بعد نصف ساعة، مسرعة، بعد أن عرفت أن زينب قد وصلت الخرطوم.
سارة تدرك أن زينب حساسة جداً, وتدرك أكثر أنها
كانت مدللة من قبل والدها، الذي كان لا يتوانى في تلبية أي طلب لها منذ أن كانت
طالبة بكلية الطب قبل عشر سنوات.
أثناء سير الحافلة العامة
وسط الشوارع المزدحمة في منتصف النهار الحار، راحت سارة تعيد ذكريات تلك الأيام
القديمة في كلية الطب بجامعة الخرطوم، عندما كانت زينب تثير الجميع بملابسها
الغريبة ورغبتها المُلحّة في التحرر من كل تقليد وموروث، حيث كان البعض يصفها
بالفتاة المغرورة والمعتزة بوضعها المادي المميّز، والبعض الآخر يقول عنها أنها
ساذجة تعيش في نعمة.
سارة وحدها كانت أكثر
الطالبات اقتراباً من زينب, واستطاعت أن تبني معها صداقة قوية استمرت لسنوات
الدراسة، لكنها سرعان ما تلاشت بعد أن تخرجتا بشهر أو شهرين لا أكثر، لأن زينب
سافرت إلى لندن لتواصل تخصصها في مجال طب الأعصاب، فيما بقت سارة في الخرطوم تحاول
أن تحصل على وظيفة في أي مستشفى، دون جدوى.. وانقطعت العلاقة.
ورغم مرور الزمن،
كانت سارة لا تزال تحتفظ بصورة مثالية لتلك الأيام الجميلة، وكانت بحكم طيبتها
المبالغ فيها (كما يرى الكثيرون من حولها)؛ تجد لزينب الأعذار، فكلما جاءت مناسبة
أعادت الذكريات، أسرعت للردّ على من يحاول تشويه صورة صديقتها القديمة، بقولها: "لا
اعتقد أن زينب إنسانة سيئة، لكن الظروف هي التي تتحكم في الناس".
لقد كان يقينها في
مكانه، لأن زينب لم تسمح لأي أحد غير سارة بمقابلتها، والجلوس معها في هذا اليوم
العصيب.
لدقائق لم تتكلم إحداهما،
فقد كانت الدموع تطغى على اللقاء، وكانت الكلمات تفرّ من الألسنة.
رغم سيطرة الحزن على
مشاعر زينب إلا أنها حدّثت نفسها في تلك اللحظات بالندم على أنها لم تسأل عن سارة
طوال السنوات العشرة التي مضت، ولم تسعَ إلى مساعدتها بأي شكل كان، حيث كان
بإمكانها أن تفعل ذلك.
قطعت زينب الصمت بعد
أن جففت دموعها، بسؤال سارة:
- ما هي أخباركِ؟
- بخير والحمد لله..
واصلت سارة الكلام عمّا
حدث لوالد زينب:
- لقد كان خبراً مفجعاً،
هل كان الإنسان يصدق أن تحدث مثل هذه الجريمة البشعة في السودان؟!
لم تعلق زينب، فقد
كانت تفكر في حالة سارة من خلال ملابسها، فقد كان ثوبها من قماش متواضع السعر، وكانت
أطراف الثوب ممزقة بشكل واضح. وقطعت تفكيرها بأن سألت سارة من جديد، دون أن تنتبه:
- لا تقولي لي أنني هجرت العمل في الطب؟
لم تفكّر سارة في
مغزى السؤال، ولا في مظهرها هل يدلُّ على وضعها المادي أم لا!. اكتفت بأن ردّت قائلة:
- هذا ما حدث، أن
الطب هو الذي هجرني.. لكن دعينا من الحديث عن هذا الموضوع الآن، فنحن في وقت لا
يحتمل.
- تعنين رحيل
الوالد.. هذه هي سنة الحياة، ما الذي يمكن أن نفعله.. هو قدر الله؟
حاولت زينب أن تسأل
سارة أكثر من سؤال بخصوص وضعها الحالي وحياتها وأخبار عائلتها، لكن سارة هربت من
الأسئلة ووجدت أنه من العيب أن تُحوّل المأتم إلى حديث خاص عن مأساتها في الحياة. اكتفت
بالإجابة على سؤال واحد من زينب، يتعلق بزواجها:
- لم أتزوج حتى الآن.
ردّت وقد بدا على
وجهها التأثر والحزن.
فهمت زينب أن الأمر
لا يتعلق بالجمال، حيث قالت سراً: "سارة كانت من أجمل فتيات كلية الطب.. ولا
تزال جميلة".
توققت قليلاً
واستطردت مع نفسها: "يبدو أن هناك أسباباً أخرى سوف أفهمها لاحقاً، فمن الواضح
أن تضامن سارة الوجداني معي لا يسمح لها بالخوض في الأحاديث الجانبية، تلك التي
تخرج عن نطاق مقتل الوالد ونهاية حياته بهذه البشاعة".
عاود الصمت المكان،
في حين كانت أصوات النساء ترتفع في الخارج، وتبين من بعضها لهجة الاحتجاج على رفض
زينب مقابلتهن.
قالت إحداهن بصرخة
مسموعة:
- إنها مجنونة
ومغترة، يستحق والدها أن يموت بهذا الشكل.
سمعت زينب ما قيل، لكن
لم تهتم به، في حين تحركت سارة بشكل غير مفتعل.. قامت بفتح باب الغرفة، وصرخت في
النساء:
- كفى كفى، ألا يكفي
الحزن الذي تعيشه، أنكن بلا ضمير وبلا أخلاق.
كاد الوضع في حوش المنزل،
أن يسوء وأن يتحول إلى معركة بالأيادي، ووجدت بعض النساء في المشهد متعة تزودّهنّ
بقصص يمكن أن تُروى في مطلع الأيام المقبلة، غير أنَّ زينب حسمت الأمر عندما خرجت
من غرفتها بناء على إلحاح سارة وبدأت في استقبال التعازي من النساء المتجمهرات.
في دقائق كان العويل
قد إزداد في المكان، مع ارتفاع الهمس من قبل النساء في شؤون كثيرة تتراوح ما بين
الاستفسار: عن عدد الطعنات التي وُجِهت إلى صدر القتيل، وسبب خروج زينب بعد
امتناعها عن مقابلة الناس، والثروة الكبيرة التي خلّفها المرحوم لابنه وابنته
الوحيدين، وأقاويل أخرى تناقلتها بعض الصحف صباحاً تقول بأن اغتيال السيد عبد الله
العربي كان مُدبّراً من قبل أفراد يتبعون للحكومة.
ثلاثة
في نهار الحادثة، وفي
مكتب عتيق بعمارة آيلة للسقوط بوسط الخرطوم، عقد رئيس تحرير صحيفة
"المثلثة" (وهي كلمة تشير للعاصمة المكونة من ثلاث مدن: الخرطوم،
والخرطوم بحري وأم درمان، والتي تشكل سوياً أضلاع مثلث)، اجتماعاً مع فريق التحرير،
يطلب منهم ضرورة التحرك لجمع أكبر قدر من المعلومات عن حياة السيد عبد الله العربي
لنشرها في عدد الغد من الصحيفة.
قال لهم بطريقته في
الكلام والتي يراها المحررون غير مهذبة في بعض الأحيان، لكنهم تعوّدوا عليها:
- هذه هي فرصتنا
الوحيدة للتميّزعلى الصحف المنافسة، تعلمون أننا صحيفة وليدة، وقد جاء الوقت
المناسب لنحقق الانتشار.
علّق أحد المحررين:
- مهما فعلنا فلن نتمكن من جمع أكثر مما هو متوفر
للجميع، ما الذي تفكّر فيه بالضبط؟
حكّ رئيس التحرير
رأسه ليسود الصمت في الاجتماع، قبل أن يخرج بفكرة على شكل سؤال:
- ما الذي تتوقعونه
من الصحف الأخرى؟
- أن ينشروا الخبر مع
الصور التي وزعتها وزارة الداخلية، بالإضافة إلى تعزية رئيس الجمهورية، وبعض
المقتطفات عن حياة المرحوم، وربّما بعض الاستطلاعات مع عدد من الشخصيات المرموقة
في المجتمع والحكومة، ممّن كانت لهم علاقات بالراحل، أو أصحاب المناصب.
قال أحد الصحفيين ذلك،
فقاطعه رئيس التحرير :
- جميل جداً.. إذن ما
هو الأمر الغائب في هذه التغطيات الصحفية؟
سكت الجميع حيث لم
تكن لديهم إجابات محددة، وكانوا في انتظار ما سينطق به رئيس التحرير، هذا إذا لم
يتفوّه بكلمات عارية من الأدب كما تعوّد، لكنه خالف التوقعات وكان مهذباً، بقوله:
- اللياقة تستدعي مني
هذه المرة أن أكون جاداً، لقد مضى زمن الضحك، هيّا فكروا معي..
عاد للقول بلهجة أكثر تهذيباً من طريقته
المعتادة في التحدث بكلمات تافهة:
- أريد منكم أن تُشغّلوا
أدمغتكم المتعفنة، أن أرى خبراتكم، ثلاثة أشهر ونحن نصدر دون أن نحقق أي سبق صحفي
أو تميّز على أي صحيفة.
هذا المشهد جرى في
أكثر من صحيفة، لكن لا أحد حقق سبقاً على آخر، فالصحف كانت تصدر مستنسخة من بعضها
البعض، حتى لو أنها خرجت من مكاتب مختلفة وعقول متباينة الآراء.. وحتى تلك الصحف التي
تجرأت واتّهمت عناصر من الحكومة بتدبير الاغتيال، كانت تردد "أسطوانة مشروخة"
في تقدير بعض المتنفذين من كبار الشخصيات ورجال الأعمال، الذين كانوا يرون أن
خلافات السيد العربي مع الحكومة، بعد انشقاقه عنها قبل أكثر من عشر سنوات، لأسباب
غير مفهومة.. في طريقها إلى الحل، وأن القتيل كان على علم بذلك.. لكن أطرافاً أخرى
كانت ترى العكس: "أن الخلاف قد تأزّم بشكل شديد قبل يومين من الاغتيال"..
بإختصار لا أحد كان متأكداً من شيء.
الصباح الثاني حمل
مفاجأة غير متوقعة لرئيس التحرير الأستاذ حسن النصري، فقد دخل مكتبه في الساعة
العاشرة صباحاً ليجد شاباً مهندّماً في مقتبل العقد الثالث من عمره، ينتظره
في صالة الاستقبال الوسخة، رافضاً الإفصاح
عن السبب الذي جاء به، اكتفى بقوله لموظف الاستقبال بالصحيفة:
- لديّ معلومات مهمة تتعلق
بجريمة اغتيال رجل الأعمال التي وقعت بالأمس، لن أرويها لأحد غير رئيس التحرير.
أخبر موظف الاستقبال،
الأُستاذ النصري بإفادة الشاب، الذي رافق رئيس التحرير إلى مكتبه، وجلس بهدوء في
مقابل النافذة الرئيسة الكبيرة والوحيدة في المكتب، بعد أن وضع أمامه مظروفاً
ضخماً كان يحمله، قبل أن يبدأ الحديث:
- ما سأقوله لك
معلومات مهمة ودقيقة جداً، لكن قد تعتقد أنني مجنون أو فاقد للعقل، لكن مهما يكن
الأمر فإن ضميري أملى عليّ قول ذلك، كما أنني أحمل الدليل المُصّور معي (أشار إلى
المظروف).
- تفضل يا ابن
الـ....
كاد النصري أن ينطق
بكلمة من كلماته المعتادة، لكنه تراجع حرصاً على سماع إفادة الشاب، عسى أن تكون
ذات فائدة.
قبل أن يسرح في نسج
أحلام مستقبلية بشأن صحيفته التي وُلِدت بعد سنوات من الانتظار في قصة تطول
روايتها.. كان أن طلب فنجاناً من القهوة لضيفه.. جرّ من الدرج ورقةً وقلماً وأرهف
كلّ حواسه لسماع القصة.
أربعة
بعد خروج الشاب ولثلاث
ساعات كاملة، ظلّ الأستاذ حسن النصري في مكتبه، ومنع أيَّ من الموظفين بالدخول
إليه، حيث عاش في قلق مرعب جرّاء القصة التي سمعها، والموثقة بالأدلة التي لا تقبل
الشك كما فهم من خلال خبرته الصحفية.
تحرّك في المكتب
طولاً وعرضاً، يُحدّث نفسه بصوت عالٍ: "أنشر.. لا تنشر.. أنشر لا تنشر..!!".
في نهاية الأمر عندما
كاد رأسه أن ينفجر، صرخ: "أنشر.. ودا في (طيزي) لو كنت خائفاً من أحد"،
حيث رفع أصبعه الأوسط من اليد اليمنى إلى أعلى بشكل غير لائق، وأسرع ليبدأ تسجيل
الوقائع، بنفسه، بعكس ما تعود أن يُكلّف أحد المحررين بالكتابة. لكنه قبل أن يكمل
كتابة فقرة واحدة، نهض من مكتبه وشغّل جهاز الفيديو أسفل التلفزيون، ليشاهد للمرة
الثانية، الشريط الذي زوّده به الشاب، بعد
أن قال له:
- سأترك لك مشاهدته
بنفسك، بعد أن أخرج من مكتبك، وللعلم معي نسخة أخرى أصلية.
المشاهد التي يُصوّرها الفيديو لا تُصدق بحقّ
السيد عبد الله العربي، الذي ظلّ طوال عمره بسمعة حسنة في تقدير عامة الناس، ومثالاً
للرجل الوطني الذي خرج عن الحكومة بعد أن رأى المظالم التي تقع بحق الضعفاء من
أبناء الشعب، كما تردد وقتها. وكان آخرون يرون فيه: "رجل الخير الذي لا
يتهاون في مساعدة الفقراء ومدّ يد العون لهم، بعكس معظم الأغنياء الكبار الذي
عرفوا بالجشع المتزايد لدى العامة".
قطع النصري تفكيره
وتأملاته التي تقارن بين صورة المرحوم في عقول عامة الشعب وما يراه الآن بنفسه،
وهو يكاد يُجنّ مما يرى، للدرجة التي جعلته يغلق الصوت، مراقباً الصورة وكأنه ليس
موجوداً في المكان أو كمن يرى مشهداً في الأحلام والكوابيس.
حدّث نفسه: "أمس
كنت تتحدث عن السبق الصحفي الذي سيشهر صحيفتك، والآن تعيش حالة التردد.. يا
للمفارقة.. ما الذي تخافه بالضبط؟.. الحكومة أم المجتمع؟.. أم أن يطاردك أهل
المرحوم بقضية مطولة في المحاكم؟.. لكنك تملك الدليل.. هذا الشريط هو الدليل
الدامغ".
تشتت تفكيره وعجز عن
التوصل إلى قرار حاسم، وما جعله أكثر ذهولاً أن الشاب الذي خرج قبل أكثر من ثلاث
ساعات، كان غير خائف من أي ردّة فعل، بل قال:
- هذا رقم هاتفي
وعنوان سكني ولك أن تلتقط لي صورة وتنشرها إلى جوار الخبر، هذا إذا كانت شجاعاً
بما يكفي.
نظر له النصري بغيظ
مكتوم، وهو غير قادر على الردّ، وأخيراً سأله:
- ألا تخاف على مستقبلك
يا ابني؟
ابتسم الشاب، وقال موضحاً
موقفه:
- ما الذي سأخسره؟..
أنا خريج قانون عاطل عن العمل منذ خمس سنوات، وهذه فرصتي الوحيدة لكي أثبت أن
بإمكاني أن أكون محامياً ناجحاً.. هؤلاء الذين يسيطرون على السوق لا يملكون ذكاءً
أكثر مني.. صدقني ساعة تنشرون الخبر، وأنجح في الدفاع عن نفسي سوف يفيض عندي المال..
لن يعود أحد يتذكّر الماضي، لأن المال في هذا الزمن يمسح الخطايا مهما بلغت.
بعد ثوانٍ من الصمت،
قال الشاب مرة ثانية:
- إذا كنت صحفياً
تؤمن بالحقيقة فتلك هي فرصتك لكي تقولها، وتحقق النجاح لصحيفتك (المغمورة).
الكلمة الأخيرة استفزّت
النصري، لكنه لم يعلق، حيث نظر إلى وجه الشاب فرآه يبتسم ابتسامة عريضة مليئة
بالسخرية، وهو يُهزّ رِجلاً على الأخرى في وضع يدلُّ على الثقة بالنفس والثبات..
أكثر من ذلك يدل الوضع على: عقل لا يمكن التكهن بما يستبطنه. وهذا ما زاد من حيرة
الأستاذ النصري أثناء متابعته بنصف عين محتوى شريط الفيديو، وبنصف عين أخرى كان يُلقِي
نظرة على الصور الفوتغرافية للقتيل، وهو غارق وسط الدماء بمكتبه، تلك الصور
المنشورة في عدد اليوم من صحيفة "المثلثة"، الملقاة أمامه على الطاولة.
كانت لحظات صعبة ومشوشة
في ذات الوقت، لصحفي يظنُّ نفسه مخضرماً، قضى أكثر من عشرين سنة من عمره في
الاغتراب، وعمل في كبريات الصحف العربية، إلى أن عاد إلى الخرطوم ليُنشِئ صحيفته
الخاصة التي لا تزال محدودة التوزيع.
ما بين التفكير في
القيم والأخلاق لمجتمع يؤمن بستر الميت وعدم الخوض في عورات الناس، والتفكير في ما
تمليه الأمانة الصحفية، كان عقل النصري قد دخل في دوامة من الصداع النصفي، بحيث
بات غير قادر على اتّخاذ القرار.
نظر إلى ما بدأ في كتابته
على الورق، ليجد أن حالة من الرعب قد تلبّسته. وبشكل مفاجئ لنفسه قام بتمزيق
الورق، رمى به في السلة أسفل الطاولة، ثم أغلق الفيديو.
سحب الشريط المشؤوم من
درج جهاز الفيديو، رمى به في أحد الأدراج، متذكّراً ما قاله في البداية
"أنشر.. ودا في طيزي لو كنت خائفاً من أحد"، ليفهم أنه خائف، بل خائف
جداً، ولذا ليس بإمكانه أن ينشر الخبر.
المفاجأة الأكبر التي كانت تنتظره في اليوم
الثاني أن صحيفة أخرى قامت بنشر تفاصيل قصة شريط الفيديو دون الإشارة لحكاية الشاب،
لتنقلب الأمور في الخرطوم رأساً على عَقب جراء ذلك الخبر المثير والجرئ.
قرأ النصري الخبر في
الصباح، ليفهم أن هناك رؤوساء تحرير بالبلد أشجع منه بكثير، وقرر أن يحتفظ بتفاصيل
ما جرى معه، لنفسه، حتى لا يُتهم من قِبل محرري صحيفته بالجبن.. طالما تحدّث معهم،
دائماً، عن ضرورة تمتع الصحفي بالشجاعة التي لا يوقفها متسلط أو جاهل.
خمسة
أول ما فعلته السلطات: مصادرة الأعداد المتبقية بالسوق
،من الصحيفة التي نشرت الخبر.. حدث ذلك قبل السادسة صباحاً. الأمر الثاني: إصدار
قرار بإيقاف الصحيفة لأجل غير مسمى. أما الأمر الثالثفقد كان: إذاعة وبث بيان من
الحكومة في السادسة والنصف صباحاً، يؤكد أن: "ما نُشِر عارٍ من الصحة، وأنه
ستجري معاقبة الذين تسببوا في هذه الزعزعة الأخلاقية".
بالطبع.. كانت العديد
من النسخ قد وصلت للقراء، لينتشر الخبر في البلد بسرعة فائقة، خاصة بعد أن تمت
إذاعة وبث بيان الحكومة، الذي لم يُوضِح بالضبط محتوى ما نُشِر بالصحيفة، حيث
اكتفى بالإشارة إلى: "أن ما نُشِر غير أخلاقي ويمس بسمعة المرحوم السيد عبد
الله العربي".
إلى الظهر لم يصل الخبر إلى عبد الحفيظ، الذي ما
يزال على سرير العافية بالمستشفى، يستقبل المعزّين في العنبر الذي تحوّل إلى صالون
عزاء.
لم يكن لدى أحد
الجرأة ليعُلِمه بخبر سيء يمسُّ سمعة والده، فيزيد الطين بلة. لكن لا خبر يُدسُّ،
فقد كانت الحكومة (نفسها) هي التي قامت بإيصال الخبر، عندما وصل ممثّل لرئاسة
الجمهورية إلى المستشفى وطلب مقابلة عبد الحفيظ على انفراد ليخبره بما نُشِر
والقرارات التي اتّخذتها الحكومة بهذا الشأن.
أثناء جلوس ممثّل الرئاسة
مع عبد الحفيظ، وهو يسمع منه رواية لما حدث صباح اليوم، كان عقله قد شرد بعيداً في
استحضار لحظات متفرقة من سنوات قديمة في حياته، تتعلق بأمور حدثت لم يهتمّ بها
كثيراً، وظنّ وقتها أن ما فكّر فيه مجرد ظنون عابرة، لكنه الآن بات يعيد التفكير
في تلك الظنون، ويعيد تأويلها على أنها حقائق.
ففي ليل بعيد، قرّبته
ذاكرة (الابن) بعد أن سمعت ما قاله ممثّل الحكومة، جرت أحداث غريبة: كان عبد
الحفيظ عائداً من سهرة ليلية مع مجموعة من أصدقائه، كانوا يحتفلون بعيد ميلاد
أحدهم، وقد كان سكراناً تماماً نتيجة الإفراط في الشراب. وحتى لا يشعُر به والده
الذي ينام في الصالون الخارجي منذ أن توفيت زوجته ووالدة عبد الحفيظ، قبل أكثر من
سنة، قام الابن بإيقاف السيارة خارج البيت، ولم يدخل بها إلى الحوش الداخلي حتى لا
يثير إزعاجاً بفتح الباب الخارجي فيوقظ والده. يتذكّر أن الصالون كان شبه مضيء،
وليس من عادة والده أن يترك الإضاءة مشتعلة، حيث لابد له أن يغلق المصباح قبل
النوم. كذلك ليس من عادته أن يسهر إلى ما بعد منتصف الليل، فهو ينام مبكراً في
العادة.
اتّخذ عبد الحفيظ
طريقه نحو الصالون، ونظر من خلال الزجاج شبه المعتم إلى داخل المجلس الكبير، ليرى
مشهداً لم يُصدقه في البداية، وحكّ عينيه أكثر من مرة عسى أن يتخلص من تأثير السُكر
فيستطيع الرؤية بشكل أفضل، لكن في المرة الثانية لم ير شيئاً فمسح ظنونه وتأكد بأن
خيالاته كسكران رسمت الصورة الأولى.. صورة والده وهو يمارس العادة السرية أمام شاشة
التلفزيون الذي يعرض مشهداً لمجموعة من الصبية في أوضاع مخلة.. على أكثر
الاحتمالات فإن المشهد عبارة عن جزء من فيلم على شريط فيديو.
لم يطرق عبد الحفيظ
باب الصالون، ليتأكد هل كان والده مستيقظاً بالفعل أم لا، فقد رأى الإضاءة قد غابت
فجأة أو أنها لم تكن حاضرة أصلاً.. ليس بإمكانه التمييز. لكنه خاف أن يطرق الباب
فيعلم والده بأنه سكران، فيحدث ما لا يحمد عقباه. لذلك ذهب إلى غرفته بالطابق
العلوي من البيت، واستسلم للنوم. وفي الصباح تخيل أن ما رآه مجرد أضغاث، لأن
الوالد كان قد استيقظ مبكراً جداً كعادته ليؤدي صلاة الفجر في المسجد، لذلك نسي
عبد الحفيظ ما حدث أو ما لم يحدث. لم يكن يدرك وقتها، ونسي مع الأيام.
الآن فقط، أصبحت
المشاهد تتداعى أمامه، على أنها حقيقة. وتذكّر ما قيل له ذات مرة، وظنّه قولاً على
سبيل المزاح. كان ذلك من قِبل أحد أصدقائه عندما اختلفا بشأن فتاة ليلٍ من ينام معها
أولاً. تهوّر عبد الحفيظ وقال لصديقه الذي أصرّ أن ينام أولاً معها:
- لو جاء والدي لن
أتركه ينام معها قبلي.
ردّ عليه الصديق
ضاحكاً بسخريةً:
- ها.. ها.. هي.. وهل
تظنّه سيرضَ بالنوم مع جسد بثديين؟
"كم هو مؤلم أن
تكتشف الحقيقة متأخراً، وبعد أن يكون والدك في موقع لا يحسد عليه"، قال عبد
الحفيظ مُحّدثاً نفسه سراً، قبل أن يُودّع ممثّل الحكومة بتوهان وبرود شديد والألم
يعتصر قلبه، وهو في حالة من غياب التركيز في تفاصيل الأشياء من حوله، للدرجة التي
جعلته يفكّر لو أنه غاب عن العالم قبل أن يكون مقتل والده.
ستة
اتّخذ مرتضى طريقه إلى
المنزل القائم على ناصية الزقاق المتفرع عن الشارع الرئيسي، في وقت متأخر من
الليل، حيث كان في انتظاره النقيب فضل الله، وبمجرد أن التقت عينا الرجلين لم يكن
أمامهما سوى تبادل الابتسامات، ومن ثم الضحك بصوت مبالغ فيه، يكاد يشقُّ سكون ليل
الخرطوم في بيت من الطين على أطراف أم درمان، يحتل مساحة صغيرة.
قاد فضل الله مرتضى
من يده وسط صالة شبه مظلمة إلى أن وصلا غرفة صغيرة في نهاية البهو، كان بابها
مفتوحاً ويجلس بداخلها على أريكة خشبية متهالكة رجل ممتلئ الجثة يفوق وزنه مجموع
وزني الرجلين. كان يدخن بشراهة وهو يُبرّم شاربه الكثيف ويغني بصوت مبحوح أغنية
سادت في تلك الأيام لمغنٍ جديد من المغنيين الشباب، ولأن الرجل لا يحفظ كلمات
الأغنية فقد عمل على إبدال بعض الكلمات بأخرى من تأليف خياله.
أشار الرجل ضخم الجثة
لفضل الله بالجلوس، في حين بقي مرتضى واقفاً ينتظر الإذن له، لكن العقيد الضخم (ميسرة)
لم يأذن له، وبدلاً من أن يرد التحية التي وجهها مرتضى وحده، قال موّجهاً حديثه
للحائط:
- يبدو أن كل شيء
يسير وفق الترتيب.
فهم فضل الله أن عليه
الانتظار وعدم الاستعجال، فعادة العقيد أن يثرثر كثيراً مع نفسه بصوت مسموع لمن
حوله، قبل أن يشرع في الحوار المفيد والمطلوب. لكن مرتضى لم يكن يفهم ذلك، فهذه هي
المرة الأولى التي يقابل فيها العقيد، لذا علق قائلاً:
- الخرطوم كلها تتحدث
اليوم عن شريط الفيديو.
بشكل غير متوقع،
وبطريقة مفاجئة وقف العقيد ميسرة بسهولة
لا تشبه وزنه الثقيل، واستدار دورة كاملة عكس عقارب الساعة، لينهي الدورة بصفعة
قوية على خد مرتضى الذي وقع طريحاً على البلاط البارد.
تُعرف تلك الطريقة من
التعامل في مفهوم العقيد بالتأديب المبكّر، فهو يؤمن بأن المجندين الجدد في
المجموعة يجب ألا يشعروا بالأهمية، وينبغي أن يشعروا دائماً بأنهم ذباب لا قيمة له.
ومنذ أن تكونت الخلية السرية قبل عامين، كان العقيد ميسرة قد درّب أفراده على
التمرحل في التعامل مع القائد إلا في حالات استثنائية كحالة مرتضى، فشخصيته في
تقدير فضل الله تستحق التعامل معها بشكل مختلف احتراما لعقله الفريد.
بدأ مرتضى في الأنين،
وفهم في غرارة نفسه أنه دخل في مأزق لن يستطيع الخروج منه بسهولة، وراح يعاتب روحه
قائلاً: "يبدو أنني استعجلت في اتّخاذ القرار بالانضمام لهذه العصابة.. ويبدو
أنني كنت أكثر استعجالاً في تنفيذ أول أمر ُكلِفت به، بكل ثقة، في أن القائد سيعجب
بي وسيكافئني في أول لقاء لي معه، فها هو يقابلني بهذه الضربة القوية".
قبل أن ينهض مرتضى من
على الأرض، وفق أوامر النقيب فضل الله وبلهجة صارمة، بدأ معها - لمرتضى - كما لو
أنه شخص مختلف غير ابن عمته الذي يعرفه جيداً، كانت يدا العقيد الثقيلتين قد جرّتا
الجسد الخفيف مثل ريشة، ورفعتاه إلى أعلى. ونطقت شفتا ميسرة المتورمتين تقولان:
- مرحباً بك في
المجموعة وأعتقد أن لك مستقبل ناجح.
لم يعلق مرتضى فقد
أدرك من الدرس الأول الذي تلقاه قبل قليل أن عليه الصبر والاستسلام وعدم الخوض في
كلام غير مدروس، لكن العقيد لم يتركه حيث صفعه مجدداً وقال له بعنف:
- لماذا لم تعلق؟
هنا جُنّ مرتضى ولم
يعرف كيف يتصرف، "فهو أمام عصابة لا يستطيع المرء أن يتكهن بطباعهم أو يتوقع
ما يرغبون فيه بالضبط"، هكذا فكّر وحدّث نفسه: "يبدو أنني أحتاج لزمن
طويل لأفهم معنى كل سؤال وما المراد وراء كل إشارة". وكاد أن يسرح في أفكاره
بعيداً "ما بين الندم على استعجاله بالإنضمام لهذه الجماعة الغريبة، والرغبة
في الانتقام من المجتمع الذي حرمه من أن يحقق أحلامه رغم تمتعه بكافة شروط ومقومات
الإنسان الناجح والطموح"، لكن القائد لم يعطه الفرصة للسرحان فقد جلس مجدداً
على الأريكة الخشبية وأمره بالجلوس أخيراً، وبدأ في توجيه عدد من الأسئلة له،
تتعلق بالعملية الأولى التي كُلِف بها والتي نُفِذت بالأمس.
بمجرد أن شرع العقيد
ميسرة في الحوار، شعر مرتضى بأنه أمام شخص آخر غير الذي كان يصفعه قبل قليل، شخص
لطيف جداً يتندر من كل أشكال الحياة والعالم، نهم للمعرفة والإدراك ويتمتع بذكاء
خارق، طريقته في الحوار والمناقشة ذكّرت مرتضى بالبروفسيور ميرغني جبر السيد الذي
كان أستاذه بالجامعة، ذلك الرجل القادر على تأليف نظرية عن خلق العالم في دقائق
يقنعك بها ومن ثم يدحض النظرية ذاتها في أقل من زمن تأليفها، وبذات الطريقة
المقنعة في المنطق والبيان.
بمرور الوقت كانت
حالة مرتضى النفسية قد تعدلت ونسي الصفعتين القويتين وأحس أنه أمام عقيد يستحق
الاحترام بالفعل لمعرفته الغريبة والمدهشة، فحدّث نفسه بأنه لم يخطئ في اتخاذ
القرار، قال: "نعم أمثال هؤلاء الناس هم الذين يستحقون أن يكونوا على رأس هرم
المجتمع".
سبعة
قبل ثلاثة شهور ..
كان مرتضى سيد أحمد قد انضمّ للمجموعة التي تطلق على نفسها العديد من الألقاب
مثلاً: خلية، عصابة، جماعة تنويرية، وغيرها.. والتي نشأت بفكرة من ميسرة نور الدين
الذي بدأ حياته إسلامياً "متزمتاً" قبل خمسة وثلاثين سنة، ثم تحوّل إلى
اشتراكي ثم جمهوري يتبع لجماعة محمود محمد طه الذي أُعدم من قبل سلطة جعفر النميري
في 1985، وانتهى المطاف بميسرة أن يتخلص من كافة أشكال العقائد لتصبح عقيدته
الوحيدة هي المادة، المال بكل بريقه وسطوته.
وقد لعب عقله الوثّاب
وكثيرُ الأسئلة والمستفز بفكرة خلق العالم، دوراً في توصيله إلى حالة من التوهان
الذي لم يقدر على مقاومته في البداية، ليصل في الخلاصة إلى نتيجة مهمة في تقديره
أن على المرء أن يعيش من أجل المال لا غير
فهو الإله الحقيقي للعالم، والذي يستحق الصلاة بكل خشوع، ولأجل هذا "الإله الساحر"
يحل القتل وترويع الناس وفعل كل شيء. لكن لكي يحصل الإنسان على المال يجب أن يمارس
الانتقام أولاً، من كافة أشكال الرأسمالية والنفوذ الذي يمارس باسم المادة.
يطلق ميسرة على نفسه
لقب (عقيد)، ويوزع الألقاب على جماعته التي تعمل سراً دون علم الحكومة، بنظام شبه
عسكري، ويؤمن بأن عليه أن يفعل ما بوسعه لإرضاء إلهه الجديد بجمع كميات ضخمة من
الأموال، من رجال الأعمال والمتنفذين والرأسمالية الجديدة في السودان، وذلك
بممارسة كافة أشكال "العنف الذكي" كما يطلق عليه، وهي طريقة في الابتزاز
تقوم على تنفيذ جرائم لفعل هذا الشيء،
بحيث يجعلهم يعيشون الحالة على أنها تخصهم
وأنهم يقومون بعمل جميل من أجل ذواتهم لا من أجل الآخر.
وقد استفاد "العقيد" من تقنية العمل
الجماعي لدى الإسلاميين والاشتراكيين بالسودان في بناء نظام حلقي دقيق، بلغ عدد
المنتمين له ليلة اغتيال السيد عبد الله العربي 83 عضواً موزعين على ولايات
السودان، حوالي 60 منهم بالعاصمة الخرطوم، وتوجد بالمجموعة 13 فتاة وسيدتين متزوجتين، وجميع الأعضاء من خريجي
الجامعات ومن المتفوقين، الذين ضيّعوا سنوات في انتظار وظائف دون أن يصلوا إلى
نتيجة.
ونسبة لسرية العمل
وخشية اختراق المجموعة، فقد عملت على نظام صارم في تجنيد الأفراد، فهذا العدد تم
تجنيده خلال ما يقارب الثلاثة سنوات، منذ أن تحرّك ميسرة نحو هدفه في الربع الأول
من سنة 2004، منطلقاً بخلية صغيرة من الأصدقاء الذين التقوا حول الفكرة ومن ثم
تحولت إلى واقع عملي وبدأت في المراحل الفعلية التي ستجني فيها ثمار الانتظار،
حسبما يردد ميسرة كثيراً: "حتماً ستقترب ساعة الخلاص، بمجرد أن نبدأ في جني
المال سوف ستتغير حياتنا وسوف نسيطر في المستقبل على البلاد، وفي ذلك الوقت الذي
لن يكون بعيداً سوف نعيد بناء العالم الذي نحلم به، بعد أن نكون قد تخلصنا من كل
السماسرة واللصوص".
يتذكر مرتضى بدقة
الطريقة التي استدرجه بها ابن عمته فضل الله للإنضمام للمجموعة، حيث جاء تعميده
بعد رحلة استغرقت قرابة نصف العام، بعد أن تأكد فضل الله تماماً أن مرتضى يتمتع
بالمواصفات الكاملة التي تؤهله لدخول الخلية.
كان مرتضى قد أكمل
دراسة القانون بجامعة الخرطوم في سنة2001 بعد رحلة معاناة وشظف، وكان يظنّ كغيره
من الشباب الطامحين بأن الغد سوف يكون مضئياً بالأحلام الجميلة التي سوف تجد
طريقها إلى التحقق، وقد عجز طوال خمس سنوات أن يعثر على مجرد وظيفة تافهة، بعد أن
أكمل الخدمة العسكرية.
عمل في البداية
موزعاً للألبان في حي الثورة بأم درمان حيث كان يقطن مع والدته وأخته العانس سعاد
التي تجاوزت الأربعين بسنتين، وعمل ثانية في كشك لبيع المرطبات بالخرطوم بحري
وثالثة في مطعم بالسوق العربي، وطوال هذه التنقلات كان عاجزاً عن تدبير حياته
وحياة والدته وأخته العانس، لكن وضع الشقاء والألم لم يمنعه من مواصلة هوايته في
القراءة المتعمقة، حيث واصل مشروعه في مطالعة الكثير من الكتب التي تتعلق
بالمجتمعات الإنسانية والفكر والفلسفة والروح وتاريخ الإنسان والديانات، وكان كلما
قرأ كتاباً جديداً وصل إلى قناعة بأن ما يحدث في الواقع يجب أن يتغيّر، "لكن
ما هي الطريقة؟!" لم يكن يحمل إجابة معينة، إلى أن وصل به الحال إلى الكفر
بكل شيء، وكاد أن يدخل في حالة من التوهان المُدّمر، إلى أن قاده فضل الله
تدريجياً إلى دخول الخلية السرية.
كان فضل الله يزورهم
في البيت من فترة لأخرى، وفي الشهور الأخيرة ما قبل تعميد مرتضى كثرت زياراته
وأحياناً كان يبيت معهم في المنزل. وهو الآخر كان بلا عمل، حيث تخرج منذ أكثر من
عشر سنوات من كلية الهندسة المعمارية بجامعة الخرطوم، وقد فشل في الحصول على أي
عمل يُمكّنه من صنع حياته.
في تلك الليالي كانت تدور
حوارات مكثفة بين مرتضى وفضل الله حول ما يعيشونه من وضع بائس، وعن الأحلام
المؤجلة التي يبدو أنها ستتلاشى مع السنوات، وبالطبع لم يكن مرتضى يدرك أن لدى ابن
عمته خطة منظمة ومتدرجة لجرّه نحو الإنضمام للخلية، خاصة بعد أن أخذ موافقة مبدئية
من العقيد ميسرة على تجنيد ابن خاله.
مع مرور الأيام وبعد
حوالي الستة شهور انتهى الأمر بتوقيع مرتضى على عقد الانضمام للخلية في حفل مُصغّر
حضره أربعة من الأعضاء منهم فتاة، عرّفوا باسمائهم وذكروا ألقابهم العسكرية، حيث
كانوا من الصف المبدئي، ملازم، ملازم أول، ولم يدرك مرتضى هل كانت تلك الاسماء
حقيقة أم لا؟ لكنه لم ينشغل بهذا الشيء. لاحقاً فهم أن الاسماء كانت حقيقة وأن
هؤلاء الأربعة هم مثلهُ تماماً يعيشون أسوأ الظروف الإنسانية، وأنهم مستعدون لفعل
أي شيء من أجل المبادئ التي يصوغها القائد ميسرة، الذي كان كل منهم يحلم بلقائه،
وقد تحقق لمرتضى هذا الحلم اليوم، فها هو أمام الرجل الذي سمع من فضل الله عنه
كثيراً، "أمامه وليس ثمة خيال أو حلم، بل واقع يشبه الأحلام، عليه أن يستمر
فيه إلى النهاية المجهولة"، هذا ما قاله لنفسه سراً قبل أن يودّع قائده على
أمل اللقاء به في أقرب وقت يقوم النقيب بتحديده.
ثمانية
"لماذا تم
اختيار السيد عبد الله العربي دون غيره من عشرات رجال الأعمال والرأسماليين
السودانيين لتنفيذ أول عملية اغتيال، من قِبل قائد الخلية؟"
كان هذا السؤال يدور
في ذهن النقيب فضل الله ساعة أعلن العقيد ميسرة عن الاسم.
شرح ميسرة أسباب
الاختيار للاجتماع المصغّر لمجلس قيادة الخلية، والمكوّن من خمسة أعضاء فقط :
- تعلمون أن عبد الله
العربي يتمتع بشعبية كبيرة في البلد وكثير من عامة الناس يحبون هذه الشخصية
ويشيرون له كرجل وطني ساهم في الكثير من المشروعات التي تخدم الناس بشكل مباشر.
سكت ميسرة قليلاً، ثم
تابع:
- أعرف أنكم ستفكّرون
أن اغتيال مثل هذا الرجل ضد المبادئ التي نؤمن بها، خاصة أننا جميعاً نفكر في
البسطاء الذين هم أمثالنا.. لكن تفهمون جيداً أن التاجر العربي (هكذا سيصبح لقبه
لاحقا عند ميسرة) ليس إلا مجرد دجال يوزع الفتات على الشعب، إليكم الإحصائيات
التالية وهي دقيقة مائة بالمائة.
أمام العقيد ميسرة مجموعة من قصاصات الصحف
المتناثرة ويلاحظ أن جميعها صحف أجنبية مصورة من الانترنت، أشار إليها واستمر في
التوضيح:
- هذه المجموعة من
الأخبار والتقارير التي قام عضو نشط في الخلية بجمعها من الانترنت تبرهن قولي،
إليكم التالي على سبيل المثال:
• استثمر التاجر
العربي 75 مليون دولار في مجال الاتصالات بإفريقيا في أقطار شبه منسية، وكان ذلك
في حدود أقل من عامين.
*خلال العام الماضي قام بتبرع لجامعة في ساحل العاج
بمبلغ خسمة ملايين دولار أمريكي..سنترك الحديث عن الأسباب!
*يكشف تقرير نشر قبل
ثلاث سنوات أن التاجر العربي يحتل قائمة أبرز الاسماء المرشحة لتولي منصب رئيس
غرفة التجارة الإفريقية التي وُلِدت كمشروع لم ير النور بعد، وذلك على هامش
اجتماعات الاتحاد الإفريقي في أديس أبابا، ويذهب التقرير إلى أن فكرة الغرفة
التجارية من بنات أفكار التاجر العربي وأنه دفع ما لا يقل عن 30 مليون دولار
كرشاوي لدول إفريقية لتدعم مشروعه، الذي يهدف لمدّ نفوذ إمبراطوريته الخداعة.
لخص ميسرة فكرته
بالقول:
- في مقابل ذلك والذي
يمثل مجرد إشارات لما لا نعلمه، فإن حسبة
سريعة لمجموع ما قّدمه كأعمال خير بالبلاد - كما يدعي - لا يتجاوز المليون دولار
على مدار أكثر من عشرين سنة.
واصل العقيد بشيء من
الانفعال:
- السؤال الأهم من كل
ذلك كما يقولون (من أين لك هذا؟)، هذا الرجل ورث ثروة عن أبيه، بناء على صفقة تمت
قبل أكثر من مائة سنة بيعت فيها أرض الوطن للمستعمرين، وهذا أمر لا يعرفه إلا قلة
من الناس، لأن الخوض فيه سوف يقلق مضاجع الكثيرين ممن ينظرون لوالد التاجر العربي بوصفه رجل فضيلة
وخير وعلم من أعلام الكفاح الوطني، ممن سيقولون أنه في الواقع لم يحدث هذا الشيء،
لكن الحقيقة أن الجد كما الأب كما الحفيد الآن، جميعهم عصابة اغتنت بأموال باطلة.
والمشكلة أن مثل هذه المعلومات تمّ أخفاءها بهدف تضليل عامة الناس، لا سيما
البسطاء.. والذين مارسوا التضليل هم أصحاب هوى في أن يستمر الوضع على ما هو عليه
بالبلاد في سيطرة مجموعات معينة على الوضع الاقتصادي والسلطة، وللأسف فإن هذا يتمّ
باسماء مختلفة ولغات مضحكة، وفي النهاية فإن جملة هذه الجماعات التقليدية من أحزاب
وطرق صوفية وبيوت مزخرفة بالولاءات، كل هؤلاء ما هم إلا جزء من لعبة التضليل التي
تمارس على عامة الناس الذين يستمرون في الشظف والعيش على الكفاف وستر الحال.
انتهى العقيد ميسرة إلى
النقطة المهمة في تقديره والتي تمثل مدخلاً للتخلص من التاجر العربي:
- قلة تعرف أن التاجر
العربي رغم كل هذه الصورة المشرقة في نظر العامة، رجل مصاب بالشذوذ الجنسي، وقد
قمنا باستقصاء حول هذا الموضوع إلى أن وصلنا إلى التحقق من ذلك، وهذا هو المدخل
الرئيسي والهام الذي سنبدأ به صياغة الخطة التي ستمكّنا من القضاء على الرجل.
كان السؤال المطروح
من عضو مجلس القيادة، النقيب سفيان موسى، يتمثل في الهدف النهائي من وراء
العملية.. طرح السؤال على العقيد، فردّ قائلاً:
- حسب "المانفستو"
الذي تدركونه جيداً، فإن أول الخطوات في تمكين المجموعة تتطلب خلق بلبلة في الدولة.
نحن نعمل على استغلال المناخ الغير مستقر في البلاد لمصلحتنا، فنجاحنا في هذه
العملية سوف يجعل الكثيرون يفكّرون في الحكومة بوصفها هي التي قامت بهذا الشيء،
خاصة بعد أن ازدادت العداوة بين الرجل والحكومة، وأنتم تدركون أن الحكومة تمارس
تضييقاً على أعمال العربي بالسودان، الأمر الذي دعاه لنقل بعض استثماراته إلى
الخارج، وهناك أخبار نشرتها بعض الصحف مؤخراً تشير إلى أن هناك مفاوضات غير
معلنة مع ابن التاجر العربي الذي يدرس
بالولايات المتحدة بهدف زجّه في منصب
وزاري بالحكومة عقب عودته للسودان أو على الأقل محاولة احتوائه من قبلهم بهدف استخدامه كورقة ضغط على والده، ففي
نهاية الأمر لن تستطيع الحكومة الاستغناء عن التاجر العربي، رغم الخلاف بينهما،
والذي يرجع حسب معلوماتنا لصراعات مالية لا غير..
أشعل ميسرة سيجارة،
نفث دخانها في هواء الغرفة الصغيرة، واستطرد يقول:
-
أيضا ربما يذهب
الاتهام لجهات أخرى مثل الجماعات المتطرفة الوليدة في البلد والتي تفكر بعقل يؤمن
بنفي كل من يخالف أفكارهم العقائدية الغريبة، في الخلاصة نحن سنعمل على استغلال
كافة هذه المعطيات بهدف أن نُسيّر الأمور لصالحنا، ينبغي دراسة كل شيء بترتيب ودقة
قبل الشروع في العمل. وأخيراً فإن التاجر العربي بوصفه أكبر العنصريين الذين
يؤمنون بعروبة السودان ويحبذون شرذمة البلاد، لأن ذلك يخدم هدفه المادي البحت، فإن
موته سيفرح الكثير من أبناء السودان من غير ذوي الأصول العربية، فهم سيكونون في
غاية السعادة لموت واحد من العنصريين الكبار الذين يكرسون لعروبة السودان بالقول
لا الفعل، لأن المفارقة أن الرجل يُوظِف أغلب أمواله في الأقطار الإفريقية جنوب
الصحراء، لا البلدان العربية.
واصل ميسرة:
- في الخلاصة فإن
المطلوب في هذه المرحلة هو خلق حالة فوضى من خلال ما سنقوم به.. جعل الأطراف
الكبيرة تتناحر ذاتياً حتى تأتي اللحظة المناسبة لنا لنبرز كمُخلِّصين، لنفاوض على
ما نريد.. لا تنسوا أن هدفنا النهائي هو سعادة ذواتنا من خلال الثروة، وفي الواقع
سنتحول إلى رأسماليين جدد بلا أخلاق.. على الحياة أن تدخل دورة جديدة وأن يتم
إحلال لمجموعات متنفذة وبيوتات سيطرت على البلد لأكثر من قرن، هذا هو هدفنا
بالتحديد.
ختم العقيد الاجتماع
بقوله:
- فلسفة الانتقام هي
صميم رؤيتنا، ومن لا يفهم مآهية الانتقام الذي نعنيه، لن يفهم لماذا يجب علينا أن
نقضي على الرؤوس الكبيرة.. النظرية بسيطة ومعقدة في ذات الوقت، لكن أعتقد أن
الرجوع إلى (الكتاب التأسيسي) الذي من المفترض أن كل عضو قرأه قبل التعميد، يشرح
المسألة بوضوح.
انتهى الاجتماع بوضع
خطة مبدئية، طالب القائد الأعضاء بالعمل على تطويرها بالعصف الذهني الذاتي، على
أمل أن يكون الاجتماع القادم بداية التحرك العملي الحقيقي لرسم الخطة.
تعليقات
دا ايميلي لو ممكن ترسل لي الرواية